رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

فتاة القطار والرحلة الأخيرة!

محمد شمروخ
تري ما هي حقيقة فتاة القطار التي اتخذت من محطات السكك الحديدية مأوي تتنقل بينها وبين القطارات؟! وها هي تهبط من قطار لتركب آخر ولم تتجاوز بوابة محطة إلي ما هو خارجها.

بدت كأنها تسمع ضجيج القطارات وتشعر ببرودة المحطات وتعاني مطاردات العيون المتلصصة والأنوف الذئبية، غير أن كل ذلك كان أهون عندها من أن تعود، لكنها بإرادة أشد صلابة من قضبان السكة الحديد، استطاعت أن تنجو من المجهول لأنها قصرت حياتها طوال هذا الفترة علي مقاعد القطار ومظلات المحطات، حتي لفت تكرار نزولها في المحطات وصعودها القطارات انتباه أحد رجال مباحث السكة الحديد لتتكشف حقيقة قصة فتاة القطار المجهولة.. وبين حياة مجهولة تبدو ككتلة هائلة خانقة ومظلمة بلا نهاية، تتربص فيها كائنات مرعبة مجهولة، وبين بيت تحول إلي سجن اختنقت فيه روحها وتهان فيه آدميتها كل يوم من زوجة الأب وتتعذب هي أكثر من معاناتها من معاملة الزوجة بما تراه من عجز أبيها عن حمايتها والدفاع عنها. كان عليها أن تختار في أي هذين العالمين تبقي!

إنها القصة المتكررة التي تحدث كل ساعة وفي كل مكان ولا يكف الزمان عن حكايتها ولا يمل الناس من سماعها «تموت الأم أو تنفصل عن الأب وتأتي امرأة أخري ما تلبث حتي تتحول إلي كائن ليس له من مهمة في هذه الحياة سوي أنها خلقت لممارسة القسوة.. بلغ الأب عامه الثامن والستين وقد غزا جسده وهن الكبر ولم يعد يتدخل في مهاترات زوجته مع ابنته الثالثة الباقية بعد شقيقتيها اللتين تزوجتا ونجتا من هذا الجحيم اليومي.. كان يمكن تحمل أي شيء من أي أحد فقط بشرط الحب، لكن الكراهية تجعل من كل شيء خانقا وتجعل الكون علي اتساعه سجنا ضيقا تود أن تزهق منه الروح فتصدها أسواره، صارت تري كل شيء في البيت يعلن بلا استحياء، أنها إنسانة منبوذة وكل الأشياء أصبحت تبادلها الكراهية.. الجدران.. النوافذ..الأبواب.. الأثاث.. فلم يكن أمامها إلا أن تتخلص من كل شيء.

أي شيء أكثر قسوة من أن تري كل شيء حولك يكرهك؟!.

وهي كفتاة في السادسة عشرة من عمرها، تدرك تماما ماذا يعني الشارع، لكن معاملة زوجة أبيها لن تكون أكثر رحمة مما قد تواجهه، كما أنها تدرك تماما كابنة أسرة تسكن إحدي محافظات الصعيد ماذا يمكن أن يكون من مصير لو فكرت في الهرب من البيت.. ربما كان وعيها بما سبق، يحبط أي تفكير بأن تترك المنزل، غير أن الضيق عندما يتمكن من النفس، وعندما يجثم اليأس علي الصدر وتختنق الروح، حينئذ يبدو أن التغيير للأسوأ يصبح أفضل حالا من البقاء تحت سطوة القنوط.. كانت خطواتها المحتومة ترسم طريقها خارج المنزل وكان اختيارها الأول أن تأوي إلي صديقتها فاطمة أقرب الناس إليها وهي مستودع سرها وملاذها عند الضيق.. وفي بيت فاطمة وجدت من الرعاية والحنان من والدها ما لم تجده في بيت أسرتها.

أتراها تسعد بذلك أم تزداد آلامها؟!.

أين ما يقال عن الدم الذي يحن؟!.. فخلال ثلاثة أيام لم يسأل عنها والدها وكأن الأمر لا يعنيه.. ومع اهتمام ورعاية أسرة صديقتها بها، عرفت أن وقع الحنان قد يكون أكثر إيلاما علي نفس المحروم من وخز القسوة، فقد كانت كل كلمة طيبة وكل نظرة حانية تذكرها بأنه كان يجب أن تكون هذه النظرة من عيني أبيها اللتين كانتا تغضان الطرف عن كل ما يحدث لها أمام هاتين العينين.. كثيرا ما كانت تتلمس العذر له، فلدي زوجته طاقة هائلة علي أن تحول البيت إلي جحيم لا يطاق، لكنها عندما تتلفت حولها فلا تجد بديلا،فكل أقاربها حتي شقيقتيها، لا يرحبون بمجيئها، فكل الوجوه يكسوها التجهم البغيض وكأنه من ملامحهم الأساسية.. وفي ثالث أيام ضيافتها أخبرت صديقتها بأنها ستعود إلي منزل أبيها وودعتها الأسرة إلي القطار ودس والد فاطمة في يدها 300 جنيه حتي تشتري ما يلزمها ولا تدخل علي بيت أبيها فارغة اليدين.. قبضت بيدها علي الأوراق النقدية كأنما تقبض علي الجمر وتركت دموعها تعبر عن حزن الرحيل ولكنها في القطار تمنت ألا يصل فاستسلمت بارتياح لأن تطول الرحلة.

ـ مادام طول الرحلة يبعث في نفسك أول شعور حقيقي بالارتياح، فلتكن إذن رحلتك بلا نهاية!.

وظلت تحمل حقيبتها وتذاكرها وما يتبقي من نقود وتتنقل بين المحطات والقطارات في رحلة المجهول.. كم صادفت من أنواع من البشر ولكن مهما كان من سوئها، فما أيسر التخلص منها عند وقوف القطار في محطة ما لتعود الرحلة من جديد وهي لا تريد أن تصل، فأي تعجل لرحلة قطار نهايتها الجحيم؟!.

هناك قد تبدو غريبة ولكنها تتنفس بحرية.. قد تجوع ولكنها لا تؤذي في كرامتها.. قد تتعرض لخطر ما ولكنها لم تعد تعرف الخوف، كما أنها أمست تأنس بهذا العالم الذي لا يهدأ من حركة الرائحين والغادين من المسافرين صباحا ومساء.. الحياة يختلط فيها الليل بالنهار وساعات المحطات لاتكف عن الدوران.. هنا الفجر غير الفجر النهار غير النهار، حتي الليل يتخلي عن وحشته معها.. لكن لم يكن من بد من أن تصل، نفدت النقود بين الاندفاع من القطارات والهرولة في المحطات التي صارت منزلها الواسع الأكثر أمانا من منزل أبيها.. وانتهت رحلة آخر قطار وكان لا بد من أن يصل علي رصيف محطة سوهاج وهناك في مكتب شرطة السكة الحديد، استمع الضابط المقدم أحمد عبدالعزيز رئيس قسم حقوق الإنسان إلي قصتها وتم تحرير محضر بالواقعة وأمر اللواء قاسم حسين مساعد وزير الداخلية لشرطة النقل المواصلات بقيام ضباط المباحث الجنائية بإشراف اللواء حسني عبد العزيز مدير مباحث النقل والمواصلات باستدعاء والدها الذي حضر ليوقع تعهدا بحسن معاملتها لتنهي رحلتها إلي واقع صار أشد غموضا من ذلك المجهول الذي غلبته طوال تلك الأيام.

رابط دائم: 
اضف تعليقك
البريد الالكترونى
الاسم
عنوان التعليق
التعليق