رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

حفيف قدميك

منى الشيمي
كم مرة سمعت وقع خطواتك تسير بمحاذاتي؟ كنت فى مرحلة التعليم الثانوى، اجتزت الامتحان فى عدة مواد، لكن امتحان اللغة الإنجليزية بعد ساعات. على الرغم من حرصى على استيعاب المنهج، إلا أنى لم أحب المادة قط؛ وتحولت إلى شبح بذيل أسود يطاردني.

انتظمتُ فى درس خصوصى فيها مع مدرس كان يسكن بالقرب، لكنه أكد لى فى منتصف العام أنى لن أحصل على الدرجة النهائية مهما حاولت؛ لأنى لا أذاكر بحب. لم أفهم ماقاله، امتعضت واتهمته بالفذلكة. تركته إلى مدرس آخر، قال الجملة نفسها وأنا أنهى معه المراجعة فى نهاية العام.

وقفت فى فراغ النافذة، أعب من هواء الليل وأرقب سكون الشارع، وضوء نافذة ابن الجيران وهو يستذكر دروسه فى هذه الساعة الفاصلة، ثم دخلت لأغلق كل الملخصات التى بسطت المنهج والتى تتوقع شكل الأسئلة، وأفتح التلفاز وأشاهد جزءًا من مسرحية ريا وسكينة. لا أجد السكينة فى أى شيء، أغلق التلفاز ليعم الصمت والظلام، وأسترخى فى فراشى استجداء للنوم، لاعنة مادة اللغة الإنجليزية والقائمين على تدريسها. لم أع تمامًا، هل سقطت فى النوم أم أزحت الستار الفاصل بين عالم الأحياء وعالمك؛ كان الصوت بعيدًا فى أول الأمر؛ نفس الصوت الذى كنت أسمعه منذ عدة سنوات، بعد أن تستيقظ من نوم الظهيرة وتفتح باب غرفتك المطل على الردهة، يأتينى حفيف قدميك منذ أول خطوة ويقترب ويعلو بمجرد أن تصل إلى «الصالة» التى ألعب فيها. اتسعت عيناى دهشة وأنا أحملق إلى الظلام، أبحث عن مصدر الصوت! هو صوت قدميك لا محالة، تدخل «الصالة»، وتطلب منى أن أكف عن اللعب وأحضر المسند الذى تقرأ عليه القرآن. ألبى طلبك سريعًا، أحضر المصحف من الركن، تأخذ المسند بين ساقيك كى لا يسقط، تضع المصحف على المسند الخشبى وتبدأ فى القراءة. كنتُ لا أجيد فهم الآيات، لكنى كنت أحب الاستماع إلى نبرة صوتك وهو ينغم فى تلاوة القرآن. تتركنى أتلهى فى الجوار؛ ربما ترغب فى شربة ماء، أو فى كوب من الشاى، الذى حرصت على أن تعلمنى كيفية إعداده؛ ليلائم مزاجك بالضبط؛ فأمى تعشق نوم القيلولة. ليس أمامك سوى هذه البنت الصغيرة لترافقك فى هذا الوقت، أعد الشاي، وعلى الرغم من عدم التزامى بمقدار الشاى والسكر الذى حددته، أسألك هل أعجبك؟ فتنظر إليّ مليًا وتبتسم. نعم هو صوت قدميك، أعرفه جيدًا، وأستطيع تمييزه بين الأصوات كلها. منذ خرجت من المعتقل موشومًا بأمراض كثيرة والطبيب يحذرك من رفع قدميك عن الأرض؛ كيلا يختل توازنك، بعد إصابتك بتصلب فى شريان قلبك الرئيسي. تعبر الردهة مستندًا إلى الجدار؛ رأيتك مرات، وامتزجتْ طريقتك فى السير بصوت احتكاك قدميك بالأرض، فإذا ما سمعت صوت قدميك تخيلت استنادك إلى الحائط.

كنت أستجدى النوم حتى سمعت حفيف قدميك. عبرت من شق الهواء إلى الجهة الأخري، وقف شعر رأسى ولفتنى قشعريرة، واختلت حركة الهواء حولي، وعدت لا أفكر فى امتحان اللغة الإنجليزية، ولا فى كلام الأستاذ الأول أو الثاني، وأبعدت الصوت الذى يراجع المنهج داخل أذنى بآلية. سرت خلف خطواتك، أبحث عنك فى الأركان، عند مسند التلاوة، وخلف صورتك المعلقة فى غرفة الجلوس. عدت لا أراجع بشكل مُلّح ــ عند إغماضى أوراق دروس اللغة الإنجليزية مضافًا إليها هوامشى ورسومى بالأزرق والأحمر؛ صوت قدميك سحبنى وراءه فى دروب خافتة الضوء، دائرية، وصاعدة، كدرج فى العراء يلتف حول برج عال، له قمة قريبة من الغيمات، قريبة من النجوم. ابتعد صوت قدميك، لكننى سرت وراءه، رأيت مقاعد حجرية، مصطفة أسفل شجر يتساقط أوراقه، يجلس عليها رجال لهم لحى طويلة، بيضاء، يتحدثون بهدوء، وتغلفهم غلالة شفيفة، تداخلت بقع الظلمة، وأطل ملاك النوم مجددًا. نظرت هنا وهناك وتمددت.

كانت هذه واقعة مشهودة فى حياتي، شعرت معها بهالة من الفزع والترقب. لم أقل لأمى إنك كنت هنا ترقبنى ليلاً؛ احتفظت بزيارتك كأنها سرّ من أسرار المراهقة. ماذا تريد مني؟ منذ أن اصطحبتنى يومًا فى رحلتك الأسبوعية، كانت صحتك متدهورة، أمام رغبة أمى فى عدم خروجك أصررت على الخروج؛ قلت لها إنى معك. التقت يدانا فى منتصف المسافة، ربما أملت قامتك قليلاً لتصل إلى مستوى يدي، سرنا على جانب الطريق، كنت حريصًا على ألا ترفع قدميك عن الأرض. وعند عبور الشارع، وفى أقصى الأماكن ازدحامًا سقطت؛ ما أصعب سقوط عجوز فى الطريق! تجمع المارة وأثرت شفقتهم كلها، وجدت نفسى خارج حلقة التجمع، لا أعرف ماذا أفعل! رفعك أحدهم، وسألك آخر هل أصابك شيء؟ وجدتنى أتسلل إلى جوارك أنفض عن جلبابك التراب فى صمت، شعرت بخزى ما؛ كم تمنيت ألا تكون أبى فى هذه اللحظة؛ أردتُ أبا فتيًا يحملنى ويرفعنى عاليًا كى أقطف الغيمات، كما يفعل أخى مع ابنه الذى فى مثل سني. شعرت أنى فى المكان الخطأ، وأنك لستَ أبي، وعلى الرغم من صغر سنى وقتها، تساءلت: لم لا يختار الصغار آباءهم؟ سالت دموعى واختلطت بالغبار الملتصق بوجهي. سألنى أحدهم عندما رأى دمعاتي: هل هو جدك؟ لم أنطق بشيء؛ أعجبنى اختياره لدرجة القرابة التى قد تربطنى بهذا الرجل، أومأت بالموافقة فى سكون. أمسكت يدك وسرنا مبتعدين، وانصب الخزى الذى شعرت به على نفسي؛ لأنى فى الوقت الذى كان يجب أن أصرح بدرجة قرابتنا تخاذلت، وحملت وزر هذه الفعلة على كاهلى فى كل أيامي. هل تأتى فى أشد أوقاتى محنة لتذكرنى بوجودك على الرغم مما فعلته معك فى أشد أوقاتك محنة؟

لقد سمعتك مرة تقول لعمتى فى أحد الصباحات التى ضجت بأنين مرضك: «لا أقدر على الموت؛ البنت ما زالت صغيرة». سمعتها ولم أعِها فى حينها. كأن ميعاد الموت بيدك، بل لم أع أن البنت هى أنا، لكنك مت فى النهاية، خلفت جسدًا على السرير هامدًا. وقالت عمتى إن روحك قريبة جدًا الآن. وابتعدت عنهم ورأيتهم يلتفون حولك، يقرأ أخى القرآن عند قدميك، وظللت أبحث عن روحك، التى قالوا إنها ربما تجسدت فى هيئة طائر صغير، يحط على حافة الدولاب، أو فراشة تطير مع موجة هواء. وكلما لاح لى شيء يطير ناديتك بصوت خافت «بابا»، أحرص على ألا يسمعنى أحد وأنا أنادي؛ حتى لا تداهمه نوبة ضحك مما أفعل، بينما دموعه تهطل حزنًا لفراقك. قررت الرحيل وتركت هذه الفتاة وحيدة وصغيرة، لكنى وعيت جملتك عندما سمعت حفيف قدميك فى ظلمة الردهة أول مرة، رنت جملتك فى أذنى كأنك تقولها الآن، وفهمتها جيدًا. وكلما سمعت صوت قدميك ارتعبت، لكننى تمنيت لو امتلكت الجرأة لأنتظر؛ ربما ظهرت، كى أقول لك اهدأ ولتقر عينك، سأتعلم ما لم تمهلك الأيام لتعلمنى إياه.

سمعت صوتك واضحًا جدًا عندما كنت على وشك الولادة، كنت أجلس فى «صالة» بيتى آكل البطيخ. حذرنى زوجى من أن كمية البطيخ التى التهمتها ملأت بطنى ولم يبقَ للجنين مكان فيه؛ ضحكت من المزحة، ثم شعرت بأول خيوط الألم؛ كان ألما قويًا ومفاجئًا. هرع زوجى إلى جلبابه، ارتداه سريعًا؛ لم يكن لدينا هاتف. تركنى وحيدة أتسمع صوت الألم والصمت المحيط، سمعت صوت قدميك قويًا هذه المرةَ، يأتى من ناحية حجرة الصالون؛ كنت واقفة فى الممر بين المطبخ والحمام، فاتحة بين ساقيّ لأخفف الضغط الذى أشعر به، كان وليدى يريد الخروج، ويطرق على بابى بشدة. سال ماء مدمم على الأرض، صرخت من المفاجأة وتجدد لدى الهاجس الذى داهمنى طوال فترة حملي، أن ألد بمفردى وأضطر إلى قص الحبل السرى بنفسي. تحاملت وذهبت إلى غرفة نومي، وأنت تلاحقنى بخطواتك، تشتت فكري، كنت خائفة من النظر خلفي، تخيلت أنى إن نظرت فسأجدك، بقامتك الطويلة، تستند إلى الجدار، تحك قدميك بالأرض. الجنين على أهبة الخروج، شعرت بشيء مستدير بين ساقي، ربما هى رأسه بدأت تتطلع إلى الحياة. أغمضت عينى واستسلمت للخوف تمامًا. قدمْتَ من خلفى وأنمتنى على السرير، وغطيتنى بملاءة وجلست تقرأ فى مصحفك. سمعت نبرك وهو ينغم الآيات، فاسترخيت تماًما حتى سمعت المفتاح يدار فى القفل. اختفى أثرك وعادت آلامي، استبق الطبيب الأحداث وأعطانى حقنة، لتحمى الطلق كما قال وصوت أمى يلملم الصمت من الأرجاء، تقرعنى على إصرارى البقاء فى بيتى على الرغم من اقتراب موعد الولادة. كان صراخى يخفف حدة الألم، وكنت بين الطلقة والأخرى أستعيد قلقك على منذ قليل. كنت على يقين من أنك تفتح كوة من عالمك وتطل منها على حجرة نومي، وأنك تبتهل بآيات معينة لتخفف عنى الألم. صرخ الطفل فور خروجه مضمخًا بالخيوط الدامية، وحملته أمى لتغسله فى إناء أعدته بجوار السرير. تعجب الطبيب قائلاً: إن الولادة كانت سريعة، وإن الجنين ـ كما قال زوجى لم يجد مكانًا بعد أن أكلت نصف بطيخة كاملة. أدرت وجهى فى الأرجاء، عادت مويجات المكان لطبيعتها، عدت لا أشعر بذبذبة وجودك بالقرب، رحلت بعد أن قيدت الأرواح الشريرة. كانت هذه آخر مرة أسمع فيها حفيف قدميك بالقرب. ربما كنت تحضر لترانى كل حين، لكنك حتمًا حافظت على المسافة المتاحة؛ آخر حد متاح لك هو أول حد متاح لي، فأصبحت لا أشعر بك، وصِرْتُ لا أسمع صوت حضورك. ندمت؛ لأنى فى المرة الأخيرة ــ لم أنظر خلفي؛ كنت أحس بوجودك خلفى بالضبط، يكاد صدرك يلامس ظهري، لكن خوفًا ما منعني؛ ربما الخوف من تداخل العالمين، عالمك وعالمي، وبقيت طوال الأيام التالية ــ وحتى الآن ــ أتذكر موقفى منك يوم أن سقطت، يوم أن سألنى أحد المارة: هل هو جدك؟ فأجبته بإيماءة خافتة، بعد أن تواريت خلف ظهرك. أعرف أنك تسامحني. ربما حملت لى القليل من العتاب، لكنك تغفر دون مبرر. كلما تذكرت هذا الموقف حاولت إعادة صياغته من جديد: لم أجعلك تسقط أوّل مرة، بل سرنا حتى وصلنا إلى الجهة التى خرجت من أجلها وأنت مريض، وأحضرت لى حلوى شعر البنات فى طريقك. مرة أخرى تخيلت أنك حملتنى على كتفك، ورفعتنى عاليًا، ومر بجوارى الشخص الذى سألنى فى الموقف الأصلى عن صلتك بي، داعبنى وضحك لطفولتي، ثم أعدت صياغة الموقف نفسه، رأيتك تسقط، ورأيتنى أيضًا أهرع لنجدتك، صارخة من الخوف: «بابا!»؛ لذا لم يسألنى أحد عن درجة قرابتى منك. ثم تعايشت مع الأمر، كنت أتذكر الموقف كما هو، وأشعر بوخز، يعقبه تنهيد، أداعب وجنة صغيرى بحنو بالغ، وأتمنى أن تكون الآن فى مكان قريب، وتراني.

رابط دائم: 
اضف تعليقك
البريد الالكترونى
الاسم
عنوان التعليق
التعليق
  • 1
    أحمد الخميسي
    2017/10/13 00:03
    0-
    0+

    قصة جميلة فعلا
    قصة جميلة ودقيقة ومرهفة وتقرأ بسلاسة وعلى مهل رشفة رشفة.. سلمت يداك ، للأسف هي المرة الأولى التي أقرأ فيها عملا للكاتبة، لكن خيرها في غيرها كما يقولون.
    البريد الالكترونى
    الاسم
    عنوان التعليق
    التعليق