رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

مصر الشاعرة
حانة الأقدار

بقلم: أحمد عبد المعطى حجازي
الموشح هو موضوع حديثنا هذا الشهر. لأن الموشح فن من فنون الشعر العربى اجتمعت فيه عناصر متعددة يتيح لنا النظر فيها أن نعرف الكثير عن الشعر العربى وعن الإضافات والتجديدات التى عرفها فى البلاد التى انتشرت فيها الثقافة العربية،

وعما أسهمت به مصر وغيرها فى فن الشعر وفى الأشكال المختلفة التى ظهرت فيه، وعن الحوار الخصب الذى دار بين ثقافات هذه البلاد. فضلا عن أن الموشح ليس شعرا فقط، وإنما هو شعر وموسيقى وغناء. والحديث إذن عن الموشح حديث جامع يكشف الكثير ويعود بنا إلى عهود زاهية عرفتها الحضارة العربية دون أن تنقطع عن الحاضر الذى لا يزال فيه الموشح تراثا حيا يجمع بين المشارقة والمغاربة. بين فاس والجزائر وتونس والقاهرة وبيروت ودمشق بين سيد درويش والرحبانية.

وقد ظهر الموشح أول ما ظهر فى الأندلس فى نهايات القرن الثالث الهجرى العاشر الميلادي. ولا شك أن المحاولات الأولى فيه تميزت بالبساطة وربما بالسذاجة، لكنها سارت فى طريق النضوج حتى وصل الموشح إلى ما وصل إليه على أيدى شعراء القرون التالية أمثال عبادة بن ماء السماء، والأعمى التطيلي، وابن بقي، وابن زهر وابن الخطيب:

جاءك الغيث اذا الغيث هما

يازمان الوصل فى الأندلس

لم يكن وصلك إلا حلما

فى الكرى أو خلسة المختلس

لماذا ظهر الموشح فى الأندلس؟

الإجابة التى تستطيع أن تقدمها الآن وربما أعدنا النظر فيها هى أن الأندلس كانت بيئة مهيئة لظهور فن يجمع بين الشعر والموسيقي. فالموشح ليس كلمات فحسب. وهو لا ينظم ليقرأ أو لينشد كما نقرأ القصيدة أو ننشدها، وإنما ينظم ليلحن ويغني، تماما كما يحدث مع الكلمات التى نظمها شوقي، وبيرم، ورامي، وحسين السيد، وصلاح جاهين، ومرسى جميل عزيز وسواهم لنسمعها ألحانا مغناة لا لنقرأها فى الصحف أوفى الدواوين.

ونحن نعرف أن الأندلسيين والاسبان عامة مغرمون بفنون الموسيقى والرقص والغناء. والذين شاهدوا الاسبان يرقصون الفلامنكو رجالا ونساء، فرادى ومجتمعين يرون كيف يتحول الرقص إلى تشكيلات رائعة وتعبيرات مثيرة بالجسد كله عن عواطف الراقصين والراقصات وانفعالاتهم وعن تفرد كل منهم واتحادهم وانفراطهم وقدرتهم الفذة على أن يجمعوا بين النظام والحرية وبين الجمال والانفعال،

هذه البيئة هى التى أغرت المغنى الشهير زرياب فى القرن الثانى الهجرى الثامن الميلادى بأن يرحل من بغداد عاصمة العباسيين ليستوطن الأندلس حاملا معه ألحان المشرق التى تفاعلت مع ألحان الأندلس ليظهر فن الموشح وسواه من الفنون الأندلسية.

وليس معنى هذا أن الأندلس وحدها كانت تحتفى بالموسيقى أو أنها كانت مهيأة وحدها لظهور الموشح. بغداد كانت فى ذلك الوقت عامرة بالموسيقيين والمغنين الذين تعود أصولهم لفارس والهند واليونان وغيرها من البلاد التى اجتمعت فنونها فى عاصمة الخلافة وازدهر فيها فن الموسيقى وعلا قدره إلى الحد الذى اشتغل به إبراهيم بن المهدى أخو الرشيد وعم الأمين والمأمون.

وكما ازدهر الغناء فى بغداد ازدهر فى مصر التى كانت تمتلك فى الموسيقى الدينية والدنيوية تراثا يجمع بين فنون الفراعنة وفنون اليونان. وحتى مدن الحجاز التى تدفقت عليها بعد الإسلام أجناس مختلفة وثقافات وفنون شتى وظهر فيها من المغنين والمغنيات نشيط الفارس، وعزة الميلاء، وطويس الذى كان يضرب به المثل فى البراعة والإتقان فيقال «أهزج من طويس». إلى أن الموسيقى لم تكن فى المشرق فنا فقط وإنما كانت فكرا أيضا وفلسفة اشتغل بها الكندي، والفارابي، وابن سينا.

معنى هذا أن الموشح كان من الممكن أن يظهر فى العراق أو فى سوريا أو فى مصر، لكن لعله وجد فى الأندلس عوامل مساعدة لم تتوافر له فى غيرها. فماذا يمكن أن تكون هذه العوامل؟

لا نستطيع أن نطمئن إلى جواب، لكننا نعرف أن الموشح شكل شعرى يخضع فى الوزن والتقفية والبناء لقواعد لا يعرفها الشعر العربى فى الشكل الوحيد الذى ظهر فيه وهو القصيدة، على حين نجدها فى شعر اللغات واللهجات اللاتينية والقشتالية التى كان الاسبان يتكلمونها قبل أن يدخل العرب بلادهم، وظلوا يتكلمونها مع العربية التى تأثرت بهذه اللغات المحلية التى فقدت مكانها فى الدوائر الرسمية لكنها ظلت حية فى الأوساط الشعبية التى ظهر فيها الموشح. فما الذى يجمع بين الموشح وبين شعر اللغات واللهجات اللاتينية والقشتالية؟

أظن أن ما يجمع بينهما هو الشكل المركب الذى نجده فى الموشح كما نجده فى السوناتا وفى أغانى التروبادور التى ظهرت فى جنوب فرنسا وايطاليا فى الوقت الذى ازدهر فيه الموشح.

ولنبدأ بالتعرف على الموشح الذى أخذ اسمه من الوشاح بما يحمله من معنى الزينة التى يستدعيها الظهور فى بعض المناسبات. ولأن الموشح شعر ينظم ليلحن ويغنى فى مجالس الأنس والشراب فقد احتاج لصور من المحسنات وفنون من الإيقاع لا يحتاج لها الشعر الذى ينظم فى المناسبات والأغراض الأخري.

،والموشح يتألف من مقاطع تسمى أبياتا، لكنها غير الأبيات التى تتألف منها القصيدة، البيت فى القصيدة سطر واحد، صدر وعجز، أما الموشح فهو مقطع كامل يتألف من مطلع ودور وقفل وتتعدد فيه الأوزان والقوافي، لكن القفل يماثل المطلع فى وزنه وتقفيته كما نرى فى هذا الموشح وهو لابن زهر:

أيها الساقى إليك المشتكي

قد دعوناك وإن لم تسمع

ونديم همت فى غرته

وبشرب الراح من راحته

كلما استيقظ من سكرته

جذب الِّزقِّ إليه واتكا

وسقانى أربعا فى أربع

وعلى هذا النحو تتوالى أبيات الموشح حتى الختام الذى يسمى الخرجة وهو ينظم فى الغالب باللهجة الدارجة. وكان بعض الأندلسيين ينظمونه باللاتينية.

فهذه السطور السبعة كلها بيت. السطران الأولان منها مطلع، والثلاثة التالية دور، والسطران الأخيران قفل.

هذا الشكل الذى ينظم فيه الموشح يذكر بالشكل الذى نجده فى السوناتا. فالسوناتا التى ظهرت فى نهايات العصور الوسطى الأوروبية ـ حوالى القرن الثالث عشر الميلادى تتألف من أربعة عشر بيتا تنقسم قسمين: الأول الأوكتاف ويتألف من الأبيات الثمانية الأولى التى يعبر فيها الشاعر عما يريد من عواطفه وأفكاره. والقسم الأخير الذى يتألف من الأبيات الستة الأخيرة ويكون تعليقا على ما عرضه الشاعر فى الأوكتاف أو ختاما له. والوزن فى السوناتا ثابت وكذلك التقفية التى تتابع على هذا النحو: أ ب ب أ، ثم أ ج ج أ، ثم دهـ هـ د ثم و و فى البيتين الأخيرين.

أما أغانى التروبادور التى ظهرت هى الأخرى فى الوقت الذى ظهرت فيه السوناتا فهى كالموشح فن يجمع بين الشعر والموسيقي. وقد اشتهرت به جماعات من الشعراء الجوالين الذين كانوا يتغنون فى أشعارهم بالأعمال البطولية والمغامرات العاطفية. ويرى بعض الباحثين أن الاسم الذى أطلق على هؤلاء الشعراء الأوروبيين ربما كان مأخوذا من كلمة طرب العربية لأنهم كانوا يغنون أشعارهم فهم شعراء مطربون.

>>>

نستطيع فى هذا الضوء أن نفسر ظهور الموشح فى الأندلس، لكن هذا الفن ما كاد يظهر فى الأندلس حتى وجد فى مصر من يحتضنه وينظم فيه ويغنيه ويستنبط أصوله وقواعده كما فعل الشاعر المصرى ابن سناء الملك فى كتابه «دار الطراز فى عمل الموشحات»:

الراح فى الزجاجة

أعارها خد النديم

حمرة الورد

واستوهب نسيمه

فهيجت نشر العبير

مع شذا النَّدَّ

ما همت بالحميا إلا وقد سقتني

مليحة المحيَّا مليحة التثني

والحسن قد تهيا فيها بلا تأن

>>>

طابت لى اللجاجة

وقلت للأشجان دومي

ما أنا وحدي

ذو مهجة مقيمة

فى القرب من ظبى غرير

وهو فى البعد

قلبى لها يتوق وقلبها يقول

هيهات لا طريق هيهات لا وصول

فقلت والمشوق يقنعه القليل

اقض لى فرد حاجة

يا ست بوسة فى الفميم

وآخر فى الخدِّ

والحاجة العظيمة

أن نطلعوا فوق السرير

ونحط يدي!

يقول الباحث السورى الدكتور جودت الركابى الذى قام بتحقيق الكتاب وهو يعرفنا بابن سناء الملك «هو أبو القاسم هبة الله بن القاضى الرشيد أبى الفضل جعفر بن المعتمد سناء الملك الملقب بالقاضى السعيد والمعروف بابن سناء الملك، شاعر مفتن، أول من أدخل فن الموشحات إلى الشرق. ولد بالقاهرة أو بضواحيها فى حدود سنة 550هـ (1155م).. برع فى العلوم الدينية واللغوية والأدبية، ولكنه منذ شبابه أظهر ميلا عظيما للشعر ولاسيما الموشح، هذا الفن الجديد الذى وجد فيه طريقه ووافق نفسه وهواه بعد أن انبعث فى بلاد الأندلس وازدهر فيها. ومع أن ابن سناء الملك يعترف بأنه لم يأخذ هذا الفن عن أستاذ أو شيخ ولم يتعلمه فى كتاب فإننا نؤكد أنه كان على معرفة بآثار الوشاحين الأندلسيين أو المغربيين كما يسميهم كالأعمي، وابن بقي، وعبادة، والحصرى وغيرهم، فهو يذكرهم فى كتابه ويتحسر لعجزه عن بلوغ شأوهم».

والواقع أن ابن سناء الملك لم يقل هذه الكلمة من باب التواضع وإنما كان يشهد بالحق. لكن كلمة ابن سناء الملك لا تصدق عليه وحده بل تصدق على معظم الذين نظموا الموشح من الشعراء المشارقة الذين كانت منظوماتهم فى هذا الفن تجارب فردية لا تقارن بموشحات الشعراء الأندلسيين التى كانت نتاجا لحركة واسعة انتظمت فيها عدة أجيال واستمرت عدة قرون ووصلت إلى هذا المستوى الرفيع الذى وصلت إليه فى موشحات الأعمى التطيلي، وابن ماء السماء، وابن زهر، وابن الخطيب. ومع هذا فابن سناء الملك له فى هذه الحركة مكان محفوظ، فهو كما رأينا فى تقديم الدكتور الركابى لكتابه أول من أدخل هذا الفن إلى بلاد المشرق، ومكنه من أن يستوطنها ويحيا فيها حياة جديدة بعد أن فقد وطنه الأول فى الأندلس، فضلا عن عمل آخر سبق به ان سناء الملك غيره من المشارقة والمغاربة، وهو الجهد الذى بذله فى تحديد قواعد الموشح وبيان خصائصه وطرق نظمه وأوزانه مما نجده فى كتابه «دار الطراز» الذى يضم إلى جانب هذا الجهد مختارات من موشحات الأندلسيين ومن بعدها موشحات الشاعر المصنف ابن سناء الملك. ولا أجد ختاما لحديثى أجمل من هذا الموشح الذى نظمه الشاعر طاهر أبو فاشا وغنته كوكب الشرق ولحنه لها محمد الموجي:

حانة الأقدار

عربدت فيها لياليها

ودار النور والهوى صاحي

هذه الأزهار

كيف نسقيها وساقيها

بها مخمور كيف يا صاحِ؟

سألت عن الحب أهل الهوي

سقاة الدموع ندامى الجوي

فقالوا حنانك من شجوه

ومن جده بك أو لهوه

ومن كدر الليل أو صفوه

سل الطير إن شئت عن شدوه

ففى شدوه همسات الهوي

وبرح الحنين وشرح الجوي

أيكة الأطيار

فى أغانيها لشاديها

على الأغصان ثورة الراح

يا غريب الدار

مِل بنا فيها نناجيها

مع الندمان واترك اللاحي!

رابط دائم: 
اضف تعليقك
البريد الالكترونى
الاسم
عنوان التعليق
التعليق