رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

انتصار أكتوبر .. لحظة تضامن عربى قابلة للتكرار

> أحمد أبو الغيط

 

◙ معركة رمضان جسدت قدرة العرب على الحشد الماهر لكافة أوراق التأثير والضغط
◙ هزيمة 1967 كانت محصلةً لفشلٍ كبير على صعيد تحقيق التضامن العربى
◙ استخدام العرب سلاح النفط لم يكن انتقامياً بل موجّهَاً ومُخططاً وسياسياً بامتياز
◙ الأحداث العاصفة بعد 2011 تفرض قدراً أكبر من التلاحم الذي يتحلى بروح أكتوبر

 

 

صعبٌ على الأجيال التي لم تُعايش – لحُسن حظها بالطبع- أيام الهزيمة المُرّة في الخامس من يونيو 1967 أن تتصور هول هذه الأيام، وثِقل وطأتها على الجيلِ الذي عاصرها واكتوى بنارها، وهو الجيل الذي أنتمي إليه. لم تكن الهزيمة لحظة تراجُع عسكري، أو انكسار ميداني، بقدر ما كانت انسحاقاً كاملاً للطموح، ووأداً قاسياً لآمال عِظام شيدناها في الخيال شباباً، فإذا بالواقع يعصف بها عصفاً ويهيل عليها التراب.

ولا شك أن الأمل في وحدة عربية جامعة كان من أولى ضحايا هذه الهزيمة، ذلك أن طموحات الوحدة تأسست على قدرة العرب على الدفاع عن أنفسهم بأنفسهم، وعلى تحرير الأراضي المحتلة بقوة اتحادهم. وقد كانت الهزيمةُ، بالصورة المُفجعة التي جرت بها، ضربة للفكرة العربية ذاتها .. ضربة في الصميم. لقد صار منطقياً أن يقف المواطن العربي العادي، من المُحيط إلى الخليج، مشدوهاً حائراً أمام ذلك الانهيار السريع والمفاجئ في الموقف العسكري على جبهات المواجهة مع إسرائيل خلال أيام قلائل. وصار من حقه أن يسأل ويتشكك، ليس فقط في مدى صدق ما يسمعه في وسائل الإعلام من انتصارات تبين أن جُلها وهمي، وإنما في مدى جدارة الفكرة العربية ذاتها. صار من حقه أن يتشكك ويتساءل إن كانت القومية العربية مجرد شعاراتٍ وأغانٍ بلا مضمون واقعي أو مدلول عملي.



لقد كانت قضيةُ فلسطين، وما انتهت إليه حرب 1948 من نكبةٍ مُفجعة، واحدة من المُحركات الرئيسية لصعود الاتجاه القومي في البلدان العربية بعد أن عاينت وجربت ما جلبته الخلافات والصراعات بين الأشقاء من هزيمة وضياعٍ للأرض وتشريد للسُكان. ومن ثمَّ، فقد كانت هزيمة يونيو ضربةً ثانية، أو نكبة ثانية إن شئت، لهذا الاتجاه القومي وذلك المدُ العروبي. فإذا كانت القومية العربية غير قادرة على استرجاع الأرض ومواجهة المحتل الغاصب، فهي فكرةٌ سياسية لا يُعوّل عليها ويتعين الانفضاض عنها. والحال أن هزيمة يونيو مثّلت بالفعل نقطة الصعود في مُنحنى الأيدلوجيات المنافسة للقومية العربية، وعلى رأسها الإسلام السياسي بطبعاته المُختلفة، والذي تلقف مناصروه هذه الهزيمة المُرة باعتبارها فُرصة ذهبية لإزاحة القومية العربية من «سوق الأفكار السياسية» في العالم العربي.

67 لم تكن البداية

والحقيقةُ أن لديّ رؤية مختلفة بعض الشيء في هذا الموضوع، فاعتقادي أن هزيمة 1967 لم تكن بداية التراجع في القومية العربية، بل هي كانت - في حقيقة الأمر- محصلةً لفشلٍ كبير على صعيد تحقيق التضامن العربي على أرض الواقع، وهذا وصفٌ هينٌ للحال، ذلك أن الواقع القائم كان يتجاوز الفشل في تحقيق التضامن إلى الانخراط في المشاحنات والصراعات الدامية التي خصمت من القوة الإجمالية للعرب. وبرغم ما أعلمه من شيوع الانطباع بأن سنوات الخمسينات والستينات كانت تُمثل ذروة الفكرة العروبية وقِمة التوجهات القومية، فإننيّ لا أقبل هذه الرؤية، وعندي إزاءاها عددٌ من التحفظات.

إن هذين العقدين بالذات مثلا ذروة الأمل في الوحدة العربية، وقمة المشاعر القومية الفياضة الصادقة. على أن هذا الأمل وتلك المشاعر لم يُترجما في صورة عملية. بل إن الواقعَ القائمَ كان يُكذب هذا المنحى العروبي على طول الخط. لقد ظلت العروبة فكرةً حاضرة في الوجدان العام، وفي الخطاب الإعلامي والأعمال الفنية، من دون أن تُترجم إلى واقع استراتيجي ملموس ومؤثر. وظلت المنافسة والصراع هما عنوان العلاقات العربية-العربية، حتى نعت البعضُ فترة الستينيات بـ «الحرب الباردة العربية».

لقد كانت الوحدة المصرية- السورية واعدةً، إلا أنها لم تدُم سوى شهور (فبراير1958-سبتمبر 1961). ثم جاءت حربُ اليمن، وهي في جوهرها صراعٌ عربي/ عربي، لتُضعِف الوضع الاستراتيجي العربي بصورة قاتلة منذ سبتمبر 1962، وحتى اندلاع حرب يونيو 67. ولم تكن تلك جميعاً سوى مظاهر لحالة من التشرذم والتفكك في المنظومة العربية. إنها الحالة التي وصفها موشيه ديان يوماً بقوله: «إن التناقضات العربية سياجُ أمنٍ يحمي إسرائيل». وهو قول دقيق إلى أبعد حد، ذلك أن حشد الإمكانات العربية جميعاً، وبصورة مُنسقة، في مواجهة إسرائيل كان كفيلاً بوضعها في موقف الضعف الكامل. غير أن هذه الإمكانات لم تكن -في واقع الأمر- مُبعثرة فحسب، بل إن بعضها كان يضرب بعضاً. وبالاختصار، فإن فوهات البنادق العربية لم تكن كلها موجهة إلى حيث كان يجب أن تصوّب.

الطريق إلى حرب أكتوبر كان يمر، والحال هذه، عبر ترميم العلاقات العربية-العربية. وقد أدركت القيادات العربية هذه الحقيقة بعد أن عاينت عُمق التهديد وخطورة الوضع الذي تمثله الهزيمة واحتلال الأراضي العربية، ليس فقط من زاوية الاحتلال المُباشر لأراضٍ عربية لدول المواجهة (مصر وسوريا والأردن)، وإنما في وضع شرعية كل النظم العربية على المحك، وفي كسر نظرية الأمن القومي العربي بصورة كاملة.

ويُمكن القول أن روحاً جديدة قد وُلدت من رحم الهزيمة، التي وإن كانت قد وجهت ضربة قاصمة للكبرياء العربي، إلا أنها لم تجعل العرب يركعون. وقد جسدت قمة الخرطوم في سبتمبر 1967 – والتي عُرفت بقمة اللاءات الثلاث- خُلاصة هذه الروح الجديدة. وكان أهمُ ما تمخض عن القمة هو تحقيق المصالحة المصرية-السعودية، بعد سنوات من العداء المفتوح في الميدان اليمني. لقد كان الشِقاق بين القاهرة والرياض جُرحاً غائراً في جسد المنظومة العربية، إذ أشاع حالة من الاستقطاب الضار بين ما يُعرف بالنُظم الجمهورية والنظم الملكية. وكان من نتيجة هذا الاستقطاب أن اضطرت مصر أن تخوض حرب الخامس من يونيو ولديها نحو عشرات الآلاف من قواتها في اليمن، وهو موقفٌ لا شك أنه لم يفُت على ذهن المُخطِط الإٍسرائيلي وهو يختار تاريخ الضربة وطريقة توجيهها.

وأقول هنا إن حالة الوفاق المصرية - السعودية بالذات تُمثل صِمام أمانٍ نادراً للنظام العربي، فإذا ازدهر هذا الوفاق ازدادت المنظومة العربية رسوخاً ومنعة واستقراراً، والعكس بالعكس. وهذه «القاعدة الذهبية» صالحة للتطبيق اليوم، تماماً كما كان الحال إبّان حرب أكتوبر 73. إنها مُعادلة النجاح والاستقرار في الإقليم، ذلك أنها تجمع عناصر القوة العربية في مزيج نادر. والناظر إلى التاريخ المُعاصر للمنطقة العربية يرصُد على الفور اقتران فترات الاستقرار والاتزان في النظام العربي بالتوافق والانسجام على المحور المصري-السعودي. فهذا المحور قادرٌ على حشد مقومات التأثير وأوراق الضغط على نحو يمنح الوضع الاستراتيجي العربي العام قوة لا نظير لها. وهو أيضاً قادرٌ على ضبط مجمل التفاعلات العربية -العربية وتسييرها في اتجاه إيجابي بعيداً عن الاستقطاب والعداء.

إن مُعالجة الوضع العربي المهترئ، وحشد القوى العربية المُبعثرة، وإنهاء حالة الاستقطاب .. كانت كلها مُقدمات ضرورية للإعداد لمعركة استرداد الأرض، وعلامات على الطريق إلى أكتوبر المجيد. والحقيقةُ أن هذا الإدراك لم يكن قائماً لدى دول المواجهة فحسب، بل لدى باقي الدول القادرة على الإسهام في المجهود الحربي بصور مختلفة ومتفاوتة، والتي عُرفت بـ «دول المُساندة».

مواجهة الانكشاف الاستراتيجى

إن واقع احتلال الأراضي العربية، قد ولد شعوراً لدى مختلف الدول العربية بـ «الانكشاف الاستراتيجي». وقد وصف الرئيس السادات هذا الوضع بدقة في اجتماعٍ مع مختلف القيادات المصرية فيما عُرف بمجلس الأمن القومي في 30 سبتمبر 1973 (أي قبل أيام من بدء العمليات العسكرية)، حيث تطرق - وأنا أنقل هنا عن محضر هذا الاجتماع كما أوردتُه في كتابي «شاهد على الحرب والسلام»- إلى الإطار العربي للجهد المصري للتحضير للمعركة ضد إسرائيل، وأخذ يشرح محاولاتِه تأمين أرضية تعاون عربي عميق، وذلك رغم التناقضات العربية السائدة والتي تعوق حشد الموارد لدعم مصر في جهدها الدبلوماسي والعسكري. وأشار الرئيس السادات إلى أن التهديد الإسرائيلي لا يقتصر على مصر وأراضيها أو الأراضي الفلسطينية والعربية المحتلة الأخرى، بل إن التهديد يشمل الجميع. «ولا يغيب عن المراقُب المُدقق أن يلحظَ أن المسافةَ بين رأس محمد في سيناء بالقرب من شرم الشيخ والإسماعيلية، هي ذاتها المسافة بين رأس محمد والمدينة المنورة- على سبيل المثال، وهو ما لا يغيب عن العدو أيضاً».

إن الطريق إلى معركة أكتوبر شهد إعادة اكتشاف العرب لذواتهم.. إعادة تقييمهم لقُدراتهم الذاتية وكيفية توظيفها واستخدامها في معركة مصيرية كُبرى، لها أبعادٌ استراتيجية عالمية لا تُخطئها عين.. معركة مُركبة ومُعقدة وعالية المخاطر تتطلبُ حشداً ماهراً لكافة أوراق التأثير والضغط. لقد استطاع العربُ – ولأول مرةٍ منذ وقت طويل- حشد قواهم الذاتية بصورة غير مسبوقة. وأول هذه القوى هو الجغرافيا ذاتها.

إن أخطر ما يُصيب إسرائيل بالرُعب هو حقيقة كونها دولة تفتقر إلى العُمق الاستراتيجي يُطوقها مُحيطٌ عربيٌ رافض. أما الدولُ العربية، وفي حالة توفر الرابطة المتينة والثقة بينها، فإنها تصير عُمقاً استراتيجياً لبعضها البعض، بكل ما ينطوي عليه ذلك من دلالات استراتيجية. لقد صارت ليبيا والسودان (التي نُقلت إليها الكلية الحربية المصرية في فترة حرب الاستنزاف تجُنباً للضربات الإسرائيلية) عُمقاً لمصر، تماماً كما كانت العراق عُمقاً لسوريا. ووفرت اليمن عُمقاً إضافياً للمعركة عندما ساعدت القوات البحرية المصرية على إغلاق مضيق باب المندب بالتزامن مع بدء العمليات العسكرية في أكتوبر، مما أفقد إسرائيل ميزة سيطرتها على مضايق خليج العقبة.

ولا يخفى أن أحد الأسباب الرئيسية وراء تحقيق مُعظم الأهداف في أكتوبر هو اختيار القيادتين؛ المصرية والسورية، تنسيق العمل العسكري وخوض المعركة كشريكين. لقد فرض ذلك على إسرائيل أن تقوم بتوزيع قوتها بطول خط المواجهة على جبهتين، كما أعطى للمعركة بُعداً قومياً واضحاً، ووضع إسرائيل -ومن يُساندها- أمام حساباتٍ مُعقدة في زمن الحرب والسلام.

وهنا، فإنني أُدرك تماماً نقاط الضعف التي اعترت التنسيق المصري-السوري، والتي ظهرت بجلاء أثناء العمل العسكري في أكتوبر وبخاصة ما يتعلق بقرار تطوير الهجوم في 14 أكتوبر والذي اتخذه الرئيس السادات -كما أجمعت المصادر- تخفيفاً للضغوط الإسرائيلية على الجبهة السورية. وقد ظهرت نقاط الضعف في التنسيق المصري-السوري بصورة أكبر خلال المسار السياسي الذي تلى اتفاقيات فض الاشتباك، وبخاصة ما بعد فض الاشتباك الثاني في يناير 1975، وبما عكس غياب فهمٍ مشترك لدى الجانبين لأهداف العمل المُسلح وغاياته على المستوى السياسي.

وبرغم ذلك كله، فإنني لا أظن أن أي منطق سليم يذهب إلى أن نقاط الضعف هذه، مع الاعتراف بوجودها وبتأثيرها في مسار الأحداث، تُمثل حجة ضد مبدأ العمل المشترك ذاته. إن نقاط الضعف في التنسيق لا تنفي أبداً أن المصريين والسوريين خاضوا حربهم معاً، وأن وحدة الدم اختلطت بوحدة التُراب على خط النار. أما المثالب التي ظهرت أثناء التنسيق بين القيادتين، السياسية والعسكرية في البلدين، فيتعين أن ينكبَ عليها المؤرخون والمُتخصصون لاستخلاص العبر للمُستقبل. ورؤيتي أن تنسيقاً أكبر وأوسع لخوض معركة مصير تاريخية على هذا النحو كان يُمكن أن يؤتي أثراً مضاعفاً لو توفر له مزيد من التشاور والتحضير والإعداد من أجل الوصول إلى فهم مُشترك، عسكري وسياسي، لكل خطوات المعركة وأهدافها. أقول هذا الكلام ونظري موجهٌ للمستقبل لا الماضي. ليس فقط لمستقبل أي تعاون عسكري عربي/عربي، وإنما لمستقبل العمل العربي المُشترك بوجه عام، سواء في مجالات الدفاع أو غيره. فهذا العمل المُشترك لابد أن يتأسس على أرضية الثقة والتفاهم الكامل والمصارحة التامة.



أمة طارت بجناحيها لأول مرة

إن دول المواجهة وقفت وظهرها مسنود إلى حائط قوي وفرته الدول العربية الأخرى. فرأينا المغرب تُرسل وحدات مُدرعة ووحدات برية إلى سوريا ومصر، واستُخدمت الموانئ الجزائرية في هذا الغرض. ولا شك أن قيام الجزائر بالموافقة على دخول هذه المُعدات بأفراد مغاربة إلى أراضيها وموانيها يُمثل خطوة كبيرة تعكس مدى الولاء الجزائري لفكرة دعم سوريا وقوات المشرق في المواجهة مع إسرائيل. لقد رأينا الأمةَ تطير بجناحيها، المشرق والمغرب، لأول مرة منذ سنواتٍ طوال في أقصى توظيف ممكن للإمكانات العربية.

ورأينا السلاح العربي يتدفق على دول المواجهة، وأغلب الدول العربية تُشارك بقواتٍ رمزية أو حقيقية: ليبيا قامت بشراء طائرات ميراج من فرنسا وذهب الطيارون المصريون -بجوازاتِ سفرٍ ليبية- ليعودوا بها، والرئيس الجزائري بومدين دفع 200 مليون دولار (مبلغ هائل بمقياس ذلك الزمان) للاتحاد السوفيتي مقابل أسلحة لمصر وسوريا، والعراق شارك على الجبهة المصرية بسربٍ من طائرات الهوكر هانتر وصل إلى مصر في مارس 1973 وأثبت فاعليته الكبيرة في المعركة، حتى أن بعض الوحدات المصرية البرية كانت تطلبه بالذات لتغطيتها جوياً أثناء العمليات العسكرية- وفقاً لشهادة الفريق الشاذلي في مذكراته. وفضلاً عن ذلك فقد شارك العراق بأربعة أسرابٍ جوية وفرقة مدرعة وفرقة مشاة على الجبهة السورية. أما دول الخليج، وعلى رأسها المملكة العربية السعودية والكويت والإمارات فقد تحملت قسماً معتبراً من العبء المالي لإسناد دول المواجهة، سواء في وضعها الداخلي أو مشتريات السلاح، وقد بلغت هذه الإسهامات ما يقترب من ثلاثة مليارات دولار في السنوات التالية للهزيمة، وملياراً رابعاً خلال الفترة التي شهدت الإعداد للحرب. على أن أهم إسهام قدمته هذه المجموعة الأخيرة يظل الاستخدام الناجع والفعّال لسلاح النفط، وتوظيفه في المعركة بصورةٍ أثبتت تأثيرها الكبير.

والحقيقة أن سلاح النفط ذو حساسية عالية، ويتعين إدارته بحنكة شديدة. لقد كان العالم العربي يُسيطر في هذه المرحلة على نحو ثلثي الإمكانات النفطية المُحتملة، ونحو ثلث الانتاج العالمي. وكان النفط – وما زال إلى اليوم برغم كل المتغيرات التكنولوجية- عصب الاقتصادات الصناعية المتقدمة. غير أن استخدام النفط كسلاحٍ سياسي أمرٌ محفوف بالمخاطر. وقد كانت القيادات الإسرائيلية ذاتها على علمٍ بتعقيدات استخدام مثل هذا السلاح حتى أن أبا ايبان -وزير خارجية إسرائيل الأشهر- قال ذات مرة أنه «ليس أمام العرب إلا أن يبيعوا النفط أو يشربوه». أما جولدا مائير فقالت: « إن سلاح البترول الذي يُهدد به العرب هو سلاحٌ وهمي، فلقد عرفت القيادات العربية طعم الرخاء الاقتصادي وهي ليست على استعداد للتضحية بهذا الرخاء في سبيل قضية عربية مُشتركة».

والحقُ أن العربَ أثبتوا أن السلاح ليس وهمياً بأي حال، أخذاً في الاعتبار أنهم كانوا يدركون جيداً التعقيدات التي ينطوي عليها استخدام مثل هذا السلاح الخطير في الشئون الدولية. وقد ظهر هذا الإدراك واضحاً في مناقشات مجلس الأمن القومي المصري في 30 سبتمبر، والتي أشرتُ إليها آنفاً. حيث قال الدكتور «عزيز صدقي» خلال الاجتماع إن استخدام النفط كسلاح يجب أن يتحقق، لأن انقطاعه سوف يفرِض على الجميع التحرك.. وعقبَّ الدبلوماسي الأريب الدكتور أشرف غربال بالإشارة إلى أننا يجب ألا نسعى لوقف إمدادات البترول للعالم الخارجي؛ لأن ذلك سيؤدي إلى نشوب حرب ضد العرب.. إلا أن تخفيف الإنتاج والصادرات يُمكن أن يحقق الهدف المطلوب.

وهذا ما جرى بالفعل .. قرر وزراء البترول العرب، في اجتماعهم في الكويت في 17 أكتوبر، البدء في خفضٍ فوري للإنتاج بنسبة 5% شهرياً، وقطع إمدادات البترول عن الولايات المتحدة والدول المُعادية التي تُساند إسرائيل (مثل هولندا). أما السعودية فقد قامت بخفض انتاجها بنسبة 10% قبل أن تعلن مع الإمارات والكويت والبحرين وقطر والجزائر وليبيا وقف تصدير بترولها إلى الولايات المتحدة الأمريكية. وقفز معدل الخفض في وقت قصير إلى أقصى السقف المحدد له (25%). ولم يكن توجيه هذا السلاح عشوائياً، بل ميزَّ بوضوح بين الأعداء والأصدقاء ومن هم على الحياد، وبصورة تمنح الدول حافزاً لتغيير مواقفها، وهو ما حدث بالفعل مع بعض دول أوروبا الغربية واليابان. لذلك فقد عاود العرب رفع سقف الانتاج في يناير 1974 ليصل إلى 15% لتعزيز وتشجيع المواقف الأكثر اعتدالاً بين دول أوروبا الغربية على وجهِ الخصوص.

إن استخدام العرب لسلاح النفط كان مثالياً لأنه لم يكن عشوائياً ولا انتقامياً، بل كان موجّهَاً ومُخططاً ومنضبطاً، والأهمُ أنه كان سياسياً بامتياز. ولا عجبَ أن تكون مسألة الحظر النفطي على رأس قائمة الموضوعات التي طرحها كيسنجر ونيكسون في بدايات الاتصالات الأمريكية-العربية في أكتوبر 73 وما بعده. لقد كان التأثير واضحاً وموجعاً. وعندما أستمع إلى صيحات معاودة استخدام هذا السلاح من آونة لأخرى، فإن الذاكرة تعود بي دوماً إلى تلك الفترة في السبعينيات التي أدخلت العالم كله في حقبةٍ اقتصادية جديدة على إثر الاستخدام المؤثر لهذا السلاح (ارتفع سعر برميل البترول من دولارين تقريباً قبل بدء المعركة إلى 14-18 دولارا في غضون شهرين، وقفزت أرباح الدول العربية -برغم خفض الانتاج- بنسبة 333%!).

6 أكتوبر وصناعة التاريخ

والحقيقةُ أن حرب أكتوبر بلورت الإمكانات والطاقات العربية، الجغرافية والبشرية والحضارية، بصورةٍ غير مسبوقة. وكما لخصت ورقة أكتوبر (الوثيقة السياسية التي أطلقها الرئيس السادات في عام 1974) هذا المعنى فإن «حرب أكتوبر طرحت الإمكانات العربية كحقيقة واقعة، لا كمجرد احتمال بعيد».

إن أهم مُنجزات العمل العسكري الفذ في أكتوبر -من وجهة نظري- هو بث الروح وإعادة الحياة إلى الجسد العربي. لقد أعادت أكتوبر الوزن السياسي للعرب. دفعتهم من جديد كلاعب على المسرح الدولي، وليس مجرد كيان هامد؛ منزوع الإرادة والفعل. وقد عبرَّ جمال حمدان، الجغرافي المصري الشهير، عن هذا المعنى بصورة بليغة في كتابه «حرب أكتوبر في الاستراتيجية العالمية»، حيث كتب: «لأول مرة خرج عرب 6 أكتوبر وهم صُنّاع التاريخ، بعد أن ظلوا طويلاً لعبة التاريخ، وتحولت المنطقة من منخفض سياسي إلى منطقة ضغط سياسي مرتفع؛ مؤثرٍ وفعّال».

إن ما جرى من تنسيق وتعاون عربي على الطريق إلى أكتوبر هو جزءٌ لا يتجزأ من ملحمة الحرب نفسها. وهو درسٌ كبير لنا اليوم. قد تكون التحديات التي تواجهنا مختلفة عن تلك التي واجهت جيل أكتوبر، على أن السبيل للمواجهة يظل واحداً. القاعدة الذهبية هي أن اجتماع الإرادة العربية، في الحرب كما في السلام، يظل مصدر قوة. وعندما تفرقت الرؤى بعد الحرب، واختارت مصر طريقاً استراتيجياً رفضه الآخرون، فإن هذا -ولا شك- أضعف من موقف الجميع، وسحب من الرصيد العربي الإجمالي الذي ظلّ يُستنزفُ حتى وصلنا إلى احتلال دولة عربية لشقيقتها في 1990.

وبرغم ضياع وقتٍ ثمين فقد اجتمع العربُ على موقفٍ موحد إزاء التعامل مع إسرائيل، إذ استقروا على السلام كخيار استراتيجي في قمة القاهرة 1996، وتوافقوا -منذ 2002- على مبادرة السلام العربية كصيغةٍ مقبولة لحل الصراع العربي-الإسرائيلي. ولا شك أن هذا الاجماع وذلك التوافق يُمثلان عناصر قوة مُضافة إلى الموقف العربي، ويحولان دون الانزلاق إلى منحدر المُزايدة والتشاحن اللذين كلفا العالم العربي وقتاً غالياً، وضيّعا على دولِه فُرصاً قد لا تتكرر.

إن الأحداث العاصفة التي ضربت العالم العربي منذ 2011 فرضت – وللمفارقة!- قدراً أكبر من التلاحم والتضامن والتعاضد الذي ذكرّنا، في بعض جوانبِه على الأقل، بروح أكتوبر المجيدة، من حيث توظيف أدوات الضغط كافة، وتوزيع الأدوار، وتنسيق المواقف من أجل احتواء الأزمات وإطفاء الحرائق التي اشتعلت هنا وهناك في أركان المنطقة. ورأينا التنسيق العربي يُحرز بعض النجاحات حيناً، ويتعثر حيناً آخر. وفي كل الأحوال، فإن روح أكتوبر تظل مُلهمة للعرب في كل وقت. فهي روحٌ قوامها الثقة في الذات وفي الآخر الشقيق، وجوهرها الشفافية في التعامل وإنكار الذات والذوبان في الهدف.

إنها وحدها الروح الكفيلة بمواجهة التحديات الماثلة أمامنا اليوم. تلك التحديات قد لا تتمثل بالضرورة في تنسيق عملٍ عسكري كما كان الحال في عام 1973. على أن لدي يقيناً بأنها لا تقل جسامة أو خطورة بأي حال. إن إقامة منطقة التجارة العربية الكُبرى، أو تحقيق مشاريع الربط الكهربائي بين دول العالم العربي، هي أهداف ترتبط بعصرنا، وتستلزم جهاداً ونضالاً لا يقل بأي حال عما ناضل من أجله جيل أكتوبر. وهي أهدافٌ قابلة للتحقُق؛ فقط إذا استحضرنا روح أكتوبر المجيد وتمثّلناها في عقولنا وقلوبنا، وترجمناها في أعمالنا وأفعالنا. إن أكتوبر كان فاتحة لزمن عربي جديد، ولحظة التعاضد العربي التي شهدتها هذه الملحمة الفذة قابلة للاستعادة والتكرار في كل منحى من مناحي العمل العربي المُشترك.

رابط دائم: 
اضف تعليقك
البريد الالكترونى
 
الاسم
 
عنوان التعليق
 
التعليق