قبل مئة سنة من هذا اليوم بالضبط ,كتب شاعر فقير ورائع , أشد اليائسين فظاعة هذه النبوءة :
(عند الفجر ,مسلحين بصبر متأجج ,سندخل المدن الرائعة )
أنا أؤمن بنبوءة رامبو المتنبئ هذه ,إننى آت من إقليم غامض , من بلادٍ مفصولة عما سواها بجغرافية قاطعة ,كنتُ الأكثر هجرانا بين الشعراء , وكان شعرى محليا مؤلما وماطرا .
ولكننى كنت على الدوام أثق بالإنسان .لم أفقد الأمل قط ولهذا وصلت إلى هنا بشعرى وروايتى .
.....
هذا ماقاله الشاعر نيرودا على منصةِ منحه جائزة نوبل للاداب فى العام 1971 وعلى الصفحة 127 من رواية أنطونيو سكارميتا ( ساعى بريد نيرودا ..الصبر المتأجج ) الرواية الساحرة التى تحولت من تحقيق صحفى موكل إلى محرر ثقافى فى صحيفة من الدرجة الخامسة (انطونيو سكارميتا ) عن نيرودا وحياته المنصرمة ( الجغرافية الغرامية للشاعر ) إلى رواية فارقة يسعى من خلالها إلى بعض الشهرة وربما كما ذكر سكارميتا فى مقدمة روايته: ( نتاج مواز لمداهمتى الصحفية الفاشلة لنيرودا )
الرواية ألزمتِ الكاتبَ الطواف حول بيت نيرودا فى ايسلانيغرا, والطواف حول من يطوفون حول البيت للتعرف على شخوص روايته وتجسيدهم كما يليق برفاق قامة شعرية كبابلو نيرودا
الشخصية القائد والشاعر والزوج المخلص كما قال عن نفسه (شاعر الزواج الطيب ) عبر أحداث مختلطة بين الواقعى والمتخيل , حدثت أثناء حقبة زمنية مرت بها تلك المدينة الساحلية ايسلانيغرا فى تشيلى بحبكة روائية تستلب الألباب وبمكون لغوى سائغ لذيذ ساخر يعتمد على المفارقة والتهكم والصدمة وربما الدفع للاستسلام بلاحراك لما يشع من متعة القراءة والتبحر فى كاريزما الشخصيات المسبوكة بصنعة أدبية ورائية اعتمادا على تجسيد الدقائق النفسية الداخلية للشخصيات والخارجية المتعلقة بالبيئة الروائية المكانية والزمانية وتتبع الحيوية فيها كركن أساس فى الرواية المراد منها شحذ طاقة القارئ على التلذذ والتأثر فرحا وحزنا وحماسا وادراكا ومعرفة عميقة .
إهداءٌ أولاً باسم ماتيلدى أوروتيا بين قوسين (ملهمة نيرودا ) يعنى الكثير ممن يبحثون عن مصادر الهام الشاعر شاعرنا الكبير نيرودا وعذوبة اشعاره ودعما لتلك الحقيقة التى ماانفك سكارميتا يدسها فى روايته عبر عبارات ذات دلالة مشابهة ليقنعنا بأن الشاعرَ أيّ شاعر على أية حال ليس زير نساء ولا يتوجب عليه الكثير من الخيانات ليكتب شعرا ناصعا حارا يشتعل فى الفكر والجسد ويخلفَّ ذلك القارئ الهائم على قلبه الغارقِ فى لذةِ الانصات لروح الإبداع والحياة ...
هنا أراد سكارميتا من نيرودا أن يكون ملهما عبر العصور وليس فقط ملهما لمرؤوسه ماريو خيمينث الشاب البسيط الذى استقر به المطاف ليكون ساعى بريد لزبون واحد فقط فى كل ايسلانيغرا ومن ثم عاشقا وحالما بالشعر أو بـ (فتات اهتمام من الشاعر ) , تظهر شخصية ماريو كمحور إلى جانب اسم نيرودا العملاق الزبون أو المرشح الرئاسى أو السفير فيما بعد لبلاده الشيوعية فى فرنسا , شيوعية نيرودا المنتقدة بشكل غير مباشر من قبل سكارميتا من خلال عبارة فى السياق لم تمر مرور الكرام ص3 ( هذا يعنى أنه لن يكون من اللائق بأى حال الطلب من الشاعر _مهما كان شيوعيا _ أن يشطب كلماته ويستبدلها بكلمات أخرى )
نيرودا قال فى مذكراته : جاءت الحياة السياسية مثل الرعد لتخرجنى من أعمالي, لقد كانت الحشود البشرية الدرس الذى تلقيته فى حياتى ) هكذا تدرج اسم نيرودا من محبوب البسطاء إلى مرشح رئاسى للجمهورية إلى بروفا جنرال(سفيرا ) فى سفارة تشيلى لدى فرنسا ...
هناك حيث لم تنقطع علاقة الزبون بحامل الرسائل ومن ذلك المفصل الروائى الهام باشر سكارميتا يهيء لأحداث نهاية الرواية أو لنقل (نهاية نيرودا ) إذ تحول الجو العام من الأسلوب الساخر الخفيف الشيق إلى سرد أشبه بتلاوة الوصايا الأخيرة قبل الموت ,بسينمائية مدهشة بدءا من رسالةِ الغائب عن الوطن ( نيرودا السفير ) إلى مجنح القدمين ماريو وعائلته أخيرا بعد زواجه من معبودته بياتريث ومقدرته على تجاوز عداء حماته روسا غونثالث لاستعارات نيرودا الحارقة ( ابتسمات مثل الفراشات ) و(كلمات كالعصافير)
الرسالة التى بدا فيها نيرودا متعلقا أكثر من ذى قبل ببيته فى ايسلانغرا إلى الحد الذى طلب فيه السفيرُ الشاعر من ساعيه المخلص من خلال ارساله لالة تسجيل حملت صوت الشاعر كملاحظة أخيرة كان ينتظرها بعد رسالة بدت للوهلة الأولى بلا ( م,أ) و حسب ماتعلم من الشاعر ( إنه لايمكن أن تكون هناك رسالة بلا ملاحظة أخيرة ) إذن هى ملاحظة أخيرة على هيئة صوت بثته آلة تسجيل حاملة صوت الشاعر الحزين :( أريد منك أن تتمشى بآلة التسجيل هذه فى ايسلانيغرا وتسجل لى كل الأصوات التى تجدها , إننى أحتاج لدرجة اليأس ولو لمجرد شبح بيتى ..صحتى ليست على مايرام ..إننى افتقد البحر ..افتقد العصافير ..ابعث لى باصوات بيتى ..أدخل الى الحديقة واقرع
الأجراس,سجل أولا ذلك الرنين النحيل الذى تصدره الأجراس عندما تحركها الرياح ثم شد بعد ذلك حبل الناقوس الأكبر خمس أو ست مرات ,الجرس ,جرسي! ليس هناك مايرن مثل كلمة جرس إذا علقناها على برج أجراس بجانب البحر )
لعل سكارميتا أراد أن يكرس وجهة نظره وربما هى وجهة نظر شائعة فى موقعين أولهما على لسان النائب لبيه ذى الميل الاشتراكى : نيرودا شاعر عظيم , وربما هو أعظم الشعراء ولكننى بصراحة أيها السادة لاأستطيع تصوره رئيسا لتشيلى .
وثانيهما على لسان أرملة غونثالث :( إنهم كشعراء أفضل منهم كرجال دولة )
وفى زوايا عدة من الرواية التى تقبض على القارئ حالما يلجها ولو للاستكشاف والمعاينة بدا نيرودا معلقا بين الاستعارات وغرامه الأبدى ( تشيلي) ووطنيته وانتمائه الحزبى والشعر الذى يعتبره سلاحه الوحيد والوجود عامة ..هذا ماأرادنا أن ندركه أنطونيو سكارميتا فى عبارته ذات الأثر المدوى
على لسان ساعى بريد نيرودا : هل تعتقدُ حضرتك أن العالم بأكمله استعارة لشيء آخر ؟!
*ساعى بريد نيرودا ,الكاتب أنطونيو سكارميتا
ترجمة : صالح علمانى ,ضمن سلسلة إبداعات عالمية
الطبعة الأولى 2011
.....
,دمشق 15-آب_2017
رابط دائم: