رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

محمود البوسيفى: استلهمت التكثيف الشعرى من النص الصوفى

حوار : أسامة الرحيمي
ويُحكى .. أن الصقيع داهم الشاعر فسالت الأدوية هذه واحدة من ومضات حزن المثقف الليبى «محمود البوسيفي» التى نزفها فى ديوانه الأخير «لعلها شجرة بعيدة»، المسكون بوحشة غالبة، وأشواق لا تحتمل إلى وطنه الجريح.

والغربة عنده ليست «لهاث لا يتوقف»، ولا «بوح متلعثم» فقط، بل «ثياب من أسلاك شائكة» و«أن تدفن حياً.. يومياً» وهى أيضا «استنطاق للوجع»، و«تلصص الروح من المسام».

فبعدما كان وسط حياة مفعمة بالحيوية، تعج بالأصدقاء، واضطلع فيها بمسئوليات رسمية مهمة لخدمة الإبداع والثقافة. من مدير الأخبار بالإذاعة، إلى رئيس وكالة الأنباء الليبية، ثم رئيسا لهيئة الاستعلامات، ورئيسا لتحرير مجلة «المؤتمر» وأصدر أكثر من مائة كتاب للمبدعين فى مختلف الإبداعات، ثم أصدر صحيفتى «أوبا» و«قورينا»، ووسط هذا أصدر ثلاثة كتب ثقافية، وديوان، وله رواية وكتاب نصوص قيد الطبع. وتمتع بعلاقات واسعة فى الوسط الثقافى العربي، خاصة شعراء مصر الكبار ، ومبدعيها. لكنه يشعر الآن بوحدة مقبضة، وهو يتأمل المشهد الليبى المفزع، بكل ما يشيعه من حسرة، ويقول فى ديوانه بأسى:

الناس الذين كنت أعرفهم

صارت ملامحهم بطعم الغياب

أخشى حين التقيهم أن أعبر

طريقهم فى عجلة

ولا ألتفتْ.

.

حين قرأت ديوانك «لعلها شجرة بعيدة» أحسست أن مبدعاً حقيقياً بداخلك كان مخطوفاً من البداية لصالح مهامك الرسمية التى توليتها فى الشأن الثقافى الليبى سابقا؟

الإدارة هى المتهم فى كل العصور، ومع غيري، فلست وحدى من تورط بالالتزامات الوظيفية، وربما لاعتقادى أن موقعى الإدارى كان يسهم فى إصلاح المنظومة الثقافية هو الذى جعلنى أستجيب لتلك المسئوليات، بالرغم من إحساسى بظلم هذا المبدع بداخلي.

ألا تظن أن هذه الانشغالات الرسمية تؤدى لتآكل المواهب وتبديدها؟

تتآكل بالضرورة فى حال التوقف عن القراءة الجادة، ومحاورة المبدعين، ولا تتآكل فقط بالشكل العملي، بل يصبح القاموس فقيرا وقديما.

عنوان ديوانك «لعلها شجرة بعيدة».. لعلك تقصد الأمل بالحل، أو العودة إلى الوطن وسط الظروف العصيبة التى تمر بها ليبيا الآن؟

لعله «الوطن».. فى الحنين والنوستالجيا إليه..

لهذا جاء مفعما بالحزن والإحساس بوطأة الغربة.؟

مصدر هذا هو «الوجع».. الترجمة الحقيقية لما أشعر به بعد المحن التى عصفت بليبيا والوطن العربي، وأنا بشكل ما محسوب على اليسار القومي، وكانت قضيتنا هى فلسطين، وما زالت، نعتبرها «بوصلة القلب» التى كانت تشير فقط إلى فلسطين، لكن بندولها الآن صار يشير إلى العراق واليمن وسوريا، والخشية من امتدادها إلى مناطق أخرى، خاصة أننا نؤمن أن الهدف من كل هذه العواصف هو «مصر»، فالمطلوب هو إسقاطها، و هذا مصدر الوجع والحزن. أما عن الغربة فرغم أنى أعيش بين أخوة وأصدقاء وأشقاء، ومصر هى الحاضنة الحقيقية لكل العرب ولا يشعر فيها إنسان بالغربة. لكن هذا تعبير عن افتقاد مواقع الذكريات، فأنا هنا بعيد مهما كان عن مراتع الطفولة والشباب، والحياة الخاصة، وفاتورة الليبى كانت باهظة عادة، فالهجرة كانت دائما قسرية.

الديوان يكشف عن اقتصادك الشديد فى الكلمات بالرغم من اتساع المعاني؟

ربما لتأثرى بالنص الصوفي، ومحاولة الاقتراب من ضفافه، واستلهمت التكثيف منه لأنى أجده أكثر صدقا فى التعاطى مع الواقع، صحيح أنا كتبت فى الشأن العام مقالات مطولة، لكن فى الشعر التكثيف أكثر جدوى، إضافة إلى أن هذا ما خرج معي.

وربما له علاقة بطبيعتك؟

أحب أن أكون مستمتعا أكثر، يستهوينى الاستماع، وربما له علاقة أيضا بهوسى القديم بالاستماع إلى الحكايات الأسطورية من الآباء والأجداد (الخُرّاف من الخرافة)، وقد جعلتنى تلك الحكايات مستمعاً ومندهشاً حتى إننى أخشى ما أخشاه الآن وأقاومه بقوة هو خوفى من افتقاد الدهشة.

كيف يمكن أن تكون العلاقة بين المناصب الرسمية والثقافة مفيدة أو إيجابية؟

يمكن أن تكون مفيدة جدا، فالمثقف الحقيقى على رأس المؤسسة الثقافية يمكنه مساعدة المبدعين بإبراز إنتاجهم، وهو ما حاولت فعله فى كل المناصب التى تقلدتها، وأعتبره الإنجاز الأكبر فى حياتي، والجميع ما زالوا يتذكرون ذلك، مثلا، أثناء رئاستى تحرير «مجلة المؤتمر» قمت بتغطية الحركة التشكيلية فى ليبيا كلها، وأصدرت أكثر من مائة كتاب للمبدعين الشباب فى الشعر والقصة والرواية والتشكيل والمعمار وغيرها، وفى صحيفتى «أويا»، و«قورينا» ساهمت فى تخريج مجموعة من الصحفيين والفنيين، وفى غيرها من المواقع قدمت مثل هذه الخدمات إنحيازاً للجدوى التى يشكلها هذا الدعم للمبدع.

كتبك الثلاثة «أبجدية الرمل» و«أمريكا التى نحب» و«خلايا نائمة» كلها تؤكد النفس الأدبى لديك، وليست مجرد مقالات، إضافة لمخطوطين قيد النشر هما «العطش» (رواية)، و«مديح الضجر» (نصوص)، لماذا أهملت هذا الأديب كل هذا الوقت؟

بالضبط كان النفس الأدبى أو اللغة أهم ما يرصده القارئ فى مقالاتي، وكلها كانت مثلما قلت أنت، كانت محاولات للقبض على آثار هذا «المبدع المخطوف».

كانت علاقتك عميقة بالشعراء المصريين الكبار مثل عفيفى مطر وأمل دنقل وحلمى سالم ورفعت سلام وغيرهم، فلما لم ينعكس هذا كحافز على إبداعك؟

كانت هذه الصداقة تعويضا لبعدى عن الإبداع، وكنت أخجل من نشر ما أكتبه فى تلك الفترة، وفى بداياتى كتبت القصة وتوقفت عندما قرأت لـ «يوسف إدريس» و «تشيكوف»، وعندما بدأت أول محاولة لكتابة الشعر وقع فى يدى ديوان «أمل دنقل» الأول جئت إلى مصر للتعرف إليه فى أبريل 1975، برغم أن ديوانه الأول لم يكن فيه ملامحه التى ظهرت بعد ذلك، لكنى شعرت أنه شاعر كبير. وكذلك كان غموض «محمد عفيفى مطر » هو سبيلى أيضا للاقتراب منه فى محاولة لفك هذه الطلاسم، وساعدنى فى واقع الأمر الشاعر «محمد الفقيه صالح» و كان يدرس فى مصر بالسبعينيات، وكان من مجموعة إضاءة، وهو من أهم الشعراء العرب، وكان يساعدنى فى فك طلاسم عفيفى لأنه مسكون بالأسطورة والإحالات، وتعرفت على «حلمى سالم» عن طريق مجلة «أدب ونقد»، وأصبح صديقى هو أيضا، وكنت دائما قريب جدا من الوسط الثقافى فى مصر وأحببتهم كثيرا.

هل هذا فقط سبب هوسك بمصر؟

ليبيا برغم وجودها جغرافيا فى منطقة المغرب العربى لكن هوانا شرقى ثقافيا، سواء عبر حلقات الذكر أو الصوفية. وأوائل المتعلمين الليبيين جاءوا من الأزهر، ثم جاءت المجلات والصحف من مصر وليس غيرها، ثم الأغنية والسينما والشعر والمسرح، وقبل كل ذلك كان المدرس المصرى والطبيب والمهندس الذين ساهموا فى بناء الدولة فى الخمسينات والستينات، وقد أخبرنا أهلنا أن مرتبات المدرسين المصريين فى الخمسينات كان تأتى من مصر لأن ليبيا كانت دون موارد تقريبا. كل ذلك شكل ما يمكن وصفه بالهوى اللليبى بمصر . إضافة إلى أنه أثناء الإحتلال الإيطالى كانت مصر مركزا للكثير من الليبيين، وكانت الصحف والمجلات تهرب إلى ليبيا، وكانت الإسكندرية ملاذا آمنا للآلاف من المهاجرين مثلما هى الآن ملاذ للكثير من الليبيين، ضف إلى هذا كله البعد التاريخى والجغرافي، والتداخل الديموجرافي. فلك أن تتخيل أنه فى عام 1977 وحده ثم تسجيل 270 ألف حالة زواج ليبى مصري، ما يعنى أن ثُلث الشعب الليبى أخواله مصريون، وأيضا كان لدينا فى عام 1948 الأربعينات حزبا ليبيا اسمه «الاتحاد الليبى المصري. والأهم هو إيماننا الحقيقى بأن مصر هى المركز والأخ الأكبر لكل العالم، وليست ليبيا وحدها، فمصر لا تقاس لا بالتاريخ ولا الجغرافيا بل بالدور.

ألم يتغير هذا الدور بتقديرك؟

على الأقل شعبيا لم يتغير، ما زال المصرى يقول لأى عربى أنت أخي، وعلى رأى المثل الشعبى «اللى ما عندوش كبير يشترى له كبير».

وكيف ترى الأفق الثقافى الليبى الآن، وهل ثمّة أمل فى انفراجة قريبة؟

من خلال حوارى مع صحيفة الأهرام الكبرى أوجه الدعوة لكل مثقفى ليبيا لأن يكونوا القاطرة، فهم وحدهم بوسعهم ترميم ما تصدع، الشأن السياسى مضطرب وممزق ومحكوم بالخارج أكثر من الداخل وتصل الأمور أحيانا إلى الاعتقاد بأنه لا أفق للحل، لكن بمقدور المثقفين صياغة ما يمكن أن يُبنى عليه لاستجلاء ذلك الأفق واستعادة السيادة الوطنية، لابد للمثقف الوطنى أن يعى أن دوره الحقيقى فى هذه المرحلة، ولابد أن يعود من منفاه النفسى ويثق بأنه وحده من يعول عليه الآن فى صياغة مشروع البناء والحفاظ على الوحدة الوطنية التى يتهددها شبح التقسيم.

ما دور المثقفين المصريين فى إعادة بناء الجسور بين البلدين ؟

نحن نثق فى أهمية وضرورة قيام المثقف المصرى بهذا الدور فى دعم وإسناد مشروعات المثقف الليبى فى هذا الخصوص وهذا الدور قامت به مصر فى السابق بدعم حركات التحرر العربية من أجل الاستقلال والحرية وكان له أثر إيجابى بالغ الأهمية. وكانت مصر فى تلك الفترة مركز الإشعاع القومى والتنويرى الذى ساعد البلاد العربية فى تلمس طريقها لتحقيق أمانيها فى الحرية والاستقلال.

رابط دائم: 
اضف تعليقك
البريد الالكترونى
الاسم
عنوان التعليق
التعليق