"دنياك سكك، حافظ على مسلكك.. وامسك فى نفسك لا العلل تمسكك.. وتقع ف خية تملكك، تهلكك.. أهلك، يا تهلك دا انت بالناس تكون.. ويرفرف العمر الجميل الحنون"...
كلمات نقشها الشاعر سيد حجاب فى تتر مسلسل "أرابيسك"، مطعّمة بألحان الفنان عمار الشريعي.. فى محاولة لنحت أغنية على نغمات الخشب تناسب اللوحة الأدبية التى صاغها المؤلف أسامة أنور عكاشة.. لوحة تشبه الأرابيسك فى تعقيده حيث تكشف عبثية الزمن الذى يشتتنا لكثرة طلاسمه.
...............................................................
شأن الأرابيسك فى تحدى النهايات، باعتباره فن دائم الولادة والحياة، و رمز للبقاء والخلود.. كان بطل رواية عكاشة رمزا للبقاء والإستمرارية. فبرغم ما فعله العثمانيون من شحن أجداده من بين ألاف الحرفيون المصريون المهرة لزخرفة المساجد فى اسطنبول، وعلى رأسهم صانعى الأرابيسك ومهارة زخرفة الأخشاب التى كانت تتميز بها مصر قديما.. إلا أن عائلة "حسن النعماني" حفظت تلك المهنة عبر العصور. صمود البطل "حسن أرابيسك" أمام جميع التحديات التى تواجهه متشبثا بهويته، وصنعته، وبالأرض التى شهدت فجر موهبته، لم يمنعه دائما من البحث عن هوية مصر وهاجس سؤال العروبة يؤرقه. من هم المصريون؟ من نحن؟
كانت دائماً الشخصية المصرية نصب أعين المبدع "أسامة أنور عكاشة". وإن كان يدرك روح مصر التى تتميز بالتنوع نتيجة التيارات المختلفة التى مرت بها فى تاريخها وسنوات الاحتلال الطويلة، لكنه سعى فى روايته على تأصيل هوية مصر العربية، وهو ما يبدو واضحا من اختياره للعنوان "أرابيسك". فوفقا لقاموس المعجم الوسيط، الأرابيسك هو فنّ الزَّخرفة العربيّة، يتكوّن من خطوط منسوجة مع بعضها ومنحنيات مرتَّبة ترتيبًا هندسيًّا، وقد تحتوى على خليط من الطّيور والحيوانات فى تشابك هندسيّ.
من ناحية أخري، شكّل "الأرابيسك" وجها أساسيا للعمارة المصرية فى أعمال الأديب العالمى نجيب محفوظ، خاصة فى الثلاثية التى دارت أحداثها فى الأحياء الشعبية "السكرية" و"بين القصرين". فتظهر فيها المشرفيات التى تطل من الحرملك إلى الخارج، والمشربيات التى كانت توضع فيها القلل الفخار المخصصة للشرب. كما كان للأرابيسك حضور كبير فى مقاهى محفوظ، وأشهرها على الإطلاق "مقهى الفيشاوي" الذى يتكون من 3 غرف. الحجرة الأولى يطلق عليها غرفة "البوسفور"، وهى مبطنة بالخشب المطعم بالأبنوس، وأدواتها من الفضة والكريستال والصيني، وكانت مخصصة للملك فاروق، وكبار ضيوف مصر من العرب والأجانب. وثانى الغرف، هى غرفة ''التحفة''، وهى مزينة بالصدف والخشب المزركش والعاج والأرابيسك والكنب المكسو بالجلد الأخضر، وهى خاصة بالفنانين. أما الغرفة الثالثة فتسمى غرفة ''القافية''.
وفى رواية "زقاق المدق"، أول ما افتتح به السرد نجيب محفوظ هو هذا المقطع: "تنطق شواهد كثيرة بأن زقاق المدق كان من تحف العهود الغابرة وأنه تألق يوما فى تاريخ القاهرة المعزية كالكوكب الدرى أى قاهرة أعني؟...الفاطمية؟...المماليك؟ السلاطين؟، علم ذلك عند الله وعند علماء الآثار، ولكنه على أية حال أثر، وأثر فى نفيس. كيف لا وطريقه المبلط بصفائح الحجارة ينحدر مباشرة إلى الصنادقية، تلك العطفة التاريخية، وقهوته المعروفة بقهوة كرشة تزدان جدرانها بتهاويل الأرابيسك، هذا إلى قدم باد، وتهدم وتخلخل، وروائح قوية من طلب الزمان القديم الذى صار مع مرور الزمن عطارة اليوم والغد..". هنا سعى محفوظ إلى ابراز ما تعيشه مصر على إرث الأمس حيث يستوى التاريخ، فى كل تقطباته الفرعونية والفاطمية والمملوكة والسلاطينية واحدة وكلا لا يتجزأ، وربما لا يقبل التوحد أيضا.
كانت الحارة التى يعرفها أديب نوبل كما شهدتها صفحات رواياته، حارة الأخلاق، دستورها الحب والإحترام. يذكر أنه بعد أن ترك الحارة، وبنى بيتا أخر غير البيت الذى عاش فيه بحى الجمالية، صُدم عندما زارها وحزن حزنًا شديدًا لما وصلت إليه الحارة وتهدّم البيوت الأرابيسك الجميلة. كان الأرابيسك بالنسبة له هوية لا تتجزأ من شخصية الحارة المصرية.
أرابيسك الشتات
فيما أقدم الأديب الفلسطينى أنطون شماس على كتابة روايته "أرابيسك" باللغة العبرية، وقد ترجمت إلى عدة لغات لكنها لم تترجم حتى اليوم إلى العربية! فاجأ شماس الإسرائيليين بأن هناك من يكتب بلغتهم بمستوى لا يقل عن مستواهم. مؤكداً فى مقدمة الكتاب على أنه فاقد للهوية، ذاكراً عبارة (جورج برناردشو): "لقد قلتم لى بأن الطفل حين يُؤتى به إلى بلدٍ غريب يتعلم لغة هذا البلد فى بضعة أسابيع وينسى لغته. أجل، إننى طفل فى بلادكم".
تشبه "أرابيسك" فى بنائها وتعقد أسلوبها وتداخل أحداثها وتعدد شخصياتها تكوينات "الأرابيسك" المعقدة المتداخلة، فهى رواية الفلسطينى فى حالاته المتعددة، وتحولاته المتواصلة، وهوياته المختلفة التى اكتسب بعضها خلال غربته، واكتسب بعضها الآخر وهو على أرض وطنه، تستوى فى ذلك كل الهويات فكلها اكتسبها من دون اختيار، بل دفع إليها دفعاً فى صورة أو أخري، لذا فكلها تظل أقنعة لهويته الحقيقية المعبرة عن نفس معذبة، ممزقة بين أكثر من طرف واتجاه.
فسوطة، تلك القرية الفلسطينية المسيحية فى الجليل هى المسرح الرئيسى للأحداث فى الرواية، يغادرها الناس ليعودوا إليها أو هم لا يعودون ولكن لتبقى لهم جذور وأقارب وذكريات وأصداء ذكريات، غادرها جبران شماس، جد أنطون شماس، وعاد، وغادرها جريس والد أنطون - ميشيل ولم يعد، وغادرتها ألماظة، زوجة جريس ووالدة أنطون أنطون - ميشيل وعادت فاقدة عقلها الذى احتفظ بذكرى فلسطين كما كانت قبل 1948.
وعلى رغم أن أنطون شماس الراوى يبقى فى وطنه ويحتفظ باسمه فإن التحول يطاول هويته الفلسطينية القروية، لتصبح فى الجزء الثانى من الرواية هوية إسرائيلية تفتقد براءتها القروية وترتدى بدلاً منها هوية مثقفة ذكية لماحة. وعلى رغم قبوله بهذه الهوية فإنه لا يبدو متسقاً معها تمام الاتساق.
رابط دائم: