هل يمكن أن نقرأ وقائع «الثورة العرابيَّة» 1882 وفق نظرية حديثة توصل إليها أحد علماء الأرصاد الجوية، من أن الأحداث الصغيرة نسبياً قد ينجم عنها تغيرات هائلة الحجم، وهى الظاهرة المعروفة بـ «تأثير الفراشة»..؟
..............................
نعم.. لقد بات ذلك ممكناً، بعدما قرأ باحث أمريكى بارز تاريخ «الثورة العرابيَّة»، بمنطق رفرفة أجنحة فراشة، فى مكانٍ ما، يُمكن أن يتضاعف سريعاً إلى تغيرٍ كبير فى أحوال الطقس، وهكذا قرأ الثورة بتأثير مجموعة أحداث صغيرة صنعت تحركاً جماعياً هائلاً.
يعرف المصريون الآن أكثر من أى وقت مضى، أن الثورةُ لا يمكن أن تكون نزهة، وأن أكاذيب الاحتلال والأنظمة المستبدة المتحالفة معه لا يمكن أن تتوقف عند حد، تماماً مثلما يعلم الجميع أن أبرز حضور «مشهد عابدين» ـ حيث واجه الزعيم أحمد عرابى (31 مارس 1841 - 21 سبتمبر 1911)، الخديوى توفيق أمام حشود من أنصار كل منهما، ـ رووا تفاصيل الواقعة فى مذكراتهم، إلا أن هناك مَن لا يزال يشكك فى صحة الواقعة، التى وردت بتفاصيلها عند أصدقاء عرابى ومنهم الإمام محمد عبده، كما وردت أيضاً فى مذكرات أعدائه، مثل اللورد كرومر المعتمد البريطانى فيما بعد.
والحق أن وقائع كثيرة فى هذه الثورة ـ إلى جوار مشهد الحصان والسيف.. و «لقد ولدتنا أمهاتنا أحراراً» ـ تُثبت أكثر من أى مذكرات، أن الثورة العرابية كانت تجسيداً حقيقياً لرغبات المصريين وإرادتهم، التى انتفضت ضد السيطرة الأوروبية على موارد البلاد عبر الامتيازات الأجنبية، لأكثر من عقد ونصف العقد، كما تثبت أن الامبراطورية التى لا تغيب عنها الشمس، احتلت مصر عام 1882، ولسبعين عاماً بعدها، رداً على إعلان المصريين رفضهم الاستسلام أمام طمع «بريطانيا العظمى»، وسيلان لعَّاب القناصل الأوروبيين الشرهين، على لقمة عيش الفلاحين المصريين الغلابة.
المدهش أن تفاصيل هذه الثورة، لم تجد باحثاً أو كاتباً مصرياً مثل يوسف زيدان، ليتتبعها، منقباً عن الحقيقة، بل وجدت باحثاً أمريكياً هو جوان كول ـ أحد أهم الباحثين فى التاريخ الاجتماعى للشرق الأوسط ـ ليدافع باستماتة «علمية» لا تُبارى عن فكرة أن «حركة عرابي» لم تكن حركة محدودة ضد الامتيازات الأجنبية، بل إنها شملت أغلب المحافظات المصرية، على مدى يزيد على 3 سنوات ـ اعتماداً على تطور وسائل الاتصال مثل «التلغراف» والقطارات، فضلاً عن انتشار الصحف، وهى الأدوات التى مثلت للعرابيين ما يشبه دور «الفيسبوك» و»تويتر» فى ثورة 25 يناير 2011، التى كانت بلا زعيم.
يعتقد كول فى كتابه «الكولونيالية والثورة الأصول الاجتماعية لحركة عرابى فى مصر» ـ الصادر فى القاهرة ـ أن تحركات فئات عدة من المصريين كانت هى التى تدفع أحمد عرابى إلى التمسك بمواقفه الوطنية، لا العكس، فعرابى لم يكن يمثل شخصه فقط، حيث كانت الثورة حلاً لقطاع عريض من الطبقات الاجتماعية، هذا القطاع الذى ظلَّ يعانى من سطوة الامتيازات الأجنبية، إلى حد لم يعد قابلاً للاحتمال، بداية من النصف الثانى من القرن التاسع عشر، وتحديداً منذ رحيل محمد على باشا، عام 1848.
تفحَّص الكاتب عشرات المخطوطات ليعرف بيان أصول العمَّال اليدويين فى بولاق زمن الثورة 1882، وأطلعنا على الأصول الاجتماعية للموقِّعين على بيان الأمة، ومهن الموقِّعين على بيان المؤتمر الوطنى الثانى لخلع الخديو 29 يوليو 1882، الأمر الذى يضع لوحة الحراك الثورى للجماهير المصرية فى سياقها الطبيعي، بعدما عجزت كتابات كثيرة فى التاريخ الحديث، عن الوصول إلى صورة مُجتمعية شبه مُكتملة لهذه الثورة، التى خسرت كثيراً من وثائقها بفعل التضليل الإعلامى من ناحية، وبفعل الزمن من ناحية أخرى.
الحق أن اللطمة القوية التى وجهتها صيحات «الثورة العرابيَّة» ـ كما يسميها كاتبنا الكبير صلاح عيسى ـ للقوى الرأسمالية الكبرى، المسيطرة على إدارة البلاد، والمسيطرة على إرادة الخديوى، كانت لطمةً قوية ومفاجئة، حيث توصَّل تحالف عريض متعدد الطبقات من المنتجين المصريين ورجال السوق، ومن يعملون فى قطاع الخدمات إلى الاعتقاد بأن نخبةً أجنبية تُسخِّر الدولة لأغراضها الخاصة، بالتعاون مع أصحاب السلطة المحليين، كما أن هذا التحالف ينحو باللائمة على الدولة بسبب سياسات على شاكلة زيادات الضرائب والسيطرة على الأسعار وتخفيض أعداد الموظفين وقوات الجيش، وتوظيف خبراء أجانب برواتب عالية، واستحواذ الأجانب على الملكيات المحلية، رافضين الخضوع للمصالح الأجنبية.
الكتاب ـ الذى نفدت طبعته الأولى الصادرة قبل سنوات عن المركز القومى للترجمة ـ نقله إلى العربية عنان على الشهاوي، وكتب مقدمته العالم الجليل الدكتور عاصم الدسوقي، أستاذ التاريخ الحديث فى جامعة حلوان، مشيراً إلى أن المؤلف مدعم بحشدٍ هائل من التفاصيل الموثقة، التى لم تلقَ اهتماماً من الباحثين السابقين، لافتاً إلى التركيز على مناقشة الأصول الاجتماعية للمشاركين فى «الحركة»، بين عناصر المدن بالمعنى الوظيفي، وعلى الأصول الثقافية من حيث تطور تكنولوجيا الاتصال «التلغراف» ووسائل الانتقال «قطار السكة الحديد»، بين الريف والمدينة، وكيف استطاع المثقفون الجُدد توظيف الصالونات السياسية فكرياً وتوظيف الصحافة فى تكوين أيديولوجيا المعارضة.
يفحص الكاتب الحياة المؤسساتية للمصريين، فى الربع الثالث من القرن التاسع عشر، ويتساءل بشأن التغيرات التى حدثت حينذاك فى تكنولوجيا الاتصالات والانتقال، وأتاحت فرصاً أفضل فى التعبئة الوطنية، عام 1882، عما كان ماثلاً عام 1850؟.
وبينما يلفتنا الباحث إلى أن الثورة مرت بأطوار عدة، ودخلت فيها طوائف فى أوقات متأخرة، يذكرنا أيضاً أنه: «فى وقت متأخِّر، آزرت بعض الطوائف حركة الزعيم أحمد عرابي، لتعزيز المصريين فى مواجهة باقى العرقيات العثمانية، من أجل سلطة برلمانية أكبر فى مواجهة الوالى 1882، وعند إقالته من منصبه كوزير للحربية فى مايو من تلك السنة، تكاتفت الطوائف من أجل إعادته لمنصبه: طائفة الإسكافيين وبائعى اللبن والخياطين، والذين جابوا الشوارع داعين الله أن يقضى على الأوربيين الكفرة».
يشير الكاتب إلى أن عدداً من وقائع الثورة العرابيَّة التى شهدها الشارع المصري، تُثبتُ صحة ما توصل إليه علماء الأرصاد الجوية، من أن الأحداث الصغيرة نسبياً قد ينجم عنها تغيرات هائلة الحجم، وهى ظاهرة يطلق عليها «تأثير الفراشة»، وهى إحالة إلى فكرة أن رفرفة أجنحة فراشة، فى مكانٍ ما، يُمكن أن يتضاعف سريعاً إلى تغيرٍ كبير فى أحوال الطقس.
فقد اندلعت عدة مشاجرات دامية بين مصريين وأجانب، فى عدد من المدن المصرية، خلال أيام قليلة، بينها واقعة حققها الباحث من السجلات المصرية، تكشف إلى أى حد كانت الثورة غالية، لا ثمن لها سوى الدماء، حيث دفع بعض فقراء المصريين ثمنها بأرواحهم، حيث لم يكن عرابى ورفاقه وحدهم فى المعركة ضد الاستعمار، يقول المؤلف:
«فى مايو 1865، بدد سكون الإسكندرية شجارٌ نشب بين عددٍ من السكارى، فقد دخل ثلاثة بحَّارة إيطاليين، يترنحون من السُكر ويعملون على سفينة حربية قديمة بالميناء، فى شجار مع بعض الحمَّارة المصريين فى إحدى الضواحي، واستمروا فى ضرب الحمَّارة حتى جاء عدد كبير من العرب لنجدتهم وهاجموا الأوروبيين، هرب البحارة إلى المدينة حيث جمعوا بعض رفاقهم وشنوا هجوماً عنيفاً على العرب، الذين راحوا يتعقبونهم، حينئذ جاء بعض حرس الشرطة ـ وكانوا من الأتراك والالبان ـ وأخذوا جانب العرب، وقبضوا على البحَّارة».
بهذا المعنى، إذا كان هناك من يُمكن اتهامه بجلب المستعمر إلى مصر، فهم غالبية المصريين ـ مجموعات من الفلاحين وفئات الحضر و«الانتيلجنسيا» ـ الذين تمكنوا بعد نحو عقدين من قبضة الهيمنة الأجنبية على مصر، من بلورة مطالب واضحة وتنظيم جزء كبير ولا يستهان به من تحركاتهم ضد الاستعمار البريطاني، تحت قيادة أول وزير حربية مصري، وبالتالى فإن المسئولية الكبرى فى احتلال بلد ما، تقع فى الأصل، على الدولة الغازية، التى حشدت قواتها وأطلقت المدافع لتستفيد 70 عاماً من ثروات ليست لها، ولا يمكن لعاقل أن يتصور أن مسئولية احتلال بلد ما تقع على عاتق أحد أفراد «المستعمرة» لا المُستعمِر.
رابط دائم: