رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

من نصر أكتوبر إلى الحرب على الإرهاب.. حتى لا تتحول مواكب الشهداء إلى غياهب الذكرى
عن «منسي» الذى لا ينسى

ماجدة الجندى
لم أستطع المقاومة .. ولا فكرت.. كيف أذهب الى « ماراثون » جري، أقيم احتفالا بالشهيد عقيد أركان حرب أحمد صابر منسي، و انا متكئة على عصا اضطررت اليها بعد شهور فوق كرسى بعجل ... حاولت أن أقنع نفسى بلعبة تقسيم الأدوار ، و ان دورى يقتصر على «مربع الكتابة»، .. لكن « حضور الشهيد منسى » فى حياتى وأسرتى الصغيرة ،

كان حيا و استثنائيا و مستمرا ، و متجاوزا كل هذه الأفكار ،.. حتى قبل استشهاده ..«منسى » كان امتدادا لقائمة طويلة من السير النبيلة ، عايشتها بحكم ظروف تخصنى . حتى قبل أن يتحول هو فى حد ذاته إلى أسطورة .. .. « حرقة القلب » التى أصابت كل من عرف «منسي» حين استشهاده ، لم تكن على منسى وحده ، بل جسد « منسى » رمزا لألوف من نبت مصر المعطاء ، و البازل روحه فى أريحية اختصهم الله بها..

انا من الجيل الذى تظاهر مطالبا السادات بالثأر، و تفتح وعيه و دشن مشواره المهنى بدخول بيوت الشهداء : من اوائل ما حققت فيه صحفيا ، بيوت شهدائنا ابراهيم الرفاعى و ابراهيم عبد التواب .. و جهتى ، كانت ساحة مجلس مدينة العاشر ،

 

حيث النقطة التى من عندها سوف يكون التجمع لـ «ماراثون» يحمل اسم الشهيد «منسي» .. بدأت السعى حول السادسة صباحا .. بدا الطريق فى خريف مصر «السبتمبرى » ، غيره فى بقية الايام .. سهلا ، منبسطا وجميلا ، كأننا فى بلد غير البلد ..يقول كل اصدقاء « منسى » ان حاجة منسى دائماسهلة و « مقضية » ..حين وصلت مقر مجلس العاشر ، لم يكن باديا -من على السطح - ان هناك ما يشير الى حدوث شيء غير عادى ، فقط ، ترامى الى سمعى اصوات ، اختلط فيها هتاف و صيحات و إن هيمن ميكروفون يعلن بدء تمرينات « التسخين « لتجنب الشد العضلى قبل البدء فى الـ «ماراثون ».. بعد التفافة قصيرة بالسيارة انفتح الطريق على ساحة واسعة ، تحيط بها من على البعد اشجار باسقة ونخيل الساحة شبه مكتظة بناس من كل الاعمار .. دوائر من الشباب .. اطفال تجرى ، ستات و رجال فى عمري ...كرنفال من الازياء .. ملابس ريفية ، حجاب ، بنطلونات والقاسم المشترك صورة منسى على «تيشيرت» يرتديه الجميع .. وحد «منسي» بين الجميع او توحد الجميع فى « منسي» ..والكل يرتدى تى شيرت عليه صورة «منسى « صورة اكثر ما يميزها ضحكة كبيرة ، احالت وجهه الاسمر الى شمس .. كان «منسى » يحمل شخصية مولعة بالحياة ، بنفس القدر والقوة التى جعلت من الاستشهاد بالنسبة اليه « امنية» ، ومعنى حاضرا طوال الوقت ..يقولون انه كان مغرما بالقراءة فى سير الصحابة و الشهداء، و انه اختار اسم « حمزة» لابنه الاول ، تأسيا بحمزة عم الرسول(صلى الله عليه وسلم) .. اتكأت على العصا بينما عيونى تمسح المكان .. لا اعرف احدابعينه ، باستثناء ابنى الذى سبقنى و لا اعرف اين هو .. كنت جزءا من حشد جاء ، إلى «منسى » ..من كل فج عميق .. جئنا للمعنى .. منذ استشهاده انشأ محبوه صفحات تحمل اسمه ، لكنها اخذت على عاتقها ، ألا يكون الشهيد، كل الشهداء، مجرد ذكرى موسمية ، او كما قال احد الاقربين الى « الرائد محمد وديع : لا نريد لمنسي، ان يكون مجرد «اسم على مدرسة » كيف لا تذهب عطاءات الشهداء، كل الشهداء، الى « غياهب الذكري» .. ؟هذا الـ «ماراثون» ، و كتاب يعدونه وفيلم و ..و .كلها مبادرات اخذ بها محبو « منسي» قائد كتيبة رفح ١٠٣ ، الذى استشهد و رفاقه التسعة عشر فى البرث ، فى ٧/٧/٢٠١٧)انتبهت على يد تربت على كتفى .. « صباح الفل يا ست الكل برافو عليك « ....كان محمد ابنى ، الذى وجد فى منسى ، منذ سنوات طويلة ،«صنوه » و توأمه ، و الذى بغير وعى ، تحولت حياته بعد استشهاد «منسي» ، الى غيرها قبل الاستشهاد. قال لى محمد ان مفاجأة بانتظاري .. اخذنى من يدى الى حيث ، كانت سيدة جميلة ، وقفت مشدودة القوام و قد عقدت ذراعيها ، ترتدى «تيشيرت» بالوان الصاعقة ، و بنطلون كاكى تقف فى زاوية من المكان، وقد التف حولها شباب ميزت من بينهم ، رجال الصاعقة الذين ارتدوا فوق تيشيرت « منسي» ، سترات بلون اصفر ..على بعد خطوة كان رجل وقور، بشارب اسود كأنما هو نسخة من الرفاعى ، مندمجا فى حوار .. كان واضحا ان معرفة و ثيقة تربط ابنى بالسيدة و الرجل الوقور .. «ماما اقدم لك ليلى ابراهيم الرفاعى .. و العقيد سامح ابراهيم الرفاعي» .. انعقد لسانى و تسمرت فى مكانى ... لم اصدق انها» ليلى « .. وانه سامح .. توقفت مشدوهة .. هذه» ليلى «و هذا» سامح «اللذين التقيتهما طفلين قبل اكثرمن اربعة واربعين عاما حين كنت اعد تحقيقا عن ابناء الشهداء .. يومها ،اصطحبنى جمال الغيطانى معه الى بيت ابراهيم الرفاعى .. لم تكن زيارة عمل على الاطلاق فى البداية .. كان جمال يطوف بى ،قبل ارتباطنا ، على « أحبابه » ، يعرفنى على عالمه .. و كان مدخلى الى هذا العالم ، بيت الشهيد الرفاعى الذى تعلق به الغيطانى هو وافراد المجموعة «٣٩» ، فى القلب منهم . وامضيت ساعات فى بيت: «الاب» فيه شهيد« والعم » شهيد و «الخال» ايضا شهيد ... خرجت يومها من البيت بمذاقات لم تمحها الايام ولن .. و بإدراك متعمق ، عمقته ايضا ، الايام .. بعد اربعة عقود ونصف من لقائى الطفلين ليلى و سامح ابراهيم الرفاعى ، التقيت «حمزة احمد صابر منسى » وعليا «وعلي»..كانا ، ليلى وسامح ، يوم التقيتهما عقب استشهاد ابراهيم الرفاعى فى ١٩ اكتوبر عام ٧٣ ، فى مثل عمر « حمزة » و عليا ، اولاد منسى .. حمزة ابن منسى ، الذى كانت العيون عليه وهو يمارس تمرينات التسخين قبل الماراثون ، وسط « الرجال» .. و من حين لاخر كانت « عليا » اخته تجرى عليه تاركة ، امها ارملة الشهيد التى تحمل علي كتفها «علي» ( عامين )، الابن الثالث للشهيد منسى .ليلى ابراهيم الرفاعى ، و سامح ابراهيم الرفاعى فى ساجة مجلس مدينة العاشر ..بعد اربعة عقود ونصف ، يعلم الله وحده كيف مرت عليهما ..«ليلي». الان ، «سيدة » بحضور عفى لها، و حضور مغرق فى الحضور ، «لابيها» .. وسامح .. عقيد فى الجيش ، ، كان يتكلم الى شباب « ان للشهداء حياة ، نبدو الى جوارها نحن فاقدين للحياة ».. و عندما سأله الاعلام عن مشاركته ، قال انه اتى ليسلم على حمزة احمد منسى و ليقول له: «ما تخافش.. ربناها يكون معاك زى ربنا ما كان معانا ..احنا مثال قدامك حمزة حايكبر و حايبقى زى منسى و الرفاعي».... عشرات الاطفال الذين يرتدون قمصانا تحمل صور «منسي» ، يملأون المكان « برفرفات».. كأنهم اسراب حمام ..، كان «حمزة»، يشارك ابطال الصاعقة ترديد الصيحات القتالية حينا، و يواجه الاعلام حينا ، كبر حمزة قبل الاوان .. يواجه الـ «ميكروفون» بثقة ، يحكى عن ابيه الذى لم يكن يرفض له طلبا ، و عن دروس البوكس التى بدأها ، لان ابيه كان راغبا فى ان يتعلمها .. قال انه سوف «يفرح قلب ابيه ، و يعود لمصر بميداليات ذهبية » «حمزة» ، واحد من ابطال مصر فى رياضة الجمباز.. لا يمكن الا ان تتوقف متأملا اصطحاب « الآباء و الامهات لأبنائهم ..ابناء مقاتلين وشهداء و اطباء وعاملين فى بنوك ومهندسين و دبلوماسيين و فلاحين و ستات بيوت و معهم طلبة و فى المقدمة حشد اوتوبيسين من اطفال ٥٧٣٥٧ ، بنفس القمصان التى تحمل صورة منسى ، و فى ايديهم الاعلام الوطنية الصغيرة .» «منسي» احد امتدادات «ابراهيم الرفاعى »..«منسي» الذى نحن جميعا فى حضرته ، كان الشهيد اللواء ابراهيم الرفاعى ، قائد المجموعة ٣٩ ، هو «بوصلته» ،«صنو روحه».. راح يتقصى عنه .. يتلمس خطاه ، حياة واستشهادا و فى طريق البحث عثر على رواية « الرفاعى » لجمال الغيطانى .. من هنا بدأ الوصل .. كان يلملم كل ما يمكن عنه .. حتى الموضع الذى واراه .. عرف الطريق اليه ، فى ذات التوقيت و كأنما اراد القدر ان يلتئم شطرا «تفاحة» .. . التقى شابان ، كل منهما كأنه شطر تفاحة .. كل شطر منها جاء من موضع ما فى الوطن ، كان لهما نفس العمر ، و بنفس الروح ، احدهما يخدم الوطن فى مؤسسته العسكرية ، و الثانى فى مؤسسة وطنية اخرى «الخارجية» .. اجتمع الشطران حول « البطل » الشهيد ابراهيم الرفاعى .. و الغريب ان اللقاء الذى تم قبل سنوات تم عبر صديق مشترك للشطرين ، صديق استوقفه كيف يمكن لاثنين من البشر لا يعرف احدهما الاخر ، ان يكونا متقاربين الى هذا ، كان مذهولا من تطابق يكاد يشمل حتى الشكل ، كان «المنسي» وقتها يخدم فى الملحقية العسكرية المصرية بباكستان ، ونصف التفاحة الآخر ، ابن الغيطاني ، « محمد » يخدم الوطن فى ركن قصى اخر (نيويورك) .. كان لقاؤهما فى محبة الوطن وايقوناته و منذ اجتمعا معا على نفس الارضية ، اكتمل على الاقل نصف التفاحة الذى اتيت انا به الى الدنيا ، بفضل الله ، و دخل « المنسى » حياتنا - كأسرة - حضورا مقيما ، موحيا وزخما لا يمكن الاحاطة به مهما بلغ الخيال .. تواضع وذكاء عالم .. خاض اصعب الدورات العسكرية بامتياز ..له رقة و حنان الفنان ، يكتب الشعر ويرسم، وارادة و اعتزاز المقاتل ، وزهد وترفع « الولي» . كانت زيارة مرقد ابراهيم الرفاعي جزءا من برنامج اجازة « منسى » ، و بعدها يذهب مع ابن الغيطانى الى بيت واحد من ايقونات اكتوبر ، الفريق عبد المنعم خليل ، متعه الله بالصحة والعافية .. منسى كان شقيق ابن الغيطانى الذى لم الده .. و المعلقة بحركته «القلوب» ..وحضوره، لم يكن مشروطا باللقاء المباشر .. كان « للمنسى » هبات نسائم انسانية ، تقترب من الاساطير .. له « نفحات » من النبل ، كأنما الله بعثه ، لينثر«الرحمة» والغوث اينما حل . كان تواصلى مع اصدقاء و اشقاء و رفاق منسى ، عبرالوسائل «الاليكترونية» .. افقت على الصيحات التى تردد نداءات ، محفزة ، وقد تم « لضم » اسماء الشهداء لتتخلل الصيحة ، اكبر قدر من اسماء الشهداء .، فى الساحة الواسعة ، والجميع يرتدى « تى شيرت» يحمل صورة الشهيد « منسى » اما على لون ابيض او رمادي، كانت طوابير من السيارات الملاكى و بضع سيارات نقل صغيرة وسيارة اسعاف قد اخذت مواضعها فى الظل . اغرب ما ساورنى ، كان ، غلالة من «الانشراح » ، خيمت على المكان و حاضريه ..الجمع المنقسم فى دوائر ومجموعات ، يذكرك بما يمكن ان تراه فى الساحات المفتوحة لاداء صلوات الاعياد .. و تحديدا بما يعقب اداء الصلوات ، من تبادل للتهانى فى جو من البشاشة والود .. هكذا رحت ارقب الملامح و الوجوه ، و الاطفال المنطلقين ، بنات وبنين ، يرتدون تيشيرت «منسي» و يجرون بغير اتجاه محدد وفى ايديهم اعلام مصر .. لا تستطيع « عين المهنة» ان تحدد لا وسطا اجتماعيا ولا سمة اقتصادية .. كل ما يمكن قوله انك فى بحر من «المصريين » المملوئين حيوية و حماسا و المقبلين بشغف وبهجة.. نعم بهجة فى فعالية تخص بطلا شهيدا .. هل ثمة من يرى تناقضا ؟ هنا تبدأ تفرد الرؤية التى أسهم فى نسجها رجال من الصاعقة زاملوا او خدموا او تتلمذوا على «منسي» ، ثم اصدقاء طفولة وصبا .. جيران و احباء و حتى اناس لم يلتقوا منسى يوما و لا عرفوا عنه ، الا بعد الاستشهاد ، و هذا من عناصر الدهشة . كان المسار المعد للـ «ماراثون»، يبدأ من مجلس مدينة العاشر و ينتهى عند قبر الشهيد ( مسافة نحو ثلاثة كيلو ) .. اجواء الصباح وان كانت مبكرة نسبيا ، لم تحجب الشمس الوهاجة ..طوابير الـ «ماراثون» بدأت بشبابها و ستاتها وعيالها ،و تقدمتها سيارات تحمل اجهزة تكبير الصوت ، التى تضبط ايقاع الخطوات على هتافات باسماء الشهداء و « تحيا مصر»... فى سيارة احد محبى «منسي» ، المحامى رأفت بلاط ، تابعت ركب الماراثون حتى وصل الى قبر الشهيد .. يتحدث المقربون من « منسي» عن «مصريين »، لا عرفوه ولا التقوه به فى حياته ، و تواصلوا مع الاسرة بعد استشهاده ليعرفوا مثواه الاخير ،و ان هؤلاء لم يكتفوا بالزيارات وقراءة الفاتحة ، بل بدأت مساهماتهم ، و معهم اولادهم ، فى كل ما يتعلق بالفعاليات التى ينظمها احباء «منسى »، تستهدف بناء و اتساع دائرة «ذاكرة وطنية » ، لا تغفل روحا منحت نفسها للوطن .. قبل خمسة و اربعين عاما ، ضممت ليلى ابراهيم الرفاعى الى صدرى ، و طوقت سامح ابراهيم الرفاعى دونما كلمات ... كنت على اعتاب الحياة ، بعد ، لم اكن قد صرت « اما» ، كانت تتنازعنى و قتها كل اطياف و اشواق الحياة .. .. ، كان احتضانى «ليلى و سامح الرفاعى »، خليطا من حزمة مشاعر و كان الفوران الذى تتضاءل معه الكلمات .. عند نقطة انتهاء «ماراثون منسي» ، حملت عاليا «منسي» ، و قد اسندت ظهرى الى السيارة التى تفضل صاحبها باصطحابى ... رحت اداعب خصلات شعرها المعقود ،و عينيها التى بدت تحمل الوانا من «قوس قزح « ..استحضرت نفس اللقطة ، قبل خمسة واربعين عاما .. من الشهيد « ابراهيم الرفاعى » الى الشهيد « احمد صابر منسي» سلسال مصر « النظيف» « النبيل»..

«م..ن..س..ي» الذى لا ينسى ... الميم يعنى « مصر » .. النون يعنى « نصر» ، السين يعنى « سلام» سلام على من يقاتلون بالليل و فى الصبح يعودون فى الاكفان ..

رابط دائم: 
اضف تعليقك
البريد الالكترونى
الاسم
عنوان التعليق
التعليق