رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

بريد الجمعة يكتبه : أحـمد البــرى
رهـين الشـك!

احمد البرى
شاءت الأقدار أن أكتب إليك بحكايتي، وأنا فى هذه المرحلة من العمر, بعد حياة كلها قلق واضطراب، فأنا رجل فى الثامنة والستين من عمري، كنت أعمل مدرسا للتربية الرياضية، ولى دراسات عليا فى السباحة والجودو والكاراتيه،

وحاصل على الماجستير فى علم النفس التربوى الرياضي، وقد نشأت فى أسرة عريقة لأب يعمل فى جهة سيادية وأم ربة منزل اختارها أبى من عائلة معروفة لها مكانة مرموقة بين عائلات ذلك الوقت، ووجدتنى منذ الطفولة فى شقة واسعة بعمارة عرفت فيما بعد أنها أقيمت على حديقة كانت ملحقة بفيلا يملكها جدي، ثم دارت الأيام ولعبت الظروف دورها فى أن تتبدل الأحوال، ويصبح واحد ممن كانوا يعملون معه صاحبا لها، بينما صرنا نحن الأحفاد مستأجرين عنده بنظام «الإيجار القديم» الذى كان معمولا به وقتها ومازال ساريا حتى الآن، وعشت فترة شبابى فى هدوء وسكينة، وبعد تخرجى عرضت عليّ والدتى فتاة من إحدى محافظات الدلتا بعد أن توسمت فيها صفات طيبة من منطلق أنها تعرف أهلها وتربطها بهم صلة قوية، ولما التقيت بها ارتحت إليها، وأبلغتهم بموافقتى على الارتباط بها، ولم يطل الوقت حتى أصبحت زوجة لي، وكانت وقتها قد توقفت عن استكمال الدراسة فشجعتها على العودة إليها، ومواصلة تعليمهاالجامعى وهى معي، ورزقنا الله بولد وبنت، وكم تمتعنا بأوقاتنا فى تلك المنطقة الراقية التى كان يسكنها مسئولون وأثرياء بعد ثورة الثالث والعشرين من يوليو المجيدة، وجاءتنى عروض سفر إلى الخارج، فشددت الرحال إلى دولة خليجية، وكنت أعود إلى أسرتى فى الإجازة الصيفية، واستمرت الأوضاع على ذلك سنوات طويلة، مات خلالها أبى ثم تبعته أمي، وخلت الدنيا عليّ إلا من زوجتى وابنيّ، ولم تكن لزوجتى علاقات تذكر مع أهل المنطقة، ولذلك كانت تقضى معظم الوقت فى عملها فى بنك ساعدنى أحد معارفى فى إلحاقها به، وبرغم ذلك لم تتوقف أبدا عن طلب المزيد من الأموال لدرجة جعلتنى دائما «على الحديدة» كما يقولون، وعرفت أنها تزور الجارة التى تسكن فى الشقة التى تعلو شقتنا باستمرار وهى أرملة جاءت من الإسكندرية عقب وفاة زوجها، ومعها ثلاثة أولاد بينهم ولد ليس ابنها، وإنما تبنته لأسباب مجهولة ولا يعرف أحد من أين جاءت به؟، وتعددت الحكايات والأقاويل بشأن علاقتها به، ولفتُّ نظر زوجتى إلى ما سمعته، وطلبت منها الاقتصار فى معاملتها على تبادل التحية كلما التقتا دون أن تشعرها بذلك، ومضت الأيام، ونسيت ذلك تماما، ثم ماتت هذه الجارة، وتزوج ابنها الأكبر، ثم الابن الذى تبنته ورحلا إلى منطقة أخري، وبقى ابنها الثانى الذى استقل بالشقة، وقد تخرج فى كلية الطب، وعرفت أنه يتردد على شقتى بدعوى توقيع الكشف الطبى على زوجتي، وأنها تصعد إليه أحيانا للغرض نفسه، ولمس ذلك ابني، لكنه لم يحدثنى فى شيء حتى عرفت ذلك من أحد الجيران، ولما واجهتها بما علمته، لم تنف علاقتها به، ولكنها أوهمتنى بأنه مجرد طبيب يكشف على مريضة!.. وقالت إنها لن تقطع صلتها به، فطلقتها، وأخذت ابنيّ معها، وتوليت مسئوليتهما من الألف إلى الياء، وكنت دائم الاتصال بهما، وحدّثنى الأهل فى هذا الأمر، ونصحونى بإعادتها إلى عصمتى على وعد منها بأن تفعل ما آمرها به، فنفذت ما أشاروا عليّ به، ثم وجدت هذا الشاب ذات مرة فى أثناء إجازتى بشقتى مرتديا «البيجامة»، وقالت لى «اللى عندك اعمله»، فطلقتها للمرة الثانية، وأخذت ابنينا كما فعلت فى المرة الأولي، واشترت شقة بما ورثته عن أبيها، وما حصلت عليه منذ زواجنا من شقائى فى الغربة.

وجلست وحيدا بين أربعة جدران أبكى بحرقة وألم من المصير الذى انسقت إليه، ولم يكن لى يد فيه، وكثيرا ما سألت نفسي: هل طيبتى الزائدة عن اللزوم هى السبب فيما وصلت إليه؟، وهل لابد أن يكون الرجل شديدا مع زوجته لكى تستقيم حالها، وتنفذ ما يطلبه منها، ولا تدع الشك يتسلل إلى قلبه؟، ثم أفيق على الواقع المر الذى أحياه، فأستغفر الله العظيم.. لقد استبد بى اليأس وأظلمت الدنيا فى وجهي، وأصبحت كالغريق الذى يتعلق بقشة، وهنا تعرفت على فتاة من الحى تعمل فى إحدى الهيئات، وهى من إحدى محافظات الوجه القبلي، ولا أنكر أننى أحسست بميل إليها، ففاتحتها فى الزواج، فوافقت على الفور برغم أن فارق السن بيننا كبير، ولم أعبأ بما عرفته عن علاقاتها المتعددة، ووجدت أنها الحل لما أعانيه من أزمة نفسية، وتغاضيت عن أشياء كثيرة بدرت منها، وسعيت كثيرا إلى أن أبدأ صفحة جديدة فى حياتى بعيدا عن الشك، ولكن الكيل فاض بي، وبمرور الوقت اكتشفت أنها «نصابة وحرامية»، وتسلك سلوكا غير سوى كسابقتها، وزاد من سخطى أنها حاولت إخراجى من الشقة لكى تستولى عليها بمساعدة أحد ورثة العمارة، وتصورت أننى بطلاقى لها قد تخلصت من إيذائها، لكن تصورى لم يكن فى محله، فمازالت تتردد على العمارة، وتختلق الأسباب للاحتكاك بي، مرة لزيارة معارفها، ومرة للكشف عند الطبيب الذى كان سبب طلاقى لزوجتى الأولى، وضاق الخناق حولى من كل اتجاه، وسقطت مغشيا عليّ ذات يوم، ومكثت فى المستشفى عدة أسابيع، ولما عدت إلى شقتى لم أجد الكثير من متعلقاتى وأوراقى، وأدركت، ولكن بعد فوات الأوان إنها عملت نسخة من مفاتيح كل الدواليب والحقائب التى تخصني، ولم أجد بدا من الانفصال عنها بلا عودة، ومازالت تطاردنى حتى الآن ولا ألقى بالا لها لأننى لن أعود إليها، ولن أستجيب لأى ضغوط بشأنها، لكنى لا أعرف كيف أواجه ألاعيبها هى ومن يساندها من أصحاب العمارة، والطبيب ابن جارتنا الراحلة؟ إننى الآن فى حيرة شديدة، ويقتلنى التفكير من الوحدة القاتلة التى أحياها، وأحمد الله أننى بصحة جيدة، ولديّ ما يكفينى من المال، وقد فكرت فى الزواج، وللأسف فإن الخوف يتملكنى من تكرار الفشل فى الزواج للمرة الثالثة، وأعلم بالطبع أن الاستثناء هو ما تعرضت له، وأن القاعدة هى أن كل الناس «أسوياء»، وليسوا على شاكلة من ارتبطت بهما، فماذا أفعل؟، وهل أخوض تجربة جديدة؟، وهل من الممكن أن يتحقق لى النجاح الذى طالما نشدته، وشاءت الأقدار ألا أصادفه؟، ثم كيف تقنع من أتقدم لها بما عشته من أحداث وما قاسيته من أهوال على أيدى زوجتيّ السابقتين؟، وما هو الطريق إلى زوجة عاقلة تشاركنى ما تبقى لى من عمر؟

ولكاتب هذه الرسالة أقول:

عشت حياتك «رهين الشك» سواء مع زوجتك الأولي، أو الثانية، وقد صار أسلوب حياة بالنسبة لك وبات مستحيلا أن تبنى زيجة ثالثة وأنت سائر على هذا الطريق المملوء بالشكوك والأوهام، فالشك بين الزوجين الذى وصل إلى الحال التى ذكرتها عن زوجتيك يعد من أعظم أسباب انحراف الزوجية عن سبيل السكن والمودة والرحمة، واتجاهها إلى جحيم الظنون والهواجس والمتاعب، والنتيجة الحتمية لذلك هى هدم البيت من أساسه، ولذلك فإنه لا يحل للزوج أن يشك فى تصرفات وأفعال وأخلاق زوجته بما يسيء إليها فى شرفها وعرضها من غير أدلة يقينية أو أمارات ظاهرة، والواجب عليه أن يتقى الله تعالي، وأن يحكم بالعدل، وأن يحذر مخالفة الشرع فى وجوب اجتناب سوء الظن الذى قد يقوده إلى أفعال محرمة كالتجسس والقذف، وغيرهما من المنهيات الثابتة بأوضح عبارة أوجزها الله سبحانه وتعالى فى قوله «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ» (الحجرات 12)، ثم قوله تعالى «إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِى الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ» (النور 23)، والتجسس هو التفتيش فى عورات الناس، والمعنى المقصود هو التغافل عن تتبع أحوال الآخرين، ولقد كان الواجب عليك أن تقطع شكك فى زوجتك الأولى بما تعلمه من صلاحها وعفتها على مدى سنوات طويلة تزيد على ربع القرن، وإذا كنت قد واجهتها بما وقع فى قلبك من شك وريبة تجاه جاركم، مدفوعا إلى ذلك بما حدثك به أحد الجيران عنه ـ على حد قولك ـ فإنها قد شرحت لك الموقف بأنه مجرد طبيب كشف عليها فى وجود ابنك وابنتك، ولم يضبطها أحد فى وضع مخل أبدا، فما أكثر الظلم للآخرين بخطأ التحليل وسوء التقدير، ولتتأمل ما حدث من صحابى جليل عرَّض بزوجته بأمارة ضعيفة، وكيف أنه راجع فى ذلك رسول الله، ولم يستسلم للوساوس والشكوك، ثم كيف كانت هذه المشاورة مفيدة فى نقاء قلبه وصلاح أسرته بزوال الشك فيها، وهى واقعة مهمة ينبغى أن تكون درسا بليغا لأصحاب الشكوك والوساوس، فعن أبى هريرة أن رجلا أتى النبى صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، ولد لى غلام أسود، فسأله: هل لك من إبل، قال: نعم، قال: ما لونها؟، قال: حمر، قال: فيها من أورق (السواد غير الحالك)، قال: نعم، قال: فأنى ذلك؟.. لعلها نزعة عرق، أى لعل ابنك هذا نزعة».. وهكذا أرشد الرسول هذا الرجل إلى أن عوامل الوراثة لا تقتصر فقط على ملامح الأبوين الغريبين، بل ربما امتدت فأخذت من الأصل البعيد، وخالفت الوالد القريب، ومما نتعلمه من هذا الحديث، المنع عن نفى الولد لمجرد أمارات ضعيفة، ولابد من التحقق بما يؤكد الشكوك فما بالك بمجرد شكوك عابرة؟!، ثم أنك فى الواقعة التى استندت إليها فى طلاقك زوجتك الأولى لم تتحر شيئا من ذلك، وإنما خضعت للوساوس التى انتابتك، فطلقتها مرتين حتى ضاقت بتصرفاتك وانصرفت إلى تربية ابنيكما بعيدا عنك، والغريب حقا هو أنك تزوجت من الثانية برغم علمك المسبق بما يقال عن علاقاتها المشبوهة بالكثيرين!، أى عقل هذا يا سيدى الذى تفكر به؟، وإذا كان ما دعاك إلى الانفصال النهائى عن الأولى هو شكك فيها، فكيف تزوجت الثانية وبها عيوب واضحة لك من قبل الارتباط بها؟، ولاشك أن الوضوح فى العلاقات بين الرجال والنساء هو الطريق الأمثل للخلاص من الأوهام والوساوس التى قد تعلق بالأذهان، وقد كان على زوجتيك السابقتين أن تطلعك كل منهما على ما تفعله، وأن تشرح لك حقيقة علاقتها بالجار، أو المدير أو الأصدقاء والمعارف ممن تحدثت عنهم، وذكرت وقائع تخص كلا منهم، فعن صفية بنت حييّ قالت: كان النبى معتكفا فأتيته أزوره ليلا، فحدثته ثم قمت لأنقلب، فقام معى ليقلبنى «ليوصلنى»، وكان مسكنها فى دار أسامة بن زيد، فمر رجلان من الأنصار، فلما رأيا النبى أسرعا، فقال لهما: «على رسلكما، إنها صفية بنت حييّ، فردا عليه: سبحان الله يا رسول الله، فقال: إن الشيطان يجرى من ابن آدم مجرى الدم، وإنى خشيت أن يقذف فى قلوبكما شيئا».

ومادمت «رهين الشك»، فإن عليك أن تعرف أمورا مهمة لعلاج الشك بين الزوجين أهمها: أن يتذكر كل منهما عظم الموقف والمساءلة فى الآخرة لقوله تعالي: « وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا» (الإسراء 36)، وأن يدرك أن الشك محرم، ويجب ألا ينساق إليه بدون أدلة قطعية حيث يقول تعالي: «إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ» (النور 15)، كما يجب البحث والمكاشفة لمن هو واقع فى الشك، والحرص على إقراره واعترافه بحدوث الشك منه، وتحليل أسبابه فى ذلك، ومن هنا يبدأ العلاج اللازم لحالتك.

لقد جنيت على نفسك بالحزن والنكد، وعلى مطلقتيك باتهامات ليس مؤكدا أنهما وقعا فيها، ولذلك فإنى أرى أن تستعين بابنيك فى إعادة المياه إلى مجاريها مع زوجتك الأولي، فهى الأبقى لك، بشرط أن تبدأ معها صفحة جديدة لا لوم فيها ولا عتاب، فإذا اقتنعت بذلك وصفح قلبك عن الماضى المملوء بالشك تجاهها، فاعتبرا أنكما متزوجان حديثا، ولا تسمح للشيطان أن يفسد عليكما حياتكما، إذ أنها وقتئذ ستكون كالتى خرجت من غرفة العمليات للتو، ونقلت إلى العناية المركزة، فلا لوم ولا عتاب، ولا اجترار لليالى حالكة السواد التى عشتها، ولا عودة للشك أبدا، وإذا لم تقتنع بذلك وأردت أن تكمل عمرك مع زوجة ثالثة فلتخبرها بما جرى بصدق وواقعية، وإياك أن يتسلل الشك إليك من جديد، أما عن المؤامرات التى تقول إن مطلقتك الثانية تدبرها ضدك للحصول على الشقة التى تعيش فيها، فأحسب أن القوانين والقضاء فى صفك، ولن يستطيع أحد أن يؤذيك أو يغتصب منك ما لا حق له فيه، فاطمئن، واهدأ بالا، وأسأل الله لك التوفيق والسداد، وهو وحده المستعان.

رابط دائم: 
اضف تعليقك
البريد الالكترونى
 
الاسم
 
عنوان التعليق
 
التعليق