لا شك أن المسرح فى جانب من جوانبه هو انعكاس للواقع المعاش وتفجير لهمومه وقضاياه .. يحدث ذلك أحيانا فى صورة جمالية تناسب قيم الفن وضروراته وفى أحيان أخرى يكون التعبير بصورة شديدة القبح والقسوة ربما لتتناغم مع بشاعة الواقع ودمويته ..
والمتابع لعروض المهرجان الدولى للمسرح التجريبى فى دورته الرابعة والعشرين يلاحظ أن كثيرا من العروض الأجنبية حملت أثرا من الدماء وأشلاء المتحاربين وقصصا عن قهر النساء وحرمانهن من حقوقهن الإنسانية بينما زادت هذه النغمة فى العروض العربية مع إضافة عنصر آخر هو الإرهاب الذى صار من مكونات الصورة الجديدة
قدمت شيلى عرضها الرسمى «المرأة الدجاجة » المستلهم من قصة حقيقية لامرأة ظلت محبوسة فى قفص الدجاج لمدة عشرين عاما وبالطبع تحمل الفكرة واختيار الموضوع إسقاطا واضحا للنظرة المتدنية للمرأة باعتبارها كائنا وظيفته الوحيدة فى الحياة الإنجاب ورعاية الذرية أو البيض حتى يفقس ثم ينتهى دورها وتنتظر مصيرها المحتوم بالموت أو الذبح بينما يحمل العرض الكينى » الحيوات السرية لزوجات بابا سيجى » بعض التفاصيل الفولكلورية المضحكة والمؤلمة والتى تعكس نظرة المجتمع الإفريقى للمرأة والعرض من تأليف النيجيرية لولا شونيين وإخراج الكينية ميمونة جالو والعرض الصينى أيضا «حب التاسعة والنصف » يروى ماساة امرأة من جنوب الصين وهو أيضا عن قصة حقيقية بينما يطرح العرض الأمريكى «بريفاتوبيا«نظرة إنسانية لظروف اللاجئين من ضحايا الحروب وكيف تقسو عليهم المجتمعات الغنية و تنظر لهم باستعلاء وربما بخوف من ثقافتهم المغايرة وتأثير اللاجئين على سكان الأرض الأصليين .. أما العروض العربية فكانت أكثرها صرخات حادة فى وجه القهر واستعباد النساء فالعرض الأردنى «ظلال أنثي» يحكى عن ثلاث نساء مهاجرات يحملن فى حقائب السفر الذكريات الأليمة والقصص الإنسانية الموجعة ونفس الموضوع تقريبا تناوله العرض المصرى نساء بلا غد والذى قدمه المعهد العالى للفنون المسرحية بممثلات مصريات عن تجربة نساء سوريات فى الغربة وهو من تأليف جواد الأسدى وإخراج نور نواف غانم وهو عرض أكثر من رائع وسر جاذبيته أنه لا يحمل انحيازا سياسيا ولا يهتم حتى بذكر تفاصيل واضحة عن انتماء تلك النساء للمعسكرات المتحاربة ..إحداهن فنانة مسرح تعشق تراث بلدها وتحمل معها كتب التاريخ وأزياء المسرح السورى العريق وتحفظ تراث أجدادها من العباقرة ..ولكنها شخصية حالمة لا تستطيع التعايش مع الواقع أو تغييره .. والثانية فتاة عدوانية ماجنة يتضح عندما تخاطب الجمهور وكأنها تسجل بياناتها أمام موظف وهمى أنها ضحية مقتل طفلها صاحب الأربعة أعوام وبعد أن ضحت بحياتها من أجل علاجه من ثقب فى القلب ثقب جسده الرصاص فى لحظة دون ذنب جناه .. والثالثة دائمة الصلاة والتضرع والبكاء ثم يتضح أنها راغبة فى الفرار من مجتمعها الزائف والذى أقنعها بفكرة جهاد النكاح حتى صارت زوجة لعشرة رجال مختلفين فى عشرة أيام تحت أشرف المسميات العفة والجهاد معا !! وتحكى مسرحية «عربانة» العراقية عن مأساة الثورات والحروب فى حياة البسطاء من الناس وكذلك يشرح العرض العراقى » انفرادي» تمزيق الحروب لشمل الأسر وتشويه سلوك الأفراد بهدف تحقيق أغراض فئوية أو حزبية ضيقة .. ويقدم العرض التونسى «نساء فى الحب والمقاومة» صرخة ضد الزيف ولكنها شديدة المباشرة والخطابية وعاب العرض عدم وضوح اللهجة التونسية المختلطة باللغة الفرنسية طوال الوقت بينما حملت مناطق اللغة العربية من الغموض والألغاز ما يصعب على الكثيرين فهمه .. والعرض من إخراج الدكتور فتحى العكارى وتأليف ابنته مريم العكارى !! ويحكى العرض اللبنانى «ليلة خريف» عن أزمة امرأة حبيسة فى مستشفى للأمراض العقلية تسترجع ذكريات الطفولة قبل الهجرة بسبب الحروب والصراع الدموى الأكثر جنونا ..ولا تختلف العروض المصرية فى نفس التناول وأهمها يوم أن قتلوا الغناء الذى يدين قهر الحاكم المتدثر بعباءة الدين وتحريمه الغناء باعتباره خطيئة أو فى الحقيقة خطرا يوقظ الروح ويملأ الإنسان بالثقة وحب الحياة مما قد يدفعه إلى مقاومة الظلم وهو من إخراج تامر كرم و«السفير» الممثل للهيئة العامة لقصور الثقافة ويتناول أيضا فكرة القهر الذكورى للنساء من إخراج أحمد السلامونى وشامان الذى يتعرض لقهر العادات المجتمعية والأفكار القديمة المعلبة من إخراج سعيد سليمان وقواعد العشق الذى يمثل قهر السلطة الدينية للأفكار المجددة ويمثل كلية الحقوق بجامعة عين شمس من إخراج محمد فؤاد .. وبالطبع حملت عروضا أخرى رؤى مغايرة وأفكارا فنية وإنسانية متنوعة ولكن التركيز الشديد على قضيتى آثار الحروب وقهر النساء أمر لافت للنظر ويحتاج إلى نظرة ليس فقط من نقاد المسرح وعشاقه ولكن أيضا من علماء السياسة والمجتمع وكل من يهمه أمر التقاط صوت الاستغاثة الواضحة قبل أن يفوت الأوان.
رابط دائم: