أدخلنى السكرتير إلى حجرة المكتب. الحجرة نفس الحجرة، مليئة من قاعها إلى سقفها بكتب اللغة والتراث والأدب. الكتب لا تبدو جديدة.
تبدو كأنما هى خارجة من سحارة زمن سحيق. الحاضرون قلة، ودائما الحاضرون قليلون كانت الساعة الحادية عشرة صباحا. ودار الحديث فى شئون المادة كما تعود أزيدور، المنزل هادئ ساكن وكأن لا شئ يدور بداخله، كنا جميعا وكأنما ننتظر مجيئه، كنا نسمع نحنحته فى الممر فنعرف أنه فى الطريق. ومتكئا على السكرتير كان يدخل، يصافحنا ويعرفه كل منا باسمه. وأحيانا يتعرف على الشخص قبل أن ينطق اسمه. من مجرد مصافحة يده. كان الجو كله مهيأ لقدومه ولكنه لم يجئ.
مضى الوقت، بلغت الساعة منتصف النهار ولم يجئ. وكنت أعرف والحاضرون جميعا يعرفون انه لن يجئ.
ومع هذا ظللنا ننتظر. ومع الانتظار رحت اتذكر أول مرة دخلت هنا. كنت قد أصدرت كتابا، أول كتاب، وحين قرأه طلب رؤيتى وحين رآنى هو الذى طلب منى يالعظمته ـ أن يكتب مقدمة الكتاب الثاني، كنت أوشك انجاز الكتاب الثانى (جمهورية فرحات). وهنا جلست انتظر المقدمة.
طال جلوسنا ولم يطل وكنا نعرف أنه من يطول. كنا نعلم جميعا أن طه حسين مات، واننا أبدا لن نعود نسمع صوته الجهير العميق، ولن يعود يقدم لنا سجائره الطويلة التى يتولى توزيعها السكرتير، ومع هذا ظللنا ننتظر. كان فى نظرنا خالدا لا يموت. ومن كثرة أمنا بخلوده طال ايماننا انه سيجىء، وأن قامته الطويلة المديدة ستهل، كل ما علينا أن ننتظر.
واليوم وأنا مع الآلاف غيرى نشيع جنازته كنت أتخيله فى تابوته المؤقت، راقدا بنفس الثقة وعلى سيماه نفس التعبير. ذلك التعبير الذى احترت فى شأنه. أهو ابتسامة مجهضة. أم سخرية أخذت شكل الابتسام. أم هكذا ثبتت ملامحه منقبضة عند الفم تخال أنها مبتسمة، كنت أسير وحولى ومن حولى الآلاف يسيرون، نشيع طه حسين، نشيع عصرا بأكمله، عصرا بدأ مع بداية فجر الفكر العربى وانتهى باشراقة صباحه، بالنور، بكثير من النور، كنا نشيع فردا احتوى بين ضلوعه طموح أمة، ومن ظلامه الخاص وظلامها الخاص قادها إلى النور، إلى هذا القرن.
لم تكن قد اعجبتنى المقدمة التى كتبها طه حسين. وبين جوانحى كتمت شعورى وفى ذات زيارة انفجرت أقول له ما عندي. قلت له: ياأستاذنا الدكتور هذا فراق بينى وبينك، انت تنصحنى بقراءة كتب الذات وتوصينى بابن الهيثم وأنا لا أريد أن أكون عالم لغة ولكنى أريد وسأكون فنانا حتى ولو كتبت بلغة الشارع. كنت قريبا منه تربت على كتفى فى حنان الوالد وابتسم ضاحكا قائلا: أنتم الأطباء الأدباء، تخرجون على الطاعة ودأبكم الخروج على الطاعة.
وهكذا من الأستاذ أصبح طه حسين أبى الروحى وصديقى ومبعث نشوتى كنت أنتشى انه مجرد موجود. وأننى أحيا فى عصره، وأن العصر عصره واليوم أسير فى جنازته وأنا لا أبكى بكاء ظاهرا ولا أثر للدموع فى عيون أحد فنحن لا نشيع ميتا، نحن نشيع حيا مليئا بالحياة. حيا ترك فى نفس كل من هذه الآلاف، وكل من الملايين التى لم يقدر لها الحضور شيئا حيا متحركا، ربما لولاه ما كان صاحبه، ربما لولاه ما دخل الجامعة أو أكمل الدراسة أو تخرج، ربما لولاه ما فكر أو ربما بالطريقة الخاطئة، أجل أيها السادة، كم من الموتى يموتون ونشيعهم إلى قبورهم موتي، وقليلون هم أولئك الذين يموتون أحياء، وأحياء نشيعهم إلى القبور.
الاساليب العلمية ولا فى الشكل الفنى ولا فى الفكر فحسب. وانما ثورة فى صميم الحياة تتعدى العطف والاشغال الذى بدأ من دعاء الكروان على اقل طبقة مصرية وافقرها فى الصرخة من وجه الظلم طلبا للحق المغنصب ثورات متلاحقة مرت امام عينى وانا اكتب، وعدت اسأل نفسى هل طه حسين هو هذه الكتب؟ هل طه حسين هو هذه المواقف؟ هل طه حسين هو هذه الثورات؟ قد يكون كل هذا ولكنه بشكل محسوس اضخم من كل هذا واكبر واعمق. انه اكثر من مجرد مجموع ثورات غيرت من عقل مصر، واكثر من مجرد مجموع مواقف غيرت فى حياة مصر أيكون طه حسين تلاميذه اى كتبه المحبة الواصلة برسالته عبر اجيال وايقنت باحساس عميق ان طه حسين هو كل هذا، ولكن باعظم من مجرد مجموعها.
وعجزت عن ان امسك بخيطان هذا الإشعاع النورانى المبسط على كل رقعة وطن إشعاع يحوطها فى شمول قادر على ان يجذب نحوه وينفذ الى اعماق الكيان على مدى ستين عاما لتتجلى شخصية مصر الخالدة، فى واحد من ابنائها الخالدين. كل فكر فى اسلوب طه حسين دفعة من شعاع وهاج دائم ينير ويملأ النفس ثقة ويدفع الى العمل من اجل المستقبل. كل فكرة تحيط بشكل فريد بالماضى والحاضر والمستقبل احاطه فذة تشعرك ساعة تسمعها أو تقرأها انها اعمق واشمل من ان تدركها حق الادراك تنبه فيك اقدس ما وهبك الله، تنبه العقل وتنير القلب. كل عمل لطه حسين كان عملا عبقريا هو من نسيج الخلود ذاته وكأنما هو صوت الابنية يؤدى على قيثارة مصرية عربية يجبرك على ان تنصت اليه لتملأ رئتيك من اكسير الحياة وتندفع لتعمل من اجل الوطن والانسان.
واعود الى اسطر الموسوعة وأنقل، وصاغ انتاجه القصصى صياغة فنية كلاسية تجمع بين البساطة والفخامة والوضوح، ويرن فى اذنى صوت استاذى فى الفرقة (18) فى قسم اللغة العربية فى كلية الآداب عاما بعد عام وقد تشربت بكلماته جدران المبنى فاكتسبت منه البساطة والفخامة والوضوح، ورجع الصدى طاقات ومعانى وافكار تتلاقى فى ازدحام فى كلياتنا نحن تلامذك وابناؤك يا طه حسين. وفى صفحة 1164 من الموسوعة امام اسمك هل سأملأ الفجوة بسنة 1973 ثم اقفل القوس. وهل سيعبر هذا عن انقضاء عصر كامل من عصور مصر وهو عصر طه حسين.
لقد درست لى كثيرا من قصائد الرثاء رثاء ابى ذؤيب لابنائه الخمسة رثاء المتنبى لاخت سيف الدولة رثاء ابى العلاء لصديقه الفقيه الحنفى ورثاء ورثاء... وعنك تعلمنا ما معنى انتباه الحياة على هذه الارض وما معنى امتدادها فى عالم الخلود. لقد علمتنا مرة كيف يعلوى التاريخ اسم المرئى وتاريخه حتى ولو كان عظيما فى زمانه وتبقى الرائعة التى قبلت فى رثائه لتدرسها جيلا بعد جيل ولكن امامك.. انت ياابى ستفنى جميع المرئيات وتبقى انت.
رابط دائم: