إنها إدلب السورية، التى يتم تصويرها حاليا لكافة الأتراك على أنها «الفناء الخلفى» لبلادهم وها هو إعلامها يسوق مبررات الزحف الحتمى نحوها فإن سقطت نهائيا فى براثن «الداعشيين تحديدا» حتما ستكون هناك تداعيات مدمرة ليس على التخوم فحسب بل على ما وراءها والذى سيمتد للعمق وهذا غير مسموح له البتة!!
ولكن الشئ اللافت الذى دفع المراقبون إلى الحيرة وضرب أخماس فى أسداس ، هو أن التطور الحاصل والذى بانت أولى إرهاصاته ، أعاد إلى الأذهان وجود علاقة «ملتبسة» بين السلطات التركية وتيارات متشددة منعوتة عالميا بالإرهابية ، وهى التى سبق وأنكرتها أنقرة تماما، بل وجاهدت ببسالة منقطعة النظير، طوال سنوات الأزمة السورية، بالتنصل منها رافضة بشدة الإدعاءات «الشريرة التى وصفتها بالمغرضة وأنها نتاج مؤامرة تم وضع السيناريو لها فى الخارج على أن ينفذها «عملاء» بالداخل.
غير أن مفارقة مثيرة لم تكن متوقعة فجرها الجدار العازل، الذى تم الإنتهاء من تدشينه على طول الحدود مع سوريا مستنزفا ملايين الدولارات ، بهدف منع تسلل المخربين المتطرفين الإسلاميين وأصحاب الأجندات المشبوهة، ها هى السلطات التى شيدته تزيل بعض أجزائه لتسهيل مرور العناصر التكفيرية من وإلى تركيا ، وهكذا لم يعد هناك مجال للشك فى الارتباط الوثيق بين حكومة العدالة والتنمية وجبهة النصرة ، وها هى الأخيرة تلتقى وتجتمع وتتفاوض مع جهاز استخبارات أردوغان لتقاسم كعكة النفوذ بتلك المدينة.
أيضا كان مغزى توقيت العملية العسكرية التى اعلنها الرئيس التركى فى مستهل أعمال المؤتمر التشاورى والتقييمى لحزبه العدالة والتنمية الحاكم، مثار تعليقات شتى، محورها لماذا الآن ، خاصة وأنه جاء مباشرة بعد زلزال إستفتاء إنفصال كردستان والذى جري يوم الخامس والعشرين من سبتمبر الماضى، ولا زالت توابعه تهز بعنف أهل الحل والعقد بالبلاد، فى نذير شئوم يوحى بقرب إنفراط عقد الأثنيات فى تلك الجغرافيا المعقدة والتى تسكن مدن جنوب شرق الأناضول ، ومن ثم كان لابد من مخرج سريع يواكب الشعبوية القومية التى تم تعبئتها وتغذيتها لهذا الغرض ، ومنه ترسل رسائل عديدة مؤداها أن وريثة الأمبراطورية العثمانية موجودة وبقوة وجاهزة للحفاظ على أراضيها ضد أى نزوع يستهدف تجزئتها أو تفتيتها .
ومع بدء ما تم وصفه بــ « درع فرات ثانية واسعة النطاق « والذى يقوم بها الجيش السوري الحر (المنقسم أصلا ) بدعم برى من القوات المسلحة التركية وجوى من قبل المقاتلات الروسية ، راحت الفضائيات جميعها دون استثناء ، وكأنها أرادت أن تنسى فجيعة منتخبها وهزيمته المدوية على أرضه ووسط جماهيره وضياع فرصته بالمشاركة بمونديال 2018، تعقد الحوارات وتقيم البرامج مستضيفة الخبراء وصناع الرأى كى يدلون بدلوهم، يحللون ويرصدون، أغلبهم ثمنوا خطوة القيادة السياسية ، مدفوعين بالنعرات الطورانية المدعومة بإفراط من القصر الرئاسى والجالس على قمته ، الذى لا يفوت مناسبة إلا ويلوح بشعاره الأثير «رابعة» أى العلم التركي الواحد واللغة الوطنية دون شريك والأرض الموحدة والأمة التركية سليلة المجد.
وفى الخلفية دعوات مشفوعة بالأهازيح والأناشيد الوطنية الحماسية تارة لرفع معنويات العسكريين الذين ينتظرون أوامر الدخول إلى سوريا، وأخرى تطالب بالزحف «المقدس نحو كركوك» التى يعيش فيها غالبية التركمان أبناء العمومة، ولسان حالهم يردد «هل نتركهم فريسة لمسعود البرزانى وأعوانه» بالطبع لا!! لكن على الضفة الأخرى من المشهد ، يقف هؤلاء المناوئين للحكم بمواقف مغايرة هى على النقيض لما تروج له الآلة الإعلامية الأردوغانية، بيد أن لديهم شكوكهم، وهواجسهم وطوال الأيام القليلة الماضية، طرحوا أسانيدهم التى تؤكد أن حكومة بلادهم على استعداد للتحالف مع الشيطان من أجل دغدغة مشاعر المواطنين فى محاولة يائسة لاستعادة شعبية تتآكل شيئا فشيئا مشددين على أن الثمن سيكون باهظا فتركيا يتم دفعها دفعا للسقوط فى فخ منصوب لها ومسرحه هو إدلب وبرعاية ما يتصورهم صانع القرار بأنهم أصدقاء له وهم حصريا روسيا وايران.
وتعزيزا لأجواء الغموض المحيطة بالقرار الأردوغانى المنفرد والذى تم عنونته بـ « استعادة أمن إدلب» ، خرجت تسريبات ، وجدت طريقها لمواقع التواصل الاجتماعى، الغريب أنها انطلقت من خارج الأراضى الأناضولية ، أشارت إلى وجود صفقة مريبة تم إبرامها أثناء زيارة الرئيس الروسى فلاديمير بوتين لأنقرة الأربعاء 28 / 9 ، مؤداها أن تتعامل أنقرة بواقعية مع التطورات الحاصلة على الأراضي السورية، والتى صارت تصب فى صالح دمشق، وبالتالى عليها أن تكف عن مطالبتها برحيل الأسد، مقابل ذلك ستسمح لها موسكو بإعادة جزء من نفوذها فى إدلب ، وخلال زيارته لطهران مستهل أكتوبر الحالى وجد من الملالى كل ترحيب وتشجيع طالما أن «الجيش المتناحر والذى يسمونه «الحر» سيصفى نفسه بنفسه والفائز سيكون من نصيب حليفهم بشار الأسد، أما الولايات المتحدة التى تدخل علاقاتها مع تركيا منحى يزداد إنحدارا يوما بعد آخر فأثرت الصمت وهى علي يقين أن السقوط بات قاب قوسين، فى نفس الوقت تواصل دعمها لقوات سوريا الديمقراطية ألد أعداء أردوغان.
رابط دائم: