رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

رؤى نقدية
خطبة الشيخ 3

د.جابر عصفور
ولا أدل على أن الصوت الذى يتكلم فى كل الرسائل هو صوت ينطق آراء طه حسين من الصفات الأسلوبية التى نعرفها عن أسلوب طه حسين، وهو أسلوب يظهر الجزالة ويؤثر الازدواج الدلالى والصوتي،

كأن يقول: «أنتما عندى أزكى من ذلك نفسا وأطهر قلبا». أو: «صائب الرأى وطريف الفكر»، فضلا عن سخريته التى تقرن حداثة الشيخ الشاب بأنه جمع إلى درس الدين ورواية اللغة الإلمام بأطراف العلم الحديث، حيث ظهرت آثار ذلك فى سيرته: «فهو يصغر العمة ويقصر الكم ويذهب إلى القهوة، ويحسن لعب النرد والشطرنج».

............................................

صحيح أن طه حسين يبرع فى محاكاة الأسلوب الأزهري؛ لأنه أدرى الناس به لغة، وهو أمر يبين عنه فى مطلع رسالة «الشيخ علام» إلى خطيبته «إحسان» للمرة الأولى قائلا: «سيدتى الآنسة»:

«لو أن ما فى الأرض من شجرة أقلام، والبحر يمده من بعده سبعة أبحر، ما نفد شرفى بخطبتك وفرحى بمكاتباتك». وقد سبق أن أشرت إلى أمثال هذا المقطع، ولكنى أتوقف عند ما فيه من حرص على التفاصح والسجع والتضمين البلاغي؛ فهو يشير إلى الآية (27) من «سورة لقمان» التى يقول فيها الله- تعالي: «وَلَوْ أَنَّمَا فِى الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ». فمجرد التضمين بهذه الآية والإشارة إلى ما يماثلها من تراكيب بلاغية معقدة «تلتف أغصانها فى روضة فيحاء من المنى أو تزدحم أغصانها كأشجارها فى جنة تجرى من تحتها الأنهار، يتأرج نسيمها بعبير المسك، ويلقى فيها الرجل الصالح جزاء ما قدم بين يديه من النسك». إنما هى كلمات من البلاغة التقليدية تصلح فى رسائل الجاحظ أو ابن المقفع أو حتى عبدالحميد الكاتب، لكنها لا تصلح بالقطع لأن توضع على لسان فتاة متفتحة، هى نموذج للمرأة الجديدة التى بشّر بها قاسم أمين، ودعت إليها جماعة «السفور» الطليعية فى زمانها. أعنى أنها كلمات وتراكيب لا تناسب مقتضى الحال الذى هو فتاة لم تجاوز العشرين من عمرها إلا بقليل، ولا يمكن أن تفهم هذه الرسالة إلا بالعودة إلى المعجم أو استشارة أستاذ اللغة العربية، كما فعلت صديقة «إحسان» «أسماء» التى ذهبت إلى معلم اللغة العربية؛ لكى يشرح لها مغاليق هذه الرسالة البلاغية التى تنبنى على هذا النوع من «الفقهنة» أو الفيهقة التى أشرت إليها. واللافت للانتباه – رغم ما فى أسلوب الخطيب من حرص على السجع واختيار المسكوكات القديمة- أن التركيب اللغوى بلغته المسجوعة لا يخفى الخصائص الأسلوبية لطه حسين؛ سواء فى حسن التقسيم أو فى الحرص على التقابل أو الازدواج الصوتى أو الإطناب، وكلها خصائص تقترن بالإملاء وليس الكتابة.

لكن فيما عدا هذا النوع من المحاكاة فإن التناقض واضح بين ظاهر هذا الخطاب الذى يتحدث عن «سيدى الوالد، حفظه الله» وبين هذا الوالد الذى يتحدث عنه الشيخ نفسه فى رسالته لصديقه «الشيخ زهران» سلبا وذما، فهو شيخ ينطوى على نموذج الحريص على تملق الحكام والأثرياء؛ ليصبح منهم كى ينسى تماما حياة الفقر والبؤس التى عاناها أو التى لا يزال يعانيها، قبل أن يتخرج فى الأزهر، لكن بعد أن ينافق مشايخه ويظهر لهم ما ليس فى قلبه، كما تعود أو تعلم منهم.

لكن رغم كل هذا، فإن رواية «خطبة الشيخ» لا تخلو من شاعرية؛ خصوصا فى اللحظات التى تخلو فيها «إحسان» إلى نفسها وتفتح قلبها لصديقتها «أسماء»؛ كاشفة لها عما تعانيه من توتر وآمال وأحلام، ولكن صديقتها «أسماء» تصدمها برأيها؛ مؤكدة ذلك كله عندما تقول لها إن هذا الخطيب: «درس اللغة والدين وتكونت نفسه فى الأزهر، فهى نفس لا تصلح إلا لتعيش فى القرن الثالث أو الرابع للهجرة». وهى عبارات لا تعبر عن رأى «أسماء» بقدر ما تعبر عن رأى المؤلف الذى ينطق من وراء الرسائل الخمس عشرة، والذى يبدو متسربا فى كل رسالة منها؛ فالأسلوب فى كل الأحوال أسلوبه المعروف، رغم تباينه الخادع من رسالة إلى رسالة، والفكر فى كل الرسائل فكره رغم محاولته التعمية أو المخادعة، والثورة على القديم فى كل الرسائل ثورته، والرغبة فى التجديد هى هى فى كل الرسائل، فهى تتطلع إلى زمن آخر غير الزمن الذى تعيش فيه أغلب الحياة المصرية التى كانت لا تزال مشدودة إلى الماضي، والتى تأسست جماعة «السفور»؛ لكى تنتزعها من هذا الماضي، دافعة إياها إلى المستقبل، كاشفة عنها حجاب العقل وحجاب الوجه لكى تتحرر الأمة المصرية جسدا وروحا؛ فتغدو الحياة المصرية فى حال من السفور الذى أطلقته الجماعة الطليعية المتآزرة على المجلة التى أسسوها سنة 1915، والتى جعلت انحيازها الأدبى إلى فن القص وليس فن الشعر؛ تطبيقا لأفكار الأستاذ أحمد لطفى السيد الذى كان ينبههم إلى أهمية القص فى زمن الحداثة، فركزوا على هذا الفن بوسائل وأساليب متعددة ومتباعدة؛ كى يسفر هذا الفن الجديد عن وجهه بوصفه الفن الصاعد لأبناء طبقة جديدة يقترن صعودها بصعود الحياة المدنية الحديثة.

تبقى نقطة أخيرة قد تربك قارئ هذه الرواية، وهى خاصة بالتواريخ التى تذيل كل رسالة من الرسائل الخمس عشرة، فأحيانا نرى تاريخين، كما يحدث مثلا فى الرسالة الخامسة التى نراها تشير إلى مدينة تولوز (29 يونيو 1916)، وقبلها تاريخ يشير إلى الكتابة فى مصر. والتاريخ الأول الذى لا يغادر سنة 1913 هو التاريخ الذى يشير إلى الزمن الروائى الذى تقع فيه أحداث القص، أما التاريخ الثانى فهو يشير إلى الزمن الخارجى الذى تقع فيه الكتابة التى حدثت فى فرنسا ما بين تولوز فى شهر يونيو أو سان جيرون فى 10 يوليو 1916 أو تارب فى 20 يوليو 1916. أما فى الرسالة الأخيرة فتنتهى من حيث الزمن الروائى فى مايو 1913، كما تنتهى فى باريس من حيث الزمن الكتابى فى سنة 1917، وهى ملاحظة تجعلنا نقول إن طه حسين كتب روايته هذه، وهو فى طريقه إلى باريس وأنهاها مع استقراره النهائى فيها، متعمدا ذلك فيما يبدو، فقد أدرك عندما وصل إلى باريس والتحق بجامعتها أن الأعباء الدراسية التى وقعت على كاهله هائلة، وأنه لكى ينهض بها ويتفوق فيها (فيما قرر بينه وبين نفسه) عليه أن ينسى كل شيء ما عدا الدراسة؛ فأنهى رسائل «خطبة الشيخ» على هذا النحو الملتبس. فمن أراد أن يقرأ الرسائل الخمس عشرة على أنها مشروع رواية يومئ الحاضر منها إلى الغائب، ويكشف منها الظاهر عن الباطن، أو المعلن عن غير المعلن، وتكون الرسائل الخمس عشرة هى رواية كاملة يمكن أن توصل رسالتها إلى القارئ أو يتركها كما هي، إلى أن يفرغ طه حسين من أعباء أطروحة الدكتوراه ويعود إلى مصر؛ ممارسا حياته الجامعية الجديدة، بعيدا عن سطوة الأزهر، قريبا من كل ما يدفعه إلى معاودة الكتابة القصصية التى عاد إليها بالفعل فيما نعرف من تاريخه الأدبي.

لكن يبقى بعد ذلك أن نفرح بهذه المحاولة الروائية الأولى لطه حسين، وهى محاولة ظلت مجهولة إلى أن تحقق حلمنا فى إعادة نشر جريدة «السفور». وهى الجريدة التى تحمل من الكنوز المجهولة فى أدبنا الحديث الكثير الذى يدفعنا إلى إعادة النظر فى هذا التاريخ كى يكون لدينا تصور أكثر دقة عن أحداثه وإبداعاته وأعلامه الذين لا يزالون مجهولين.

رابط دائم: 
اضف تعليقك
البريد الالكترونى
الاسم
عنوان التعليق
التعليق