المدهش فى الحياة أنك كلما اعتقدت أنك أحطت بها، فاجأتْك بنسخة أخرى منها، كأن قدرك أن تظل على «أهبة نفسك»، تفتش عنها ولا تجدها. هكذا يبقى حبل البحث على الجرّار.
وفى محاولة لترويضها قدم لنا الكاتب الفرنسى «أندريه موروا» وصفة فلسفية ناجحة فى كتابه عن «فن الحياة». سجل فيه تجربته، وتجارب آخرين، لنرى أن الحياة التى اختاروها أنارت لنا الطريق.
ويعرض فيه لـ «الحب، والزواج، والحياة العائلية، والصداقة، والتفكير، والعمل، والزعامة، والشيخوخة، والسعادة». وينقسم إلى محورين ينزع أحدهما إلى الآخر. الأول عن الذات فى علاقتها بغيرها ويشمل الموضوعات الأربعة الأولي، والثانى يحلل طريقة الذات فى الوصول إلى المرفأ.
والحب عنده هو «تحويل الرغبة الهائمة إلى عاطفة دائمة»، ويحلل لماذا يحدث أننا نختار شخصاً واحداً نركز عليه اهتمامناً؟ ويعلل هذا بحالة التشوق، أثناء المراهقة وقبيل الخمسين، إلى الحب، وكذلك بنظرية «البرق الخاطف»..الحب من أول نظرة، أو القدر المكتوب. وطريقة المرأة فى تأكيد الحب لفتت نظر الفيلسوف «ألن» الذى اتفق معه «موروا» على أن أعظم قوة للمرأة تكمن فى غيابها أو تأخرها عن مواعيدها، ما يجعل الحب «شوكة تزيدها طبيعة شكلها غوصاً فى لحم الإنسان، كلما حاول انتزاعها». وكذلك يعرض للوسائل التى يسترعى بها الرجل والمرأة نظر الآخر وأهمها «الموضة» مؤكداً أن الطاووس، بزينته «واحد من انتصارات الطبيعة على الفن». وتساءل:«من أى شىء صنع هذا الحب الذى تلده الرغبة ثم يعيش بعد فنائها؟»،غير أن الرغبة تذعن للمجتمع الذى يحولها إلى زواج، مؤكداً أن «الزواج الرابطة الوحيدة التى يستطيع الزمن تقويتها»، بعد أن فشلت كل محاولات إدراك السعادة عن طريق الملذات. والحياة العائلية هى الأخرى كالزواج، شئ لا يمكن استبداله بآخر يعوض الناس عنه، هو أنه يحوّل غريزة الفرد إلى حساسية اجتماعية.
أما فى الصداقة فتحل الأحاسيس الفكرية محل الغريزية، وميلادها أكثر بطئاً، وإن كنا نصادق كثيرين، فلأننا، مع «أبيل بونار» نتعزى بوجود عدد من الأصدقاء عن عدم عثورنا على صديق حقيقى واحد.
وفى المحور الثانى نعرف أن التفكير «عبارة عن رسم تحضيرى للفعل»، ولكى تكون أفعالنا صحيحة لا بد أن يكون تفكيرنا صحيحاً، أى أن يكون نموذجنا للعالم الخارجى مطابقاً للأصل. وأول شيء يجعل ذلك ممكناً أن ننظم حركة تداول الكلمات، لأن هذا المنطق سيفضى بالضرورة إلى إيجاد قواعد للتفكير واتباعها.
وأهم القواعد تجنب التناقض مع تحاشى العاطفة والعجلة والتحيز، وليس هناك أفضل من المواظبة على استعمال عبارة «لست أدرى».
وبالنسبة للعمل هو «تحويل أو تحريك الأشياء أو المخلوقات بطرق تجعلها أكثر نفعاً أو أكثر جمالاً»، ويرى «موروا» أن ضمانة نجاح العمل أن نختار نقطة للهجوم ونركز عليها قواتنا. مع الإيمان بأن النجاح غير مستحيل إذا أحسن المرء اختيار الهدف.
وتقدم السن «الشيخوخة» عند موروا هو الفن الذى يهدف إلى أن تنظر الأجيال المقبلة إلى الإنسان نظرتها إلى مستودع أسرار، لا إلى منافس أو جدار ينهار. ويختم كتابه بالسعادة، كأن القارئ إذا التزم بما جاء فيه، سيصل إليها فى نهاية الأمر، باعتبارها الخندق الذى استنفدنا أكثر الطرق براعة فى بنائه وآن لنا أن نحتمى به. يقول موروا، بيقين المخلصين: «هذا الاضطراب من حول نقطة ثابتة هو الحياة، والتأكد من وجود مثل تلك النقطة هو السعادة».
الكتاب تأليف «أندريه موروا»، وترجمة «أحمد فتحى»، وصادر عن سلسلة كتاب الشعب 1958.
رابط دائم: