أنا سيدة عمري ثلاثة وخمسون عاما، وأعمل أخصائية إجتماعية في مؤسسة تعليمية مرموقة,
وأحاول قدر استطاعتي أن أجد حلا لمشكلات الطالبات المعقدة، لكني لا أجد حلا لمشكلتي، أما زوجي فيعمل في شركة هندسية كبري, وبرغم طيبته البادية على ملامحه، فإنه قاسي الطباع, وكلامه دائما حاد كالسيف, ويسيطر علي كل المناقشات التي تدور بيننا داخل جدران المنزل, وهذه الصفة ورثها عن أبيه الذي كان صارما في كل قراراته، والحقيقة أنني وافقت علي الارتباط به, وأنا أعلم ذلك عنه, وتصورت أنه سيتغير بمرور الأيام, لكنه ظل علي ما هو عليه, ولم يتحرك عنه قيد أنملة، ومرت الأيام ورزقنا الله بابنتنا الكبري التي تزوجت فور تخرجها في إحدي كليات القمة، وابننا الذي هو محور المشكلة, فلقد كان متفوقا في دراسته مثل أخته, وظل يحتل أحد المراكز الأولي في جميع المراحل التعليمية، وتعامل معه والده بنفس المنطق الذي يؤمن به وهو الأوامر الصارمة ولا شيء غيرها, ولم يسمح له بالخروج من المنزل أو الاختلاط بأحد، ومع ذلك وجدت ابني دائما متفوقا والتحق بكلية مرموقة في جامعة عريقة.
وإلي هنا انتهي الجزء الجميل في حياتي, وبدأ الجزء القاسي, فبعد التحاقه بالجامعة أعطاه أبوه مساحة كبيرة من الحرية, وتهاون معه كثيرا, انطلاقا من إيمانه بأن ابنه صار رجلا وبإمكانه الاعتماد علي نفسه، وهكذا وجد ابننا نفسه حرا طليقا يفعل ما يشاء بلا رقابة ولا حساب، ولك أن تتخيل حال شاب عاش عمره مكبوتا ومغلولا داخل البيت ومحكوما بقبضة من حديد, ثم فجأة أصبح حرا طليقا, فلقد انحرف تماما عن المسار الصحيح الذي كان يسير عليه, وكانت بداية الانحراف بتدخين السجائر التي كان يحاول جاهدا إخفاء رائحتها الكريهة عند دخوله إلي المنزل برش العطور علي ملابسه، ومضغ اللبان حتي لا يشم أحد رائحته, لكنها مع ذلك تظل موجودة ويشمها كل من يقترب منه, ولم أجد بدا من معاتبته فلم يعبأ بما قلته, بل وتمادي في طريق الانحراف فعرف تدخين الحشيش, وتابعته وهو يتحدث بصوت خافت مع معارفه من اقران السوء, فانتهزت فرصة وجود والده يوم الإجازة, وأبلغته بما يفعله ابننا في هدوء ورجوته أن يهتم بأمره, فإذا به ينهال عليه بالسباب, ومر اليوم كغيره من الأيام وعاد الولد إلي ما كان عليه وكأن شيئا لم يحدث!.. وانتقل والده للعمل خارج القاهرة فوجدها فرصة لاصطحاب اصدقائه إلي المنزل بحجة المذاكرة, وفي كل مرة يغلق باب الحجرة بدعوي التركيز، وهكذا أصبحت غرفته وكرا للمخدرات التي كانت تنتشر في أرجاء الشقة من خلال الفتحات في الأبواب والشبابيك، وفي نهاية العام ظهرت النتيجة ورسب في الكلية بعد أن كان من أوائل المحافظة وتدهورت حالته الصحية, وتحول إلي هيكل عظمي متحرك, وكلما رأيته انهار باكية, وأسأل الله اللطف بنا، ومع مرور الأيام تحول إلي شخص آخر مختلف الطباع عن ابني الذي عرفته, فتطاول علىّ بالسباب والشتائم وامتدت يده لسرقة أشياء عديدة من المنزل لبيعها والإنفاق علي المخدرات بثمنها.
وعندما جاء زوجي في إحدي اجازاته جلسنا معه وفاتحناه في حالته وحاولنا أن نتحدث معه بهدوء بعد أن اقنعت زوجي بذلك, فاعترف لنا بأنه أدمن أنواعا عديدة من المخدرات، وأنه لن يستطيع التوقف عن تعاطيها, وأصر والده علي إلحاقه بمصحة لعلاج الإدمان, ودفع نفقات علاجه لشهور طويلة ثم سافر إلي عمله في المحافظة التي يعمل بها, لكن ابني رفض تعاطي العلاج لسحب المخدر من جسمه, وقال لي الطبيب الذي يعالجه ان الخطوة الأولي في العلاج هي رغبة المدمن فيه, لكن ابنك ليست لديه أي رغبة في العلاج أو الإقلاع عن المخدرات، وهكذا خرج ابني من المصحة مدمنا كما دخلها, وعاد إلي سابق عهده, وإلي أصدقاء السوء من جديد..لقد ذهبت أحلامنا فيه ادراج الرياح، ولا أدرى ماذا نفعل لإنقاذه من المصير المظلم الذي يسير إليه؟
> ولكاتبة هذه الرسالة أقول:
للتربية الصحيحة قواعد وأصول, ولكل مرحلة عمرية أسلوب خاص في التعامل يجب أن يعيه الآباء والأمهات، والبداية دائما تكون باللين والرفق حتي يشب الطفل، ويدرك الأشياء من حوله, وحينئذ يتم التشديد عليه شيئا فشيئا, مع ترك هامش من الحرية يتحرك فيه، لأن الكبت المستمر يجعله يتحول إلي النقيض تماما، وما أكثر التجارب المؤلمة في هذا الصدد لبنات انحرفن مع أول فرصة للإفلات من قبضة الأسرة.
والأب ليس ماكينة نقود, يدر علي أبنائه ما يريدونه من أموال دون أن يجلس معهم ويناقشهم في أمور حياتهم ويوجههم ويشرح لهم كل الدروب والمسالك, ويحذرهم من الانسياق وراء الأهواء والشهوات وأقران السوء الذين يدفعون بزملائهم إلي حافة الهاوية دون وعي أو إدراك من جانبهم، وعلي الأسرة أيضا أن تتدخل لاختيار أصدقاء أبنائها, وفي ذلك يقول رسول الله صلي الله عليه وسلم: «المرء علي دين خليله, فلينظر أحدكم من يخالل».. نعم كان ينبغي علي زوجك أن يعي ذلك، وأن يدرك أن ترك الحبل علي الغارب للأبناء بعد الكبت الشديد يؤدي إلي عواقب وخيمة!.
إن زوجك مطالب الآن بأن يعود إلي أسرته وكفاه بعدا عنكم, وأقول له: إن السفينة في حاجة إلي قيادتك لكي تتمكن من مواجهة الأنواء والأعاصير وهي تبحر في بحر الحياة قاصدة بر الأمان, فلا تتأخر, فكل دقيقة تمر ثمنها قاس من استقرار أسرتك, وعودة ابنك إلي تفوقه الدراسي, وإنني علي يقين من أن الحياة سوف تبتسم لكم من جديد إذا اتبعتم المنهج العقلانى فى تسيير الأمور, واحتويتم ابنكم، وتخيرتم له بعض المعارف والأصدقاء من شباب عائلتكم، لكى يبنى معهم جسورا من الصداقة والمحبة، فتوجهوا إلي علام الغيوب واسألوه من فضله وكرمه, وسوف تنقشع هذه السحابة السوداء من حياتكم قريبا باذن الله..
رابط دائم: