لم تكن الذكرى المئوية لوعد بلفور لتأتى فى وقت أسوأ من الآن بالنسبة للعالم العربي. التحديات الخطيرة التى تواجه معظم الدول العربية، بدءاً من الفقر والتطرف وحتى البطالة ونقص الموارد، تبدو ثانوية مقارنة بتحديات آخرى تشكل تهديدا وجوديا لدول على رأسها العراق وسوريا وليبيا.
الكثير من مشاكل المنطقة «ذاتي» تخلقه دول المنطقة لنفسها، لكن هناك تدخلات دولية لعبت دورا محوريا فى مصير العالم العربي. ووعد بلفور على رأسها، فقد غير مسار المنطقة وأدخلها فى صراع إقليمي-دولى لم تهدأ وتيرته منذ مطلع القرن العشرين. فالعنف الرمزى لوعد بلفور واستباحته الاستعمارية القاسية لجسد المنطقة ولد مشاعر رفض وكراهية للغرب وأسهم فى ولادة تيارات راديكالية عنيفة تنمو على فكرة الصراع الوجودى بين الشرق والغرب.
وقال المؤرخ البريطانى الكبير روجر أوين، أستاذ تاريخ الشرق الأوسط فى جامعة هارفادر الأمريكية فى حوار مع «الأهرام» : كان وعد بلفور عملا ناجما عن عقلية استعمارية عنصرية... فبوثيقة لم يتجاوز عدد كلماتها 67 كلمة، فتحت بريطانيا الباب لمعاناة إنسانية لا تطاق للفلسطينيين ولأطول وأكثر الصراعات تعقيدا فى الشرق الأوسط».
فخلال بحثها المحموم عن حلفاء خلال الحرب العالمية الأولى، أعطت بريطانيا وعودا متضاربة لأطراف مختلفة على أمل نيل دعمهم خلال الحرب. وعدت العرب بسيادة على أراضيهم فى حالة هزيمة الدولة العثمانية. ووعدت الفرنسيين بتقاسم المنطقة معهم بعد الحرب. ووعدت اليهود بإقامة وطن قومى لهم فى فلسطين.
ويقول أوين إن هناك تفسيرات عديدة للوعود المتضاربة التى قدمتها بريطانيا، من بينها أن الوعد كان «رمزياً» وأن المسئولين البريطانيين لم يعتقدوا أن بلادهم ستنتصر فى الحرب، وبالتالى لن تكون مضطرة للوفاء بكل هذه الوعود المستحيل التوفيق بينها.
أيا كان التفسير، كان تأثير وعد بلفور كارثياً ومازالت المنطقة تدفع ثمنه حتى اليوم.
وفيما يلى نص الحوار:
صدر وعد بلفور خلال الحرب العالمية الأولى، ومن الواضح أنه كانت هناك معطيات دفعت الحكومة البريطانية للتفكير فى مستقبل فلسطين التى كانت وما زالت جزءا من الدولة العثمانية. لماذا برأيك أصدرت بريطانيا الوعد والحرب الأولى فى أوجها؟
كان البريطانيون يريدون منطقة عازلة بينهم وبين الفرنسيين الذين كانوا يعتبرونهم عدو أساسيا فى المنطقة وذلك لحماية قناة السويس من هجوم فرنسى محتمل. ولذلك أرادوا جزءا من فلسطين، وأستفادوا من نفوذ مبكر للحركة الصهيونية فى لندن، معتقدين أن اليهود بوجودهم فى فلسطين سيضمنون مصالح بريطانيا فى تلك المنطقة المهمة.
إلى جانب السبب الواضح وهو إيجاد موطئ قدم لبريطانيا فى الشرق الأوسط، ما الدوافع المتشابكة وراء وعد اليهود بوطن قومى فى فلسطين. فمن المؤكد أن بريطانيا كان بمقدورها حماية مصالحها فى المنطقة دون وعد بلفور؟
الاعلان كان بادرة رمزية من الحكومة البريطانية إلى زعيم الطائفة اليهودية فى لندن اللورد روتشيلد. القرارات السياسية فى أثناء الحرب تتم لأسباب متنوعة، ربما لتحقيق مكاسب وقتية ولا يكون لدى السياسيين الوقت الكافى للتفكير فى عواقبها.
هل تعنى أن البريطانيين آنذاك لم يفهموا تماما المغزى السياسى للإعلان؟
لا أعتقد ذلك، فى رأيى أنه لولا هتلر، لما جاء إلى فلسطين عدد كاف من اليهود كى يشكلوا تحديا للسكان الفلسطينيين. فى رأى معظم يهود أوروبا آنذاك لو أعطى لهم الاختيار بين نيويورك وفلسطين لأختاروا نيويورك. لقد سعى ديفيد بن جوريون، أحد مؤسسى دولة إسرائيل وأول رئيس وزراء لها، بشكل حثيث مع قادة الحركة الصهيونية لإقناع اليهود بالمجىء إلى فلسطين التى كانت آنذاك مكانا صعبا.
كيف أعتقد البريطانيون والفرنسيون أن بإمكانهم الاستجابة لكل تلك الوعود المتناقضة؟
كانت بريطانيا تبحث عن حلفاء وقدمت ثلاثة وعود متناقضة متنافرة فى جوهرها. الوعد الأول لحسين شريف مكة وكان الوعد أنه إذا قاد ثورة عربية ضد الدولة العثمانية ووقف إلى جانب بريطانيا، فإنها ستساعده على إقامة إمارة عربية مستقلة بعد انتهاء الحرب. لكن هذا الوعد قضى عليه، الوعد الثانى 1916، والذى كان عبارة عن اتفاق بين البريطانيين والفرنسيين لتقسيم الشرق الأوسط بينهما (اتفاق سايكس -بيكو) على أن تبقى فلسطين تحت إدارة دولية منفصلة. أما الوعد الثالث والطعنة الكبرى، فكانت اعلان بلفور 1917، الذى وعد اليهود بوطن قومى فى فلسطين. إذن من الواضح تناقض هذه الوعود، لكن يجب النظر فى الظروف والملابسات التى فاقمت خطورة هذه التناقضات لاحقاً.
وعد بلفور وثيقة ضبابية أيضا، تبدو بسيطة لكنها فى الحقيقة أبعد ما تكون عن ذلك. هل تجد فى الطريقة التى صيغ بها مصدراً للتساؤل؟
الوعد لا يذكر كلمتى «عرب» أو «فلسطينيين» عند الإشارة إلى سكان فلسطين. بدلاً من ذلك يستخدم تعبير «الطوائف غير اليهودية المقيمة فى فلسطين»، برغم أنه كان من المعروف أن فلسطين يقطنها غالباً عرب مسلمون ومسيحيون. أما الفقرة الثانية منه فتنص على أنه «من المفهوم بوضوح أنه لا يجوز القيام بأى شيء قد يضر بالحقوق المدنية والدينية للطوائف غير اليهودية الموجودة فى فلسطين، ولا الحقوق أو الوضع السياسى الذى يتمتع به اليهود فى أى بلد آخر» (فى إشارة إلى حقوق اليهود السياسية فى أوروبا).
هل تعتقد أن التغاضى عن ذكر الحقوق السياسية لسكان فلسطين كان متعمدا فى الوثيقة، فى حين أن هناك إشارة واضحة فى الفقرة نفسها للحقوق السياسية لليهود؟
بالطبع هذا جزء من العقلية الاستعمارية لهذا الزمن. فالعرب لم يتم تعريفهم كجماعة عرقية تسكن فلسطين، كما لم يكن هناك ذكر لحقوقهم السياسية فى المقابل حدد وعد بلفور «اليهود كجماعة عرقية» تأكيد السياسية فى أوروبا.
لم يكن إعلان بلفور وثيقة قانونية، بل خطوة رمزية، كما قلت سابقاً. إذن لم يكن إنشاء إسرائيل نتيجة حتمية. من وجهة نظرك ما الذى حدث كى تتحول الخطوة الرمزية إلى نتيجة حتمية؟
باعتقادى أنه لولا هتلر واندلاع الحرب العالمية الثانية، لما قامت إسرائيل. أولا كانت هناك خلافات حادة بين اليهود حول إنشاء وطن قومى لهم فى فلسطين أو أى مكان آخر، فمعظم اليهود كانوا يرون أنفسهم أوروبيين ويفضلون البقاء فى أوروبا. وقد تعب بن جوريون فى إقناع اليهود بالمجىء إلى فلسطين. ومن كانوا على استعداد للمجىء كانوا الشباب الجاهزون للعمل الشاق والموت بسبب الملاريا أو الصراعات. فقط عندما وصل هتلر للسلطة، بدأ اليهود فى الهجرة بأعداد كبيرة إلى فلسطين. لولا هتلر والهولوكوست خلال تلك الفترة (الانتداب البريطانى على فلسطين) لا أعتقد أن وعد بلفور كان أو سيكون قابلاً للتطبيق فى فلسطين. فقد كان يمكن تأسيس وطن لليهود فى أماكن أخرى أو أى مكان آخر. فقط أقلية من الصهاينة المتدينين كانوا يعتقدون أن فلسطين يجب أن تكون الوطن القومى لليهود. أيضا ما أسهم فى تطبيق وعد بلفور هو عدم توازن القوى بين طرفى الصراع. فهزيمة الجيوش العربية فى عام 1948، كانت مواجهة بين «العالم الثالث» و»العالم الأول»، حيث وقف البريطانيون إلى جانب اليهود الأوروبيين. كان الصراع غير متكافئ.
باعتقادك كيف ينبغى على المجتمع الدولى إحياء مئوية وعد بلفور؟
كما فى كل المناسبات نحن بحاجة لتأمل الماضى وإعادة النظر إلى التاريخ. أعتقد أن إرث وعد بلفور ماثل أمام أعيننا اليوم. بالنسبة للفلسطينيين هذا الإرث هو الواقع غير المحتمل والظرف القاسى الذى يعيشون فيه. بالنسبة لى الموضوع الأكثر إلحاحاً هو غزة، فهى سجن كبير. وهذا ما يجب أن نفكر فيه الآن، وكيف يمكننا تحسين الظروف فى غزة.
معظم الفلسطينيين فى إسرائيل (عرب 1948) تخلوا من الأمل فى دولة فلسطينية الأن، وهم يحاولون الانخراط فى الحياة السياسية فى إسرائيل لتمثيل مصالحهم. لذلك فإن فلسطينىى غزة هم فقط من تركوا لمعاناة ذلك السجن الكبير. أنه وضع لا يمكن الدفاع عنه والعالم يحتاج إلى إيجاد حل له لتخفيف المعاناة الإنسانية للفلسطينيين.
وماذا عن فلسطينيى الضفة الغربية والقدس الشرقية، هل تعتقد أنه لا أمل فى قضيتهم من أجل دولة فلسطينية مستقلة برغم كل قرارات الأمم المتحدة؟
لا. لكننى لا أعتقد أن هناك أى مغزى من مواصلة الشكوى فى كون المرء ضحية، وتكرار أن الأمم المتحدة يجب أن تفعل هذا وتفعل ذلك. فهذا كله بلا طائل. الإسرائيليون، فى تصرف حكيم من وجهة نظرهم، يخالفون القرارات الدولية فى طائفة واسعة من القضايا. عليك أن تتحرك على الأرض بدل الشكوى.
كيف ترى مستقبل إسرائيل بعد 20 عاما؟
لا أعرف. هناك إسرائيليون عقلاء يدركون المخاطر ويعتقدون أن نتاج المشروع الصهيونى كان كارثيا. لكن حتى أكثر الإسرائيليين ليبرالية، يجب أن يتعايشوا مع دولتهم، يجب أن يذهبوا للجامعة ويخدموا فى الجيش. من الصعب الفرار من كونك إسرائيلياً. صديقى المؤرخ الإسرائيلي، إيلان بابي، حارب من أجل منع إبنه من الخدمة فى الجيش الإسرائيلى لأنه يرفض الاحتلال الإسرائيلى لفلسطين . لكن مفهوم عدم الخدمة فى الجيش لأسباب متعلقة بالضمير الشخصى غير موجود فى إسرائيل. وبالتالى مهما تكن نبيلاً عليك القبول بالقواعد الإسرائيلية. هناك خياران فى إسرائيل، إما أن تغادر، إيلان بابى غادر إلى بريطانيا، وإما أن تعيش هناك وضميرك محمل بالذنب.
رابط دائم: