المتفق عليه أن هذه هى إحدى أهم الدورات الانتخابية فى التاريخ الألمانى الحديث، لأنها ببساطة، الأولى منذ قرار المستشارة أنجيلا ميركل المزلزل بفتح أبواب بلادها عام 2015 لاستقبال اللاجئين المتدفقين من الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، حتى بلغ الوافدون نحو مليون أو أدنى قليلا، ليهلع بعض أبناء شعبها وتنقسم دول الإتحاد الأوروبى حول سياستها «الباب المفتوح».
والمفترض أن تكون الحملة الانتخابية درامية ومربكة، مع ترجيحات دامت بتسبب «الباب المفتوح» فى إنهاء عهد «المستشارة الأم» كما أطلقوا عليها عمرا.
فشعبية ميركل تراجعت خلال العامين الماضيين إلى مستويات لم تعهدها خلال ولاياتها الثلاث السابقة، واختمرت فكرة الرحيل المحتمل بظهور مارتن شولتز بخبرته السياسية فى تزعم الحزب الديمقراطى الاجتماعى - يسار وسط - SPD ومكانته كرئيس سابق للبرلمان الأوروبى (2012- 2017) ومشاركة SPD لميركل مرتين فى ائتلافاتها الحكومية ( من 2005 وحتى اليوم)، وهو ما يعنى أن الخبرة والممارسة قائمتان ولو من بعيد.
وهكذا، استقوى حديث «البديل» تحديدا فى الأوسط المستاءة من سياسات ميركل أو المتوترة فى الوقت نفسه من صعود أسهم الحركات القومية المتطرفة وحزب البديل من أجل ألمانيا - أقصى اليمين - وتعتبر أن «الباب المفتوح» أسهم فى ذلك كثيرا، فكان شولتز حلا واقعيا.
لكن مسار استطلاعات الرأي، وتحديدا ما تم منها عقب المناظرة التليفزيونية الأولى والوحيدة بين المرشحين مطلع سبتمبر الحالي، تكشف عن تفوق عظيم لميركل وحزبها الديمقراطى المسيحى CDU وشريكه فى ولاية بافاريا الاتحاد المسيحى الاجتماعى CSU بفارق يصل إلى 17 درجة على شولتز وSPD.
والأهم أن المؤشرات من حيث تقييم مواقف المرشحين وتوجهات الشعب الألمانى تستبعد تكرار ما كان من خديعة استطلاعات الرأى فى الحالة الأمريكية بفوز ترامب والحالة البريطانية بالخروج من الاتحاد الأوروبي.
ويلاحظ أنه حتى كتلة الأصوات المتأرجحة والتى يقال إن لها دورا منتظرا وتقدر بنحو 46% من إجمالى المصوتين لا تميل فى أغلبها إلى شولتز.
تفسير الاستثناء الألمانى والخبو المبكر للتنافس الحقيقى بحسم مرجح لصالح ميركل يكمن أولا فى عناصر الشخصية السياسية لكلا المرشحين، وثانيا فى توظيفهما تلك العناصر بالتعامل مع القضايا المهيمنة على الانتخابات الألمانية وأهمها مسألة اللاجئين والأوضاع الاقتصادية وغيرها.
والمقصود بذلك أنه رغم خبرته السياسية الطويلة وترحيب جانب من الألمان بوجود خيار ثالث بعيدا عن كل من ميركل والتهديد اليميني، فإن شولتز تعثر إجمالا فى تقديم برنامج متكامل ومميز عن سياسات ميركل، كما أنه لم يظهر ما أظهرته «المستشارة الأم» من ثبات وتوجه للفاعلية والإنجاز أكثر منه للمصادمة وكسب الأصوات.
مختصرا، شولتز يخوض الانتخابات ليفوز، أما ميركل فتخوض الانتخابات لتحكم.
فبالنسبة لأم القضايا والخاصة باللاجئين، تصريحات شولتز على طول الطريق لا تزيد كثيرا عن كونها انتقادات لميركل مغلفة وكأنها مقترحاته للتعامل.
فمثلا، شولتز يعترف بحق اللاجئين فى نيل الحماية والدعم، ويعترف بأهمية الدور الألمانى بهذا الخصوص، وهل يمكن لأهل اليسار تصعيد معاداتهم لمثل هذه القضايا حتى وإن كان الهدف إسقاط ميركل؟
لكنه يرى أن عمليات الاستقبال لم تكن محكمة ومطلقة أكثر مما يجب، وأن ميركل كان ينقصها تنسيق الموقف الأوروبى أولا ليقف وراءها.
لم يأت بجديد، فميركل اعترفت ذاتها ومرارا بأن أخطاء وقعت بهذا الخصوص، حتى أنها عقب اعتداءات اللاجئين فى كولن طالبت أهل ألمانيا بمقترحات لحل القضية، وأكدت أنه لا مكان فى بلادها لمن لا يتأقلم ويندمج.
الأهم أن ميركل فى قلب التوتر الانتخابى التزمت بأن «الباب المفتوح» كان ضرورة ومفخرة للشعب الألماني، وإنسانية تتوافق مع المباديء الألمانية، وإن أكدت أن ما حدث ليس له التكرار.
لم تهتز الأم أمام فكرة التهديد الانتخابي، والتزمت بالدفاع عما تراه صائبا، سلوك قيادى أثار إعجاب الناخبين.
وأكملت ميركل على هذا المنوال، وكذلك أكمل غريمها، فيلاحظ اتخاذه مواقف عدائية بعيدة عن العملية فى حالة العلاقات مع تركيا والولايات المتحدة, وكأنه يسير مع أهواء الرأى العام المناهض لرجب طيب أردوغان ودونالد ترامب بالترتيب، فطالب بتجميد فورى لمفاوضات انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي، وزاد وأفاض فى إهانة ترامب «غير الملائم» على حد تعبيره.
ميركل على النقيض تحدثت باللغة التى تعرفها، لغة الوضوح المشوب بالحذر الدبلوماسي، فاعترفت بأن تركيا تسير بعيدا عن الديمقراطية منذ انقلاب يوليو 2016 الفاشل، فأنقرة تعتقل حاليا نحو 12 فردا ما بين ألمان خالصين وألمان من أصول تركية والتهم جميعا سياسية، وإن خففت من حدة تصريح وزير خارجيتها زيجمار جابرييل حول الحظر الكامل على بيع الأسلحة لأنقرة بتأكيدها على أن صفقات السلاح التركى ستتم دراستها كل على حدا بدون اتخاذ موقف إجمالي.
ميركل تدرك فى النهاية أنه ورغم نواقص نظام أردوغان، فإن تركيا شريك فى حلف شمال الأطلنطى «الناتو» وتتعاون مع أوروبا فى أكثر من قضية أمنية ذات شأن، مثل مكافحة حركات اللجوء الوافدة وأنشطة تنظيم داعش.
وحول أمريكا، مرة ثانية، التزمت ميركل بموقف أقل حدة بالتزامها العمل كموجه للإدارة الأمريكية فيما يخص مختلف القضايا، بحيث لا تندفع وراء ترامب بدون حسابات دقيقة.
منطقيا حاول المنافس اليسارى التطرق للملف الاقتصادى بالحديث عن الlفروض الاقتصادية بين الطبقات واتهام ميركل بمحاباة نخبة قطاع السيارات على هامش فضيحة انبعاثات الديزل من السيارات الألمانية.
محاولات شولتز تعكس اجتهادا، لكنها لم تحقق نجاحا يذكر، فميركل فى هذا الشأن تحديدا تقف على أرض صلبة، فالاقتصاد الألمانى يتوقع أن ينمو بنسبة 2% خلال العام الحالى فى أقوى معدل له منذ ست سنوات، مع إرتفاع إيجابى فى معدلات التوظيف.
إجمالا، ميركل تخاطب الناخب طلبا لصوته، لكنها لا تستهدف الفوز فحسب، بل تستهدف التوصل لعقد تفاهم ما بينها وبين الألمان لتسهيل ما يأتى بعد 24 سبتمبر.
رابط دائم: