منذ أول زيارة لى لمقر مجلس حقوق الإنسان فى مقر الأمم المتحدة بمدينة جنيف السويسرية أوائل العام الحالي، ظل سؤال يدق رأسي: هل هؤلاء هم «دعاة ونشطاء» حقوق الإنسان الذين نقرأ مقالاتهم ونشاهدهم على الشاشات أحيانا وهم يتشنجون دفاعا عن الحقوق والحريات؟
أتيحت لى الآن زيارة المجلس، خلال دورته السادسة والثلاثين، فى ظرف فريد يساعد كثيرا فى الإجابة على السؤال المزعج وأسئلة كثيرة أخرى عادة ما يطرحها حتى قادة ووزراء عرب.
فى كافيتريا تطل على حديقة رائعة تقع على بحيرة جنيف ويمكن رؤية جبال الألب الفرنسية منها، تجد كثيرين ممن تسمع عنهم وترى صورهم. يجلسون مجموعات حول موائد متناثرة فى الدور الأرضى فى مجلس حقوق الإنسان.
ناس غير الناس. هذا «الناشط» إخوانى أو مؤيد لهم، وذاك مع قطر، وآخر يدعى أنه على صلة قوية بالإمارات والسعودية والبحرين أو مع «السلطة الشرعية» فى اليمن، أو ضد إيران أو معها.
وفى قاعات الندوات أو ما تسمى بالفعاليات الجانبية (على هامش اجتماعات المجلس العامة)، ترى الكل يصور الكل بكاميرات الفيديو والفوتوغرافيا. وتتصارع منظمات، لا حصر لأسمائها تظهر فجأة كما الفطريات. وبعضها أنشئ بأسماء لا تكاد تفرقها عن أخريات بهدف مواجهتها.
قضيت أياما لحضور الندوات التى تتكرر فيها الوجوه نفسها، المتحدثة والحاضرة. كله بثمنه طالما أن التمويل من أفراد أو حكومات أو هيئات دولية مستمر فى التدفق.
ورأيت مبالغ كبيرة تُدفع للمتحدثين فى الندوات التى لا تزيد مدتها، عادة، عن ساعة ونصف. والتسعيرة تترواح بين 300 و500 فرانك فرنسى (بين 5500 إلى 9100 جنيه مصري). وأحيانا، يعرض بعض ممن يقدمون أنفسهم على أنهم نشطاء وإعلاميون وباحثون فى مجال حقوق الإنسان خدمات تشمل توجيه أسئلة محرجة للضيوف لـ «إفساد» الندوة!
رائحة الصراع بين المنظمات التى تسمى نفسها حقوقية أوأهلية تنتمى للمجتمع المدنى تُشم من الاشتباكات والاحتكاكات الكلامية التى تفضح أصحابها، أحيانا، أمام وداخل قاعات الندوات. وعندما يتحدث هؤلاء فى الندوات، يصعب أن يستمع الحاضرون إلى أى شيء جديد مفيد.
هذه السوق تُنصب لمدة 10 شهور فى السنة مقسمة على 3 دورات لمجلس حقوق الإنسان فى أشهر مارس ويونيو وسبتمبر. ولهذا، فإن كثيرين يعتبرون «نشاطهم» داخل أروقة المجلس، وخارجها أحيانا، مصدرا للعيش.
ورغم علم مندوبى الدول العربية، المتهمة فى مجلس حقوق الإنسان بارتكاب انتهاكات، بما يجرى فى هذا البازار، فإنهم يعتقدون أنه لم يعد هناك مجالا للهروب أو لإنكار خطورة الانسحاب من هذه الساحة الدولية.
يقول دبلوماسى من دولة عربية كبرى عمل سابقا فى عواصم غربية مهمة: «لقد غير العرب طريقتهم وأدركوا أن ترك الساحة ليس من مصلحتهم، فأصبحوا أكثر تفاعلا وتواصلا مع الدول الغربية وممثلى منظمات حقوق الإنسان الكبري.»
كشف محمد على النسور، رئيس قسم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا فى مفوضية الأمم المتحدة لحقوق الإنسان عن إن دبلوماسيين من دول مثل المغرب ومصر والأردن والعراق واليمن شاركوا فى دورة تدريبية نظمتها المفوضية أخيرا. وهذا التطور يعزز أمل المفوضية فى قدر أكبر من الانفتاح بدلا من الانغلاق من جانب دول المنطقة عندما تطرح قضية حقوق الإنسان.
يعزز، قليلا، هذا الأمل ظهور بقعة ضوء عربية صغيرة يسطع نورها أحيانا ويخبو أحيانا أخري.
فأمام الجلسات العامة لمجلس حقوق الإنسان وأروقته، تسمع أصواتا عربية تتطلع إلى تغيير نظرة العرب إلى الحقوق والحريات، وإلى تصحيح نظرة الغرب لموقف العرب من هذه الحقوق.
تتبنى «الفيدرالية العربية لحقوق الإنسان» هذا النهج. ورغم اكتظاظ «سوق جنيف» بمن يوصفون، أحيانا، فى أروقة المجلس الأممى بـ «المرتزقة»، فإن رئيسها الدكتور أحمد ثانى الهاملى يصر على متابعة العمل لتحقيق طموح يبدو كأنه يسبح فى مواجهة أمواج عاتية.
ويرى الهاملي، وهو خبير إماراتى فى شئون الأمن ومكافحة التطرف، أن هناك مؤشرات تدعوه للتفاؤل، منها لقاؤه منذ أيام مع فلادلن ستيفانوف، مدير إدارة المؤسسات الحقوقية الوطنية ومنظمات المجتمع المدني، فى مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان.
كان اللقاء إيجابيا قال الهاملى لـ»الأهرام» إنه تمكن من طرح رؤية عربية فريدة تصر على عدم تسييس حقوق الإنسان وتستهدف نشر ثقافة حقوقية تعلى قيمة الحياة والأمن باعتبارهما أهم حق إنساني». وتتبنى الفيدراليية 39 منظمة وجمعية ومركزا ومرصدا حقوقيا عربيا، منها مصرى وخليجي، عضو فى الفيدرالية هذه الرؤية. ودأبت الهيئة على أن تنظم،على هامش دورات مجلس حقوق الإنسان أو أى أنشطة حقوقية أخري، دورات تدريبية لشبان من منطقة الخليج للتوعية بأهمية حقوق الإنسان وتطوير مفاهيمها.
يشيع، خاصة فى العالمين العربى والثالث، انطباع يصورمفوضية ومجلس الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، وهيئاتهما الرسمية والاستشارية،ساحة أممية تخضع للسيطرة والاستغلال الكاملين من جانب دول ومنظمات حقوقية كبرى للضغط على دول ليست على وفاق مع أنظمة حكمها السياسية.
هذه الصورة منقوصة، كما شاهدتها. فالساحة مفتوحة دون قيد. ولأى من الدول الـ 47 الأعضاء فى المجلس أو المنظمات الحقوقية والأهلية التى لها صفة استشارية به أن تطرح تصورات مخالفة للتيارات العامة الشائعة فى وسائل الإعلام.
وفى ندوة نظمت على هامش الدورة الحالية للمجلس، لمناقشة الإرهاب وحقوق الإنسان, طرحت بحماس أفكار تشير إلى أنه ليس هناك ما يحرم إعادة تعريف مفهوم حقوق الإنسان والاولويات على قائمة هذه الحقوق. وقالت كارلا كيجوين، المديرة التنفيذية لمجلس الكنائس فى الشرق الأوسط العالمي، إن الإرهاب فى منطقة الشرق الأوسط يهدد الحق فى الحياة والأمن ما يستدعى العمل على مكافحته، وضمان ألا تؤدى المكافحة الأمنية، فقط، إلى تفريخ مزيد من الإرهابيين.وكثيرا ما يقال هذا فى مختلف الندوات دون أن يُتهم مؤيدو هذه الرؤية بأنهم باعوا قضية حقوق الإنسان.
وهناك مؤشر آخر يلفت أنظار المندوبين لدى المجلس الأممي، وهو تغير يراه حقوقيون غربيون فى المجلس مهما وإيجابيا فى العقلية العربية التى ظلت لسنوات طويلة تتهرب من مواجهة الانتقادات وتنكر «التجاوزات» فى حق الإنسان العربي.
وبعدما كانت الساحة خالية أمام المنتقدين، أصبح للدول العربية مدافعون متحمسون فى قاعات وأروقة مجلس حقوق الإنسان. وليس عليها سوى «الاشتباك أو التفاعل الإيجابي» مع الآخرين.
ويقول حافظ أبو سعدة ، رئيس المنظمة المصرية لحقوق الإنسان وعضو المجلس المصرى لحقوق الإنسان، إن «السلبيات المتوهمة للتفاعل أقل بكثير من سلبيات عدم التفاعل والاشتباك مع المنظمات الدولية المعنية». ويضيف أن التفاعل يتيح فهم آليات عمل المنظمات المعنية بحقوق الإنسان فى الأمم المتحدة، بينما يعزز الانغلاق والإعراض عن التعاون مع مفوضية الأمم المتحدة الانطباع بأن الدول المعنية لديها ما تخفيه أو أنها ليست مستعدة لتطوير حقوق الإنسان فيها.
رابط دائم: