رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

رؤى نقدية
خطبة الشيخ ( 2 )

جابر عصفور
وإذا عدنا إلى هذه الرواية من الناحية الفنية فلن نجد أنفسنا إزاء رواية بالمعنى الذى كانت عليه رواية «زينب» التى كتبها محمد حسين هيكل صديق طه حسين، فى باريس 1912 ونشرها فى مصر سنة 1914 (وكانت صفحات «السفور» تنشر إعلانات عنها فى صفحاتها)؛

ولذلك سنجد أن هذه الرواية رغم قيامها على شخصيات خمس، لا نرى لهذه الشخصيات وجودا مستقلا أو حضورا متعدد الأصوات. أعنى أن خطاب كل شخصية لا يختلف عن غيره فى المستويات الأسلوبية أو اللغوية بوجه عام؛ فالمستوى الأسلوبى أو الخطابى واحد مما يدل على أن طه حسين لم يستطع أن يتقمص شخصياته، وأن يتحدث عنها من الداخل، أو ينطقها على نحو مستقل ذاتى فى كل حالة. فنحن لا نعرف من صفات «أسماء» و«إحسان» أو من صفات «الشيخ علام» و«الشيخ زهران» إلا ما يقوله طه حسين الذى ينطق بلسان الجميع، فتتكرر الملامح الأسلوبية نفسها والخصائص اللغوية ذاتها؛ فالفوارق بين الشخصيات ليست فوارق بين شخصيات حية، وإنما هى خلافات بين دمى أو أقنعة يتحدث من ورائها المؤلف الواحد الذى نسمع تموجات صوته فى كل مجال فحسب.

..................................................

وأول ما يلفت الانتباه فى هذا النص– من هذا المنظور- هو تأكيد طه حسين الروائى على انتهازية «الشيخ علام» حين يكتب لصديقه «الشيخ زهران» قائلا ومذكرا إياه بمعاناتهما أيام الفقر حين كانا مجرد طالبين بائسين فى الأزهر فيقول له: .....«أكتب إليك وقد ابتسم لنا ثغر الدهر، وبش لنا وجه الأيام، فالقلب ممتلئ سرورا، والنفس مفعمة حبورا، والسعد يقبل علينا راضيا مستبشرا، والنحس يدبر عنا باكيا مستعبرا، لا رقأ دمعه، ولا رأب صدعه، فقد طالما جرعنا الصاب، وأذاقنا مر العذاب. لله تلك الأيام الطوال قضيناها ساهدين، غير هاجدين جدا على العمل، وترقبا للأمل فى غرفة ضيقة الفناء، فاسدة الهواء. يُكل أبصارنا فيها سقم الضوء. وتنهش أجسامنا حشرات الفراش، قد طوينا الأحشاء على رديء الغذاء، وحرمنا نفوسنا طيبات الحياة دأبا على الدرس، ورياضة للنفس ورغبة فى الأسنى من الدرجات الحسنى، وما يلقاها إلا الذين صبروا، وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم». ولابد أن أتوقف– فى هذا السياق- كى أشير إلى براعة طه حسين فى محاكاة «الفقهنة» أو الفيهقة اللغوية؛ فالحرص على التسجيع دال، والتمثيل بالآيات القرآنية لافت بما فيه من حرص على بلاغة التضمين والإشارة القرآنية، لكن وراء ذلك نوع من التهكم اللغوى الخفى من أسلوب الأزهريين التقليدى فى اللغة، ومن حياة الشظف غير الإنسانى التى تربى فيهم الحرص على حياة هى نقيض حياتهم، حياة عامرة بلذة الحواس التى يحققها الثراء على حساب الآخرين، ومن ثَم إشباع حرمانهم وكبتهم متعدد الأبعاد على السواء.

هكذا يتحدث طه حسين على لسان الشيخ الذى كان يفترض أن يتعلم من دينه ومن زهاد مشايخه القناعة والرضا بما قسمه الله. ولكنه– بدل ذلك- يرى فى شظف حياته ما يحضه على الجشع والطمع فيما لدى الآخرين من الثراء والنعمة. ويحدِّث صديقه عن الغنيمة التى وجدها فى صهره قائلا: «إن صهرى رجل غنى ضخم الثروة، يملك خمسمائة فدان من أجود أطيان المنوفية، وليس له إلا ابنته وغلامان غير صالحين، فأنت ترى أن حظ زوجتى من الميراث يكون عظيما، وإن إيرادها لن ينقص فى السنة عن ألف جنيه، فما كنت أحلم بهذه الثروة، على أن فى نفسى خاطرا أكاشفك به الآن لأعرف رأيك فيه، وهو أن صهرى يستطيع إذا أظهرت له رغبتى فى أن يقف أطيانه على أولاده، بشرط أن تكون قسمة الثروة بينهم متساوية؛ أى ألا يكون للذكر مثل حظ الأنثيين، وبذلك يكون نصيب زوجتى من التركة مائة وستين فدانا، وثلثين، أى إن إيرادها فى السنة يزيد على ألف وستمائة جنيه، ولست أفعل ذلك رغبة فى تغيير النص أو العدول عن أمر القرآن والفرار من القسمة الشرعية، فإن الوقف، كما نعلم، مشروع وهو باب من أبواب الفقه، ورخصة من رخص الشرع. وأنا أعتقد أن زوجتى أحق بهذه الثروة من أخويها لأنهما غلامان فاسدان ليسا لهما دين ولا إيمان».

ولا يتوقف هذا الشيخ الشاب والانتهازى على هذه الأطماع فحسب، بل يضيف إليها طمعا آخر عندما يقول لصاحبه: «ومن سوء الحظ أن قانون المعارف لا يسمح للمرأة إذا تزوجت أن تستمر فى التعليم، ولو كان يسمح بذلك لاستمرت هى فى وظيفتها واستمررت أنا فى وظيفتى ولأنفقنا مرتبينا فى تدبير الحياة وحفظنا إيرادها؛ تنمية للثروة واستثمارا للمال». وهذا كلام يكشف عن سوء طوية الخطيب وطمعه الذى لا حدود له. ولا يقتصر سوء الطوية على الطمع وحده، فهناك الاستخفاف الذى يعامل به الانتهازى الآخرين، وهو يتصور أنه أذكى منهم، وأنهم يستحقون عبثه بهم، وسوء رأيه فيهم، ولذلك فإن الخطيب الانتهازى لا يخجل من أن يقول لصاحبه عن صهره الذى يتقرب إليه، وهو ينطوى على هذا الطمع الخسيس، ما يلى: «وهو رجل ثقيل ثرثار لا يعرف الصمت، ولا ينفك يكلمك حتى يسئمك، كل كلامه غيبة وقدح فى أقرانه. وقد كان من رجال السيف أيام إسماعيل، وهو الآن من أصحاب المعاش، يلزم الصف الأول فى سيدنا الحسين، وينفق بقية وقته فى الحديث ولعب النرد والشطرنج. ومن حسن الحظ أنه قد جاوز السبعين، وأنه ضعيف الصحة، ليس بينه وبين القبر إلا خطوات معدودة». هذا نموذج من رأى الخطيب الانتهازى فى صهره، وهو كلام إن دل على شيء، فإنما يدل على سوء طويته وسوء خلقه وانحطاط معدنه فى آن.

ولا يقتصر الأمر على ذلك، فطه حسين يتحدث بشكل عام عن رأى صديقه الذى يختلف عنه فى ضيق الأفق– وإن كان يخلو من الانتهازية- فيقول «الشيخ زهران» لصديقه «الشيخ علام» عن رأيه فى تعليم المرأة...« فأما هذا التعليم الحديث فإنه يبعد ما بين المرأة وبين الدين، لاسيما تعلم اللغات الأجنبية، فلو أنها تعلمت اللغة العربية لحسن الأمر، ولكنها تتعلم اللغة لتقرأ ما كتبه الأوروبيون من الطعن فى الديانات، ولاسيما فى الإسلام. ومن حيث إننا قد درسنا فى الأزهر، ووقفنا أنفسنا على خدمة الدين والدفاع عنه، فأرى من الواجب علينا ألا نتزوج إلا امرأة صالحة ليست خطرة على الدين. ولعمرى إن المرأة الجاهلة لأسلم عاقبة من المرأة المتعلمة تعلما حديثا، فإنها مطيعة سامعة تقبل منك كل ما تقول، ولا تلبث أن تصير دينة مؤمنة إذا علمتها وهذبت نفسها». هذا هو رأى «الشيخ زهران» فى التعليم الحديث للمرأة، وهو رأى لا ينطق به «الشيخ زهران» بوصفه بطلا متخيلا فى الرواية، وإنما هو رأى كان ينطق به عدد كبير من المشايخ فى ذلك الوقت الذين ما كتب طه حسين روايته إلا ليسخر منهم ويتهكم عليهم.

ومن الواضح أن طه حسين يستخدم شخصية «إحسان»، كما يستخدم غيرها من الشخصيات؛ لكى ينطق على لسانها ما يريده من نقد للشيوخ، خذ مثلا الرسالة الثالثة عشرة التى ينطق فيها طه حسين بما يريد أن ينقد به المشايخ قائلا على لسانها: «هذا النوع من الشيوخ المحدثين الذين نشأوا فى الأزهر ومروا بمدرسة القضاء أو دار العلوم ليسوا بحيث تظنين من الدين والحرص على القديم، فهم لا يؤمنون بالله ولا بالشيطان، كما يقول الفرنسيون، وإنما يتخذون من الدين والقديم مسحة يتوسلون بها إلى مناصبهم، فإن شئتِ الاستدلال على ذلك، فادرسى أخلاق أساتذتنا الشيوخ الذين كنا نرى ظاهرهم يدل على الورع والصلاح، فإذا أردنا أن نبتلى سرائرهم ونمتحن سيرتهم لم نتردد فى الحكم بأنهم يعيشون عيشة غيرهم من شبان هذا العصر الحديث الذين استطاعوا أن يضعوا العمامة ويخلعوا الجبة والقفطان، قد سلكوا سبيل غيرهم من شباب المدارس المدنية جهرا، لا يخفون سيرتهم، ولا يلقون بينهم وبين عامة الناس من ثيابهم وشهودهم للصلوات وتظاهرهم بالصوم حجابا».

هذا كلام لا يمكن أن تنطقه فتاة فى عمر «إحسان»، حتى لو كانت تقرأ باللغة الفرنسية، وإنما هو كلام طه حسين الذى لم يكن يكف عن نقد الأخلاق الأزهرية التى كان يراها تنطوى على ازدواج غير يسير. ويمكن أن نقول الأمر نفسه على ما تكتبه «إحسان» لصديقتها «أسماء» عن رأيها فى الزواج وعن رأيها فيما ينبغى أن تواجه به حياتها الزوجية؛ مؤكدة أنها لم تخلق لكى تطيع أحدا الطاعة المطلقة، وأنها لا تذعن لقوانين الاجتماع المصرى (المجتمع المصرى)، ولكنها تبذل ما تملك من الجهد لإصلاح حالها الخاص وتدبير حياتها، بحيث لا تناقض القانون ولا يكون بينه وبينها اختلاف، وبالقدر نفسه تؤكد لخطيبها رأيها فى الزواج من وجهة النظر الوضعية بأنه شركة قائمة على التعاون والمساواة بين الطرفين، دون أن يكون لأحد منهما أفضلية مطلقة على الآخر، فتخاطب خطيبها قائلة: «إن الزواج كغيره من الظواهر الاجتماعية، ليس إلا قانونا من قوانين الفطرة، ينشأ مع الجماعة، ويتبع ما تمر به فى أطوار حياتها من الرقى والانحطاط... ولكنى أرى وأحسب أنى مصيبة أن الدين والقانون كالأدب والشعر ليسا إلا صورة تمثل ما تحرص عليه الأمة من حياتها الماضية وما تأمله فى حياتها المقبلة».

وليس هذا كلاما يمكن أن تقوله فتاة لمن يتقدم إلى خطبتها، ولكن هذا كلام طه حسين الذى يضعه على لسانها، وذلك بالقدر نفسه الذى يضع على لسان «أسماء» ما تقوله لصديقتها «إحسان»: «أنظر إلى الزواج نظرا وضعيا خالصا، وأرى أنه عقد شركة بين الزوجين قد قاما على الإلزام والالتزام كغيره من العقود. أفمن العدل إذًا أن يكون للرجل وحده أن ينقض هذا العقد متى شاء، فإذا أرادت المرأة نقضه، قام العرف وأنصاره ونهض القانون ومنفذوه لردها إلى الطاعة وقهرها على الخضوع». فهذا ليس كلام فتاة فى سن «أسماء»، وإنما هو كلام طه حسين الذى يتحدث بآراء تشبه آراء أصدقائه فى جماعة «السفور» الذين تأثروا تأثرا كبيرا بحركة تحرير المرأة التى أرادها قاسم أمين، والتى آمنوا بها ودافعوا عنها دفاعهم عن تحديث المجتمع وحداثته فى آن. ويؤكد ذلك أن من جماعة «السفور» التى انضم إليها طه حسين منصور فهمى الذى كان قد أنهى أطروحته عن وضع المرأة فى الإسلام، ووصل فى جسارة آرائه إلى الحد الذى دفع الجامعة المصرية إلى عدم الاعتراف بدرجة الدكتوراه التى كانت تطويرا لأفكار قاسم أمين. أقصد إلى الأفكار التى يصفها طه حسين على لسان شخصيتى «إحسان» و«أسماء». وكلتاهما من الشخصيات التى تلعب دور القناع الذى يستطيع الكاتب من خلاله أن ينطق كل المسكوت عنه، من خطاب تحرير المرأة والمرأة الجديدة.

( وللحديث بقية)

رابط دائم: 
اضف تعليقك
البريد الالكترونى
الاسم
عنوان التعليق
التعليق