يقف نيرودا متميزا وسط كتيبة من الشعراء والفنانين الأفذاذ الذين يستوون فى الجبهة نفسها، والفضاءات السياسية والأيديولوجية والإبداعية، ومنهم لوركا، وألبرتي، وناظم حكمت، وأراجون. و يقول عنه «جابرييل جارثيا ماركيز»: « بابلو نيرودا من أفضل شعراء القرن العشرين فى جميع لغات العالم».
ونيرودا، الذى تحل فى سبتمبر الحالى ذكرى رحيله الرابعة والأربعون, ليس شاعرا شعبيا بالمفهوم الاستهلاكى أو السياسى أو الآني, لأن شعره يحتاج إلى تأمل، وإلى درجة من الثقافة والوعى الجمالي، والتلقى الإيجابي، أى أنه شاعر مُهيأ ليُقرأ فى كتاب, لا يسمع فى مهرجان. وقراءته تحتاج إلى جهد قد لا يقوم به سوى «النخب» (مع أنه يعارض مفهوم النخبة). فقصائد مثل «النشيد العمومي» أو «السيف الملتهب»، أو «يوميات الإقامة»... أو «حجارة شيلي» ذات بُنى مركبة. وهذا يوصلنا إلى نقطة مهمة، فقلّما كتب نيرودا قصائد متفرقة. كانت كل قصيدة عنده، أو معظمها، مشروع كتاب مؤلف بدأب وصبر وهواجس فنية عالية. قصائده طويلة, تمشى فى الزمن. ما يعنى أن هاجس «الكتاب» كتجربة متكاملة كان يسكن بال نيرودا. من هذه الناحية، وارتباطا بقصيدته المركبة لا المبسطة، يأتى دور القارئ «المبدع» الجلود والمكتشف والمتفاعل، أكثر من القارئ الجوال، أو العابر. نيرودا إذن شاعر كبير. وحالم كبير. وتراجيدى كبير،يحتاج إلى قارئ كبير.
إن شاعر شيلى الأشهر، الذى عاش بين 1904و1973 اكتسب ما اكتسبه من هالات وأسطورة، ليس فقط بسبب نهايته «المأسوية» بسرطان البروستاتا وإحراق منزله، ومتاعه ومكتبته ... وانما لأنه ايضا استطاع بشعره أولاً وأخيراً ان ينجو, و ان يبقى رغم موته بالجسد بعدما سقطت الأيديولوجيات وقبلها الأنظمة التى تبناها كيسارى وشيوعى ملتزم. بمعنى آخر إن شعر نيرودا، (ونيرودا كرمز) ما زال يحتفظ بقوته ونضارته بعد زوال مختلف الظروف التى أسهمت فى تغذيته وشحنه، بل إنه يبدو الآن أكثر حضورا مما كان فى تلك المرحلة، ذلك أن الهالات السياسية التى كانت تحاول استغلال هذا الشعر فتغلفه وتحجب طاقته الهائلة، وتوجهه توجهاً «أحادياً» (أى توجهاً أيديولوجيا)، عبر الأدوار التى لعبتها الأحزاب والتنظيمات السياسية (لأهداف دعائية) قد تبددت، لتترك الشعر وحيداً بحياته الخاصة، بقيمته النسبية، وهذا تحديداً ما شعرت به عند مراجعة دواوينه، من كتاباته الأولى فى العشرينيات، إلى الأخيرة فى السبعينيات أى قبيل وفاته, وما صدر بعد رحيله.
شعرت أولاً بأننى أكتشف حجم نيرودا الشعرى بعيدا عن صورته الطاغية «كمناضل سياسي». وشعرت ثانيا بأن قراءاتى لهذا الشاعر الكبير تحررت من الوقوع فى أحكام مسبقة، ورثناها من «الطليعيات» الشعرية والنخبوية. وعلينا ملاحظة أن علاقة نيرودا بالرمزية (كمدرسة) كعلاقته بالسيريالية (كمدرسة أيضا) وبالرومانتيكية، كانت علاقة تقاطع ومغادرة. فهو ابتعد عن التصنيفات. أى ابتعد عن تبنى إحدى هذه المدارس كأبجدية مكتملة، ليستغلها كمفردات. وبذلك تحرر من أى جماعة أو لغة جاهزة. فكل المدارس تخضع لنظريات جاهزة ,وهذا مقتلها. نقول هذا دون إغفال أن نيرودا الذى نأى بنفسه عن الارتباطات الجمالية المحددة، التزم الفكر الماركسي، كمناضل أو حزبى حتى آخر أيامه. فهل هذا تناقض؟ ربما! لكن علينا أن نعرف أن نيرودا بقى فى مجمل نتاجه ذا التزام مفتوح. بلا علامات طريق مفروضة. ولا ارتباط مقنن. أى انتصر الشاعر على الأيديولوجيا. وعلينا أن نعرف أنه كتب معظم شعره خارج هذه الالتزامات الايديولوجية الضيقة، سواء فى قصيدته الرائعة «حجارة شيلي» أو فى «قصائد الحب»، أو فى «سيف اللهب».. وهى أعمال مشروعة على الشرط الإنسانى العمومي, لكن عبر تواريخ وطنه شيلى وأمريكا اللاتينية. (هكذا كان لوركا والبرتى فى إسبانيا، وناظم حكمت فى تركيا، بل علينا أن نلاحظ أن نيرودا وظف كل العناصر والمدارس الجمالية فى زمانه، فى خدمة قصيدته الخاصة. أى قصيدته التى بقيت خارج التصنيف. ويجدر بنا ملاحظة أنه إذا كان نيرودا من أصحاب الضربات الجمالية العالية، وتلك الكيميائية الخصبة فى صهر العناصر لصوغ قصيدة متماسكة، فإنه فى المقابل بقى شاعر الضوء بامتياز، أى شاعرا لم يلجأ على امتداد مراحله (عدا مرحلة شبابه عندما انفعل بكثير من السيريالية أو الرمزية) لا إلى الغموض، ولا الالتباس (علما بأن صورته بعناصرها تؤدى إلى التباس مضيء، أو التباس بلا تعمية)، ولا إلى الصيغ الوعرة، ولا إلى عتمة الداخل، قد يلتقى السيريالية لكن يفترق عنها. أقصد أن كل أسطورة «فعل» مركب وإدهاشى فى نفسه، ينفتح على مجمل الظواهر «العجيبة» لأنه يتجاوز الحسابات «العقلانية» إلى ما هو مقدس، أى إلى ما هو فوق عقلانى.
رابط دائم: