لم يعرف عنه الظرف وخفة الدم واللطافة المشهورة قططنا بها بين الجيران عادة، فهو يتحرك ويمشي بتثاقل ملك أجبر ليتنحي عن عرشه، وقلما هز طوله لينط ويلعب مطاردا فراشة أو حتي ذبابة هائمة مثلما تفعل سائر مخلوقات الله من القطط، والتي كانت خير ممثل لها في هذا الجانب قططنا الشيرازية السوداء فتفت،
لكن أمي طردتها ذات ليلة بسبب عجزها عن مسألة الصون والعفاف، إذ ظلت مدمنة علي صعاليك قطط الشوارع وجرهم لبيتنا عبر شباك غرفة المسافرين التي لم ير كائن قد سافر منها أو إليها في يوم من الأيام.
ظل الانطباع العام عن بحبح هو أنه حيوان أليف اسما، لكنه براوي وشرس ومتكبر ومتعنطز فعلا، فهو لا يسمح لأي مخلوق بلمسه أو حمله إلا أمي تقريبا، كما أنه لا يقبل أي نوع من أنواع المزاح، ففي حالة الخفيف منه، لا يتورع عن البخ والنفخ وتقويس الظهر، مع إبراز المخالب، وكل ما يمكن من أساليب قططية خاصة بإعلان الحرب، ثم إن المدعو بحبح لا يموء إلا في الشديد القوي، وفي اللحظات الحرجة، وهو ما يحدث عندما يفشل في إخراج رأسه الضخم المحشور بين فتحات سياج الشرفة الحديدي، أو لو فشل في لعق ماء صنبور حوض الحمام المغلق بإحكام، إذا ما استبد به العطش ولا يجد ماء بوعائه.
أمي طالما التمست العذر لبحبح، لتدافع عنه حتي عندما يكون هناك شبه إجماع علي أن دمه واقف، وطينته ثقيلة ولونه ماسخ فهو أسود متخالط بالأبيض والمشمشي، وكأن فروته جلابية قديمة مرقعة كجلابية أم حسن بائعة الفول النابت المستقرة عادة عند رأس الشارع.
ثم إنها تذيل دفاعها عنه بسرد ما تيسر من سيرته الذاتية وهي سيرة لا تخلو من أهوال:
مسكين من يومه، أمه صدمها أتوبيس حكومة ودهسها وهي حاملة بأسنانها أخته. سيد البواب شافه متلقح في الشارع ونازل صريخ ونونوة، فحمله وجابه لي، وقال ينوبك ثواب فيه. هذا العذر، والذي يأتي عادة علي سبيل الإفحام، ربما يجعلنا نبلع مثالب بحبح لبعض الوقت، ونتعامل مع الأمر أنا وأخواتي وأخوتي الثمانية، باعتباره وضعا اضطراريا أما أبى فمسألة بحبح لم تكن تشغله كثيرا، ربما لأنه كلبي الهوي في الأصل، وصديق وفي لعدد من الكلاب المتمركزة أمام دكان جزارة الأمانة معظم النهار، فهو يحمل لها العيش الناشف المتبقي من طعامنا، كلما استطاع إلي ذلك سبيلا، وقد يكون موقفه بسبب أنه موظف في مصلحة الآثار منذ ثلاثين سنة مضت، فكان يري أن جميع قطط الكون علي اطلاقها، إنما هي الإله بس، إله الحب والفرفشة عند قدماء المصريين، فلا يجوز انتقادهم، أو الانتقاص من شأنهم، أو حتي التساؤل عن ثلث الثلاثة لأي منهم، حتي ولو كان علي شاكلة بحبح ذاته.
رضا العسالة كان الأمر مختلفا معها تماما، فهي لا تعرف الإله بس، ولا يهمها أن بحبح يتيم ثكل أمه من بدري، فما أن نصل إلي بيتنا، بدرية كل يوم جمعة، وتستقر بالحمام كعادتها أمام طشت الغسيل بعد أن تخلع جلباب الخروج الأسود، وتبقي علي جسدها الجلابية الكستور التي تحته، إلا ويأتي بحبح ليجلس أمامها عند باب الحمام جلسة أبي الهول، فما أن تلمحه، وقد شحذ همتها في إشعال موقد الكيروسين الكبير بكوشتته الساكتة، وتجهيز آذان الغلية حتي يبدأ المونولوج.
أنت وصلت يا زفت.. شرفت حضرتك. يا الله، اقعد وتيس، كبة ودمك يلطش.
بحبح لا يرد بالطبع، وإن كان لا يتوقف عن متابعة برنامج وبروتوكول شغلها باهتمام، الغسيل الأبيض أولا ووفقا للأصول المرعية والفلسفة الدينية: فوط الوجه أولا، ثم أكياس المخدات، فملاءات السرير، وبعدها فوط الحمام، وبعد ذلك القمصان البيضاء، وأي هدوم أخري، لتتبقي في ذيل القائمة الملابس الداخلية.
يكتفي بحبح بإغماض عينيه وفتحهما بين الحين والحين وبهدوء، وكأنه يطمئن علي سير العمل. ربما يغير من وضع جلسته قليلا، فيزحزح نفسه، ويقارب بين قدميه الأماميتين، ويرفع رأسه متابعا أمي وهي تقدم لرضا صينية الإفطار، فتتسع في وجهه البللورتان اللتان بلون حصرم العنب كثيرا، ويوجه بوقي أذنيه إلي حيث صوت أمي.
ـ اعصري ليمونا علي الفول. وكلي البسيسة. عملت صاجا إمبارح. وحاسبة حساب عيالك فيها. كلي. وعندما تسألها عن زوجها، تتجه أذنا بحبح لرضا:
ـ نحمد الله علي كل شيء. السكر عادمه ومخليه مخربط ومهدود الحيل علي طول، يوم شغل، وعشرة لا..
ـ ربنا يقويك يا رضا. إياك القط يروح ناحية آزان الغلية.
ـ قطيعة تقطعه.. الود ودي أغطسه في الآزان لحد ما يتسلخ فروه.
تضحك أمي وتبدأ رضا في الأكل وشرب الشاي، وما إن تستأنف الغسيل مرة أخري، حتي تعود لبهدلة بحبح:
ـ قال بحبح.. اسم علي غير مسمي. قاعد لطخ لا شغلة ولا مشغلة. تبص وتتفرج وخلاص.
يبدو كالسعيد وكأنه لا يسمعها، لكنه يحرك أذنيه حركات سريعة للإمام وللخلف، كلما ازداد الدعك، أو علا صوت قرط ياقات القمصان البيضاء، أو حجور الألبسة الداخلية، والتي بانتهاء قرطها، يكون قد انتهي الفوم الأول لكل ما هو أبيض اللون، وليوضع في آزان الغلية للتعقيم، وخلال ذلك يبدأ فوم الألوان الذي لابد وأن ينتهي قبل آذان الجمعة، ليدخل أبي إلي الحمام ليتوضأ ويذهب إلي الصلاة. يتابع بحبح حركات رضا بحذر، دون أن يتحرك حتي عندما تنادي أمي عليه.
ـ بحبح.. بس. بس. بس
تناديه أمي مرة أخري، ولا يغير من جلسته إلا عندما تأتيه بطبقه وتضعه أمامه، وقد فتتت فيه بضع لقيمات من خبز الفينو الطرية مع حليب.
تنتهزها رضا فرصة:
ـ اطفح.. اطفح بالسم الهاري يا مزغود.
الأكل يوصلك لحد مطرحك وكأنك من تنابلة السلطان. لُغ.. لُغ يا نيلة.
كان بحبح بالفعل أشبه بتنابلة السلطان، فهو سمين، ضخم له شفتان ورديتان، وأنف كبير مفلطح قليلا، وتعبيرات وجه باردة متكبرة، وسلوكه كله تناكة في تناكة، فهو لا يستجيب لنداء أحد، ولا يلعب مع أحد، ولا تهتز شعرة من فرو جلده لأعتي كرة من كرات لعبنا، وحتي كرة الصوف التي تصنع أمي منها سترات مدارسنا في الشتاء، لا تستهويه حركة خيطها عندما تسحبها بإبر التريكو، وعندما كنا نشكو لها حالة بروده العاطفي، وأنه لا يستجيب لعواطفنا تجاهه، كانت تقول عبارتها الشهيرة:
ـ مسكين، اتيتم من صغره بدري.
كانت أمي بالحقيقة هي المدمنة الرئيسية لجنس القطط في أسرتنا، ولذلك فبيتنا ضمن تعداد سكانه، لابد وأن يكون هناك قط علي الأقل، وربما ساعد علي ذلك أننا نقطن شقة بالدور الأرضي تسمح بدخول وخروج القطط بسهولة دون الحاجة للاعتناء بنظافتها وشيل هم مخرجاتها، فأمي كثيرا ما كانت تصيح وهي تطبخ، أو تقوم بأية أعمال منزلية أخري قائلة:
ـ افتحوا الشباك للقط لأنه عاوز يعملها.
لا أتذكر موقف رضا الغسالة من قطط بيتنا قبل بحبح، ربما لأنني لم أكن قد كبرت ووعيت الحياة بما يكفي، لكن والحق يقال، لطالما استمتعت وضحكت كثيرا من كلامها مع بحبح، فهو كسول وبليد مثلما تقول، وكانت لا تتوقف عن مراقبته بينما تغسل، ولم أعرف أبدا هل كانت تحبه أم تكرهه، فإذا غاب عنها قليلا بعد أن تأتي يوم الغسيل سرعان ما تقول لأمي.
ـ هو مقصوف الرقبة بحبح مختفي وقاطع الخنس يعني.
وما أن يظهر أمامها حتي تلين ملامحها، وتبدو وكأنها علي وشك الابتسام فتقول:
ـ تعالي يا خيبتها.. تعالى اترزع هنا.
بحبح ربما ـ والله أعلم ـ كنت أشعر أنه يصاب بالملل بسبب كلام رضا أحيانا ومن كثرة توبيخها له، فيرفع نفسه مقوسا ظهره ليتمطي ويتثاءب، ثم سرعان ما يتكوم صانعا بجسده ما يشبه الكعكة وينام، لكنه لا يغادر مكانه بجوار رضا عند باب الحمام، حيث تجلس هي علي كرسيها الخشبي المنخفض أمام طشت الغسيل فاردة فخذيها الأبيضين، وقد أشاع وابور الجاز دفئا محببا في صباحات الشتاء الباردة.
ساعات وساعات تجلس رضا تغسل وتدعك وتغلي وتشطف في صبر فوط وملاءات أسرة، وأكياس مخدات و«هدوم» داخلية وخارجية وستائر شبابيك وبياضات وأغطية كراس وكنب، وكل ما يخص بيتا تعيش فيه أسرة لها ثمانية من الأبناء والبنات.
عند الغروب وعندما تنتهي رضا من عملها، يكون حيلها اتهد، تنظف الحمام، وتشطف وجهها ويديها ورجليها، وتشرع في لبس جلباب خروجها الأسود مرة أخري، وبينما تدخل رأسها في فتحة صدره الضيفة، عندئذ وفي لحظة خاطفة، وإذ يختفي بعض من رأسها في سواد الجلباب، ينط بحبح وينقض عليها، ويخمش صدرها خمشا خفيفا مداعبا، ليعود بعدها إلي الأرض لاعقا شفتيه بلسانه، ولينظر إليها وقد ازدادت كرتا البللور لمعانا في وجهه.
تتحسس رضا صدرها الأبيض وتهمس بغنج:
ـ يوه. يخيبك قط.. أما أنك بُشت وعكروت بصحيح.
عم تضحك ضحكات ناعمة راضية، وساعتها فقط، كنت أشعر بأن بحبح قط ظريف وغريب.
رابط دائم: