رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

بحبح

سلوى ‬بكر
لم‭ ‬يعرف‭ ‬عنه‭ ‬الظرف‭ ‬وخفة‭ ‬الدم‭ ‬واللطافة‭ ‬المشهورة‭ ‬قططنا‭ ‬بها‭ ‬بين‭ ‬الجيران‭ ‬عادة،‭ ‬فهو‭ ‬يتحرك‭ ‬ويمشي‭ ‬بتثاقل‭ ‬ملك‭ ‬أجبر‭ ‬ليتنحي‭ ‬عن‭ ‬عرشه،‭ ‬وقلما‭ ‬هز‭ ‬طوله‭ ‬لينط‭ ‬ويلعب‭ ‬مطاردا‭ ‬فراشة‭ ‬أو‭ ‬حتي‭ ‬ذبابة‭ ‬هائمة‭ ‬مثلما‭ ‬تفعل‭ ‬سائر‭ ‬مخلوقات‭ ‬الله‭ ‬من‭ ‬القطط،‭ ‬والتي‭ ‬كانت‭ ‬خير‭ ‬ممثل‭ ‬لها‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الجانب‭ ‬قططنا‭ ‬الشيرازية‭ ‬السوداء‭ ‬فتفت،‭

‬لكن‭ ‬أمي‭ ‬طردتها‭ ‬ذات‭ ‬ليلة‭ ‬بسبب‭ ‬عجزها‭ ‬عن‭ ‬مسألة‭ ‬الصون‭ ‬والعفاف،‭ ‬إذ‭ ‬ظلت‭ ‬مدمنة‭ ‬علي‭ ‬صعاليك‭ ‬قطط‭ ‬الشوارع‭ ‬وجرهم‭ ‬لبيتنا‭ ‬عبر‭ ‬شباك‭ ‬غرفة‭ ‬المسافرين‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬ير‭ ‬كائن‭ ‬قد‭ ‬سافر‭ ‬منها‭ ‬أو‭ ‬إليها‭ ‬في‭ ‬يوم‭ ‬من‭ ‬الأيام‭.‬

ظل‭ ‬الانطباع‭ ‬العام‭ ‬عن‭ ‬بحبح‭ ‬هو‭ ‬أنه‭ ‬حيوان‭ ‬أليف‭ ‬اسما،‭ ‬لكنه‭ ‬براوي‭ ‬وشرس‭ ‬ومتكبر‭ ‬ومتعنطز‭ ‬فعلا،‭ ‬فهو‭ ‬لا‭ ‬يسمح‭ ‬لأي‭ ‬مخلوق‭ ‬بلمسه‭ ‬أو‭ ‬حمله‭ ‬إلا‭ ‬أمي‭ ‬تقريبا،‭ ‬كما‭ ‬أنه‭ ‬لا‭ ‬يقبل‭ ‬أي‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬أنواع‭ ‬المزاح،‭ ‬ففي‭ ‬حالة‭ ‬الخفيف‭ ‬منه،‭ ‬لا‭ ‬يتورع‭ ‬عن‭ ‬البخ‭ ‬والنفخ‭ ‬وتقويس‭ ‬الظهر،‭ ‬مع‭ ‬إبراز‭ ‬المخالب،‭ ‬وكل‭ ‬ما‭ ‬يمكن‭ ‬من‭ ‬أساليب‭ ‬قططية‭ ‬خاصة‭ ‬بإعلان‭ ‬الحرب،‭ ‬ثم‭ ‬إن‭ ‬المدعو‭ ‬بحبح‭ ‬لا‭ ‬يموء‭ ‬إلا‭ ‬في‭ ‬الشديد‭ ‬القوي،‭ ‬وفي‭ ‬اللحظات‭ ‬الحرجة،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يحدث‭ ‬عندما‭ ‬يفشل‭ ‬في‭ ‬إخراج‭ ‬رأسه‭ ‬الضخم‭ ‬المحشور‭ ‬بين‭ ‬فتحات‭ ‬سياج‭ ‬الشرفة‭ ‬الحديدي،‭ ‬أو‭ ‬لو‭ ‬فشل‭ ‬في‭ ‬لعق‭ ‬ماء‭ ‬صنبور‭ ‬حوض‭ ‬الحمام‭ ‬المغلق‭ ‬بإحكام،‭ ‬إذا‭ ‬ما‭ ‬استبد‭ ‬به‭ ‬العطش‭ ‬ولا‭ ‬يجد‭ ‬ماء‭ ‬بوعائه‭.‬

أمي‭ ‬طالما‭ ‬التمست‭ ‬العذر‭ ‬لبحبح،‭ ‬لتدافع‭ ‬عنه‭ ‬حتي‭ ‬عندما‭ ‬يكون‭ ‬هناك‭ ‬شبه‭ ‬إجماع‭ ‬علي‭ ‬أن‭ ‬دمه‭ ‬واقف،‭ ‬وطينته‭ ‬ثقيلة‭ ‬ولونه‭ ‬ماسخ‭ ‬فهو‭ ‬أسود‭ ‬متخالط‭ ‬بالأبيض‭ ‬والمشمشي،‭ ‬وكأن‭ ‬فروته‭ ‬جلابية‭ ‬قديمة‭ ‬مرقعة‭ ‬كجلابية‭ ‬أم‭ ‬حسن‭ ‬بائعة‭ ‬الفول‭ ‬النابت‭ ‬المستقرة‭ ‬عادة‭ ‬عند‭ ‬رأس‭ ‬الشارع‭.‬

ثم‭ ‬إنها‭ ‬تذيل‭ ‬دفاعها‭ ‬عنه‭ ‬بسرد‭ ‬ما‭ ‬تيسر‭ ‬من‭ ‬سيرته‭ ‬الذاتية‭ ‬وهي‭ ‬سيرة‭ ‬لا‭ ‬تخلو‭ ‬من‭ ‬أهوال‭:‬

مسكين‭ ‬من‭ ‬يومه،‭ ‬أمه‭ ‬صدمها‭ ‬أتوبيس‭ ‬حكومة‭ ‬ودهسها‭ ‬وهي‭ ‬حاملة‭ ‬بأسنانها‭ ‬أخته‭. ‬سيد‭ ‬البواب‭ ‬شافه‭ ‬متلقح‭ ‬في‭ ‬الشارع‭ ‬ونازل‭ ‬صريخ‭ ‬ونونوة،‭ ‬فحمله‭ ‬وجابه‭ ‬لي،‭ ‬وقال‭ ‬ينوبك‭ ‬ثواب‭ ‬فيه‭. ‬هذا‭ ‬العذر،‭ ‬والذي‭ ‬يأتي‭ ‬عادة‭ ‬علي‭ ‬سبيل‭ ‬الإفحام،‭ ‬ربما‭ ‬يجعلنا‭ ‬نبلع‭ ‬مثالب‭ ‬بحبح‭ ‬لبعض‭ ‬الوقت،‭ ‬ونتعامل‭ ‬مع‭ ‬الأمر‭ ‬أنا‭ ‬وأخواتي‭ ‬وأخوتي‭ ‬الثمانية،‭ ‬باعتباره‭ ‬وضعا‭ ‬اضطراريا‭ ‬أما‭ ‬أبى ‬فمسألة‭ ‬بحبح‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬تشغله‭ ‬كثيرا،‭ ‬ربما‭ ‬لأنه‭ ‬كلبي‭ ‬الهوي‭ ‬في‭ ‬الأصل،‭ ‬وصديق‭ ‬وفي‭ ‬لعدد‭ ‬من‭ ‬الكلاب‭ ‬المتمركزة‭ ‬أمام‭ ‬دكان‭ ‬جزارة‭ ‬الأمانة‭ ‬معظم‭ ‬النهار،‭ ‬فهو‭ ‬يحمل‭ ‬لها‭ ‬العيش‭ ‬الناشف‭ ‬المتبقي‭ ‬من‭ ‬طعامنا،‭ ‬كلما‭ ‬استطاع‭ ‬إلي‭ ‬ذلك‭ ‬سبيلا،‭ ‬وقد‭ ‬يكون‭ ‬موقفه‭ ‬بسبب‭ ‬أنه‭ ‬موظف‭ ‬في‭ ‬مصلحة‭ ‬الآثار‭ ‬منذ‭ ‬ثلاثين‭ ‬سنة‭ ‬مضت،‭ ‬فكان‭ ‬يري‭ ‬أن‭ ‬جميع‭ ‬قطط‭ ‬الكون‭ ‬علي‭ ‬اطلاقها،‭ ‬إنما‭ ‬هي‭ ‬الإله‭ ‬بس،‭ ‬إله‭ ‬الحب‭ ‬والفرفشة‭ ‬عند‭ ‬قدماء‭ ‬المصريين،‭ ‬فلا‭ ‬يجوز‭ ‬انتقادهم،‭ ‬أو‭ ‬الانتقاص‭ ‬من‭ ‬شأنهم،‭ ‬أو‭ ‬حتي‭ ‬التساؤل‭ ‬عن‭ ‬ثلث‭ ‬الثلاثة‭ ‬لأي‭ ‬منهم،‭ ‬حتي‭ ‬ولو‭ ‬كان‭ ‬علي‭ ‬شاكلة‭ ‬بحبح‭ ‬ذاته‭.‬

رضا‭ ‬العسالة‭ ‬كان‭ ‬الأمر‭ ‬مختلفا‭ ‬معها‭ ‬تماما،‭ ‬فهي‭ ‬لا‭ ‬تعرف‭ ‬الإله‭ ‬بس،‭ ‬ولا‭ ‬يهمها‭ ‬أن‭ ‬بحبح‭ ‬يتيم‭ ‬ثكل‭ ‬أمه‭ ‬من‭ ‬بدري،‭ ‬فما‭ ‬أن‭ ‬نصل‭ ‬إلي‭ ‬بيتنا،‭ ‬بدرية‭ ‬كل‭ ‬يوم‭ ‬جمعة،‭ ‬وتستقر‭ ‬بالحمام‭ ‬كعادتها‭ ‬أمام‭ ‬طشت‭ ‬الغسيل‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬تخلع‭ ‬جلباب‭ ‬الخروج‭ ‬الأسود،‭ ‬وتبقي‭ ‬علي‭ ‬جسدها‭ ‬الجلابية‭ ‬الكستور‭ ‬التي‭ ‬تحته،‭ ‬إلا‭ ‬ويأتي‭ ‬بحبح‭ ‬ليجلس‭ ‬أمامها‭ ‬عند‭ ‬باب‭ ‬الحمام‭ ‬جلسة‭ ‬أبي‭ ‬الهول،‭ ‬فما‭ ‬أن‭ ‬تلمحه،‭ ‬وقد‭ ‬شحذ‭ ‬همتها‭ ‬في‭ ‬إشعال‭ ‬موقد‭ ‬الكيروسين‭ ‬الكبير‭ ‬بكوشتته‭ ‬الساكتة،‭ ‬وتجهيز‭ ‬آذان‭ ‬الغلية‭ ‬حتي‭ ‬يبدأ‭ ‬المونولوج‭.‬

أنت‭ ‬وصلت‭ ‬يا‭ ‬زفت‭.. ‬شرفت‭ ‬حضرتك‭. ‬يا‭ ‬الله،‭ ‬اقعد‭ ‬وتيس،‭ ‬كبة‭ ‬ودمك‭ ‬يلطش‭.‬

بحبح‭ ‬لا‭ ‬يرد‭ ‬بالطبع،‭ ‬وإن‭ ‬كان‭ ‬لا‭ ‬يتوقف‭ ‬عن‭ ‬متابعة‭ ‬برنامج‭ ‬وبروتوكول‭ ‬شغلها‭ ‬باهتمام،‭ ‬الغسيل‭ ‬الأبيض‭ ‬أولا‭ ‬ووفقا‭ ‬للأصول‭ ‬المرعية‭ ‬والفلسفة‭ ‬الدينية‭: ‬فوط‭ ‬الوجه‭ ‬أولا،‭ ‬ثم‭ ‬أكياس‭ ‬المخدات،‭ ‬فملاءات‭ ‬السرير،‭ ‬وبعدها‭ ‬فوط‭ ‬الحمام،‭ ‬وبعد‭ ‬ذلك‭ ‬القمصان‭ ‬البيضاء،‭ ‬وأي‭ ‬هدوم‭ ‬أخري،‭ ‬لتتبقي‭ ‬في‭ ‬ذيل‭ ‬القائمة‭ ‬الملابس‭ ‬الداخلية‭.‬

يكتفي‭ ‬بحبح‭ ‬بإغماض‭ ‬عينيه‭ ‬وفتحهما‭ ‬بين‭ ‬الحين‭ ‬والحين‭ ‬وبهدوء،‭ ‬وكأنه‭ ‬يطمئن‭ ‬علي‭ ‬سير‭ ‬العمل‭. ‬ربما‭ ‬يغير‭ ‬من‭ ‬وضع‭ ‬جلسته‭ ‬قليلا،‭ ‬فيزحزح‭ ‬نفسه،‭ ‬ويقارب‭ ‬بين‭ ‬قدميه‭ ‬الأماميتين،‭ ‬ويرفع‭ ‬رأسه‭ ‬متابعا‭ ‬أمي‭ ‬وهي‭ ‬تقدم‭ ‬لرضا‭ ‬صينية‭ ‬الإفطار،‭ ‬فتتسع‭ ‬في‭ ‬وجهه‭ ‬البللورتان‭ ‬اللتان‭ ‬بلون‭ ‬حصرم‭ ‬العنب‭ ‬كثيرا،‭ ‬ويوجه‭ ‬بوقي‭ ‬أذنيه‭ ‬إلي‭ ‬حيث‭ ‬صوت‭ ‬أمي‭.‬

ـ‭ ‬اعصري‭ ‬ليمونا‭ ‬علي‭ ‬الفول‭. ‬وكلي‭ ‬البسيسة‭. ‬عملت‭ ‬صاجا‭ ‬إمبارح‭. ‬وحاسبة‭ ‬حساب‭ ‬عيالك‭ ‬فيها‭. ‬كلي‭. ‬وعندما‭ ‬تسألها‭ ‬عن‭ ‬زوجها،‭ ‬تتجه‭ ‬أذنا‭ ‬بحبح‭ ‬لرضا‭: ‬

ـ‭ ‬نحمد‭ ‬الله‭ ‬علي‭ ‬كل‭ ‬شيء‭. ‬السكر‭ ‬عادمه‭ ‬ومخليه‭ ‬مخربط‭ ‬ومهدود‭ ‬الحيل‭ ‬علي‭ ‬طول،‭ ‬يوم‭ ‬شغل،‭ ‬وعشرة‭ ‬لا‭..‬

ـ‭ ‬ربنا‭ ‬يقويك‭ ‬يا‭ ‬رضا‭. ‬إياك‭ ‬القط‭ ‬يروح‭ ‬ناحية‭ ‬آزان‭ ‬الغلية‭.‬

ـ‭ ‬قطيعة‭ ‬تقطعه‭.. ‬الود‭ ‬ودي‭ ‬أغطسه‭ ‬في‭ ‬الآزان‭ ‬لحد‭ ‬ما‭ ‬يتسلخ‭ ‬فروه‭.‬

تضحك‭ ‬أمي‭ ‬وتبدأ‭ ‬رضا‭ ‬في‭ ‬الأكل‭ ‬وشرب‭ ‬الشاي،‭ ‬وما‭ ‬إن‭ ‬تستأنف‭ ‬الغسيل‭ ‬مرة‭ ‬أخري،‭ ‬حتي‭ ‬تعود‭ ‬لبهدلة‭ ‬بحبح‭:‬

ـ‭ ‬قال‭ ‬بحبح‭.. ‬اسم‭ ‬علي‭ ‬غير‭ ‬مسمي‭. ‬قاعد‭ ‬لطخ‭ ‬لا‭ ‬شغلة‭ ‬ولا‭ ‬مشغلة‭. ‬تبص‭ ‬وتتفرج‭ ‬وخلاص‭.‬

يبدو‭ ‬كالسعيد‭ ‬وكأنه‭ ‬لا‭ ‬يسمعها،‭ ‬لكنه‭ ‬يحرك‭ ‬أذنيه‭ ‬حركات‭ ‬سريعة‭ ‬للإمام‭ ‬وللخلف،‭ ‬كلما‭ ‬ازداد‭ ‬الدعك،‭ ‬أو‭ ‬علا‭ ‬صوت‭ ‬قرط‭ ‬ياقات‭ ‬القمصان‭ ‬البيضاء،‭ ‬أو‭ ‬حجور‭ ‬الألبسة‭ ‬الداخلية،‭ ‬والتي‭ ‬بانتهاء‭ ‬قرطها،‭ ‬يكون‭ ‬قد‭ ‬انتهي‭ ‬الفوم‭ ‬الأول‭ ‬لكل‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬أبيض‭ ‬اللون،‭ ‬وليوضع‭ ‬في‭ ‬آزان‭ ‬الغلية‭ ‬للتعقيم،‭ ‬وخلال‭ ‬ذلك‭ ‬يبدأ‭ ‬فوم‭ ‬الألوان‭ ‬الذي‭ ‬لابد‭ ‬وأن‭ ‬ينتهي‭ ‬قبل‭ ‬آذان‭ ‬الجمعة،‭ ‬ليدخل‭ ‬أبي‭ ‬إلي‭ ‬الحمام‭ ‬ليتوضأ‭ ‬ويذهب‭ ‬إلي‭ ‬الصلاة‭. ‬يتابع‭ ‬بحبح‭ ‬حركات‭ ‬رضا‭ ‬بحذر،‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يتحرك‭ ‬حتي‭ ‬عندما‭ ‬تنادي‭ ‬أمي‭ ‬عليه‭.‬

ـ‭ ‬بحبح‭.. ‬بس‭. ‬بس‭. ‬بس

تناديه‭ ‬أمي‭ ‬مرة‭ ‬أخري،‭ ‬ولا‭ ‬يغير‭ ‬من‭ ‬جلسته‭ ‬إلا‭ ‬عندما‭ ‬تأتيه‭ ‬بطبقه‭ ‬وتضعه‭ ‬أمامه،‭ ‬وقد‭ ‬فتتت‭ ‬فيه‭ ‬بضع‭ ‬لقيمات‭ ‬من‭ ‬خبز‭ ‬الفينو‭ ‬الطرية‭ ‬مع‭ ‬حليب‭.‬

تنتهزها‭ ‬رضا‭ ‬فرصة‭:‬

ـ‭ ‬اطفح‭.. ‬اطفح‭ ‬بالسم‭ ‬الهاري‭ ‬يا‭ ‬مزغود‭.‬

الأكل‭ ‬يوصلك‭ ‬لحد‭ ‬مطرحك‭ ‬وكأنك‭ ‬من‭ ‬تنابلة‭ ‬السلطان‭. ‬لُغ‭.. ‬لُغ‭ ‬يا‭ ‬نيلة‭.‬

كان‭ ‬بحبح‭ ‬بالفعل‭ ‬أشبه‭ ‬بتنابلة‭ ‬السلطان،‭ ‬فهو‭ ‬سمين،‭ ‬ضخم‭ ‬له‭ ‬شفتان‭ ‬ورديتان،‭ ‬وأنف‭ ‬كبير‭ ‬مفلطح‭ ‬قليلا،‭ ‬وتعبيرات‭ ‬وجه‭ ‬باردة‭ ‬متكبرة،‭ ‬وسلوكه‭ ‬كله‭ ‬تناكة‭ ‬في‭ ‬تناكة،‭ ‬فهو‭ ‬لا‭ ‬يستجيب‭ ‬لنداء‭ ‬أحد،‭ ‬ولا‭ ‬يلعب‭ ‬مع‭ ‬أحد،‭ ‬ولا‭ ‬تهتز‭ ‬شعرة‭ ‬من‭ ‬فرو‭ ‬جلده‭ ‬لأعتي‭ ‬كرة‭ ‬من‭ ‬كرات‭ ‬لعبنا،‭ ‬وحتي‭ ‬كرة‭ ‬الصوف‭ ‬التي‭ ‬تصنع‭ ‬أمي‭ ‬منها‭ ‬سترات‭ ‬مدارسنا‭ ‬في‭ ‬الشتاء،‭ ‬لا‭ ‬تستهويه‭ ‬حركة‭ ‬خيطها‭ ‬عندما‭ ‬تسحبها‭ ‬بإبر‭ ‬التريكو،‭ ‬وعندما‭ ‬كنا‭ ‬نشكو‭ ‬لها‭ ‬حالة‭ ‬بروده‭ ‬العاطفي،‭ ‬وأنه‭ ‬لا‭ ‬يستجيب‭ ‬لعواطفنا‭ ‬تجاهه،‭ ‬كانت‭ ‬تقول‭ ‬عبارتها‭ ‬الشهيرة‭:‬

ـ‭ ‬مسكين،‭ ا‬تيتم‭ ‬من‭ ‬صغره‭ ‬بدري‭.‬

كانت‭ ‬أمي‭ ‬بالحقيقة‭ ‬هي‭ ‬المدمنة‭ ‬الرئيسية‭ ‬لجنس‭ ‬القطط‭ ‬في‭ ‬أسرتنا،‭ ‬ولذلك‭ ‬فبيتنا‭ ‬ضمن‭ ‬تعداد‭ ‬سكانه،‭ ‬لابد‭ ‬وأن‭ ‬يكون‭ ‬هناك‭ ‬قط‭ ‬علي‭ ‬الأقل،‭ ‬وربما‭ ‬ساعد‭ ‬علي‭ ‬ذلك‭ ‬أننا‭ ‬نقطن‭ ‬شقة‭ ‬بالدور‭ ‬الأرضي‭ ‬تسمح‭ ‬بدخول‭ ‬وخروج‭ ‬القطط‭ ‬بسهولة‭ ‬دون‭ ‬الحاجة‭ ‬للاعتناء‭ ‬بنظافتها‭ ‬وشيل‭ ‬هم‭ ‬مخرجاتها،‭ ‬فأمي‭ ‬كثيرا‭ ‬ما‭ ‬كانت‭ ‬تصيح‭ ‬وهي‭ ‬تطبخ،‭ ‬أو‭ ‬تقوم‭ ‬بأية‭ ‬أعمال‭ ‬منزلية‭ ‬أخري‭ ‬قائلة‭:‬

ـ‭ ‬افتحوا‭ ‬الشباك‭ ‬للقط‭ ‬لأنه‭ ‬عاوز‭ ‬يعملها‭.‬

لا‭ ‬أتذكر‭ ‬موقف‭ ‬رضا‭ ‬الغسالة‭ ‬من‭ ‬قطط‭ ‬بيتنا‭ ‬قبل‭ ‬بحبح،‭ ‬ربما‭ ‬لأنني‭ ‬لم‭ ‬أكن‭ ‬قد‭ ‬كبرت‭ ‬ووعيت‭ ‬الحياة‭ ‬بما‭ ‬يكفي،‭ ‬لكن‭ ‬والحق‭ ‬يقال،‭ ‬لطالما‭ ‬استمتعت‭ ‬وضحكت‭ ‬كثيرا‭ ‬من‭ ‬كلامها‭ ‬مع‭ ‬بحبح،‭ ‬فهو‭ ‬كسول‭ ‬وبليد‭ ‬مثلما‭ ‬تقول،‭ ‬وكانت‭ ‬لا‭ ‬تتوقف‭ ‬عن‭ ‬مراقبته‭ ‬بينما‭ ‬تغسل،‭ ‬ولم‭ ‬أعرف‭ ‬أبدا‭ ‬هل‭ ‬كانت‭ ‬تحبه‭ ‬أم‭ ‬تكرهه،‭ ‬فإذا‭ ‬غاب‭ ‬عنها‭ ‬قليلا‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬تأتي‭ ‬يوم‭ ‬الغسيل‭ ‬سرعان‭ ‬ما‭ ‬تقول‭ ‬لأمي‭.‬

ـ‭ ‬هو‭ ‬مقصوف‭ ‬الرقبة‭ ‬بحبح‭ ‬مختفي‭ ‬وقاطع‭ ‬الخنس‭ ‬يعني‭.‬

وما‭ ‬أن‭ ‬يظهر‭ ‬أمامها‭ ‬حتي‭ ‬تلين‭ ‬ملامحها،‭ ‬وتبدو‭ ‬وكأنها‭ ‬علي‭ ‬وشك‭ ‬الابتسام‭ ‬فتقول:

ـ‭ ‬تعالي‭ ‬يا‭ ‬خيبتها‭.. ‬تعالى ‬اترزع‭ ‬هنا‭.‬

بحبح‭ ‬ربما‭ ‬ـ‭ ‬والله‭ ‬أعلم‭ ‬ـ‭ ‬كنت‭ ‬أشعر‭ ‬أنه‭ ‬يصاب‭ ‬بالملل‭ ‬بسبب‭ ‬كلام‭ ‬رضا‭ ‬أحيانا‭ ‬ومن‭ ‬كثرة‭ ‬توبيخها‭ ‬له،‭ ‬فيرفع‭ ‬نفسه‭ ‬مقوسا‭ ‬ظهره‭ ‬ليتمطي‭ ‬ويتثاءب،‭ ‬ثم‭ ‬سرعان‭ ‬ما‭ ‬يتكوم‭ صانعا‭ ‬بجسده‭ ‬ما‭ ‬يشبه‭ ‬الكعكة‭ ‬وينام،‭ ‬لكنه‭ ‬لا‭ ‬يغادر‭ ‬مكانه‭ ‬بجوار‭ ‬رضا‭ ‬عند‭ ‬باب‭ ‬الحمام،‭ ‬حيث‭ ‬تجلس‭ ‬هي‭ ‬علي‭ ‬كرسيها‭ ‬الخشبي‭ ‬المنخفض‭ ‬أمام‭ ‬طشت‭ ‬الغسيل‭ ‬فاردة‭ ‬فخذيها‭ ‬الأبيضين،‭ ‬وقد‭ ‬أشاع‭ ‬وابور‭ ‬الجاز‭ ‬دفئا‭ ‬محببا‭ ‬في‭ ‬صباحات‭ ‬الشتاء‭ ‬الباردة‭.‬

ساعات‭ ‬وساعات‭ ‬تجلس‭ ‬رضا‭ ‬تغسل‭ ‬وتدعك‭ ‬وتغلي‭ ‬وتشطف‭ ‬في‭ ‬صبر‭ ‬فوط‭ ‬وملاءات‭ ‬أسرة،‭ ‬وأكياس‭ ‬مخدات‭ ‬و«هدوم‮»‬‭ ‬داخلية‭ ‬وخارجية‭ ‬وستائر‭ ‬شبابيك‭ ‬وبياضات‭ ‬وأغطية‭ ‬كراس ‬وكنب،‭ ‬وكل‭ ‬ما‭ ‬يخص‭ ‬بيتا‭ ‬تعيش‭ ‬فيه‭ ‬أسرة‭ ‬لها‭ ‬ثمانية‭ ‬من‭ ‬الأبناء‭ ‬والبنات‭.‬

عند‭ ‬الغروب‭ ‬وعندما‭ ‬تنتهي‭ ‬رضا‭ ‬من‭ ‬عملها،‭ ‬يكون‭ ‬حيلها‭ ‬اتهد،‭ ‬تنظف‭ ‬الحمام،‭ ‬وتشطف‭ ‬وجهها‭ ‬ويديها‭ ‬ورجليها،‭ ‬وتشرع‭ ‬في‭ ‬لبس‭ ‬جلباب‭ ‬خروجها‭ ‬الأسود‭ ‬مرة‭ ‬أخري،‭ ‬وبينما‭ ‬تدخل‭ ‬رأسها‭ ‬في‭ ‬فتحة‭ ‬صدره‭ ‬الضيفة،‭ ‬عندئذ‭ ‬وفي‭ ‬لحظة‭ ‬خاطفة،‭ ‬وإذ‭ ‬يختفي‭ ‬بعض‭ ‬من‭ ‬رأسها‭ ‬في‭ ‬سواد‭ ‬الجلباب،‭ ‬ينط‭ ‬بحبح‭ ‬وينقض‭ ‬عليها،‭ ‬ويخمش‭ ‬صدرها‭ ‬خمشا‭ ‬خفيفا‭ ‬مداعبا،‭ ‬ليعود‭ ‬بعدها‭ ‬إلي‭ ‬الأرض‭ ‬لاعقا‭ ‬شفتيه‭ ‬بلسانه،‭ ‬ولينظر‭ ‬إليها‭ ‬وقد‭ ‬ازدادت‭ ‬كرتا‭ ‬البللور‭ ‬لمعانا‭ ‬في‭ ‬وجهه‭.‬

تتحسس‭ ‬رضا‭ ‬صدرها‭ ‬الأبيض‭ ‬وتهمس‭ ‬بغنج‭:‬

ـ‭ ‬يوه‭. ‬يخيبك‭ ‬قط‭.. ‬أما‭ ‬أنك‭ ‬بُشت‭ ‬وعكروت‭ ‬بصحيح‭.‬

عم‭ ‬تضحك‭ ‬ضحكات‭ ‬ناعمة‭ ‬راضية،‭ ‬وساعتها‭ ‬فقط،‭ ‬كنت‭ ‬أشعر‭ ‬بأن‭ ‬بحبح‭ ‬قط‭ ‬ظريف‭ ‬وغريب‭.‬

رابط دائم: 
اضف تعليقك
البريد الالكترونى
 
الاسم
 
عنوان التعليق
 
التعليق