انتهت أمس فى امان وسلام نفرة الحجيج من عرفات.. بينما يحلو للملاين من المسلمين الذين لم يحالفهم الحظ بالحج قضاء دقائق وسط بهجة عيد الأضحى المبارك مع رائعة أم كلثوم وهى تشدو بكلمات أمير الشعراء أحمد شوقى «إلى عرفات الله ياخير زائر .. عليك سلام الله فى عرفات» التى لحنها الموسيقار الكبير رياض السنباطى بعد رحيل أمير الشعراء بحوالى عشرين عاما ً
فقد رحل عن عالمنا عام 1932 وغنتها أم كلثوم فى سبتمبر 1951 ورغم تعدد التواريخ التى تسجل عيد ميلاد هذه الرائعة الكلثومية إلا أن ما يهمنا هو تجمع كل عناصر النجاح لهذه الرائعة الدينية الخالدة، فقد اختارت كوكب الشرق هذه القصيدة الفصحى بالتنسيق مع السنباطى الذى تعترف بأستاذيته فى تلحين القصائد الصعبة من ديوان الشوقيات.
............................................
وتتكون الأغنية من 42 بيتا ً تم اختصارها إلى 22 بيتا ً ركز فيها الاثنان على الأبيات ذات الطابع الدينى والوطنى معا، وليست هذه المرة الأولى التى تغنى فيها روائع الشعر العربى فقد غنت لكبار الشعراء من تلحين السنباطى أيضا ً وأحمد شوقى «ولد الهدى فالكائنات ضياء .. وفم الزمان تبسم وسناء»، وغنت «حديث الروح» لشاعر باكستان الكبير محمد إقبال، ولبيرم التونسى غنت «القلب يعشق كل جميل» إلى جانب روائعها الوطنية الأخرى ، أما حكاية «إلى عرفات الله» فقد استغرق تلحينها شهرين كاملين ظلت خلالهما أم كلثوم تتردد على السنباطى بصفة دائمة على «فيلته» بمصر الجديدة، وتغنى معه على العود كلما ينتهى من تلحين بعض أبياتها التى عاشت فيها مع لحنه الرائع وموسيقاه التى تقطر حبا ً وحنينا لزيارة البيت الحرام، تهيم عشقا ً فى أبيات شوقى التى جسد فيها المشهد الربانى الذى يراه الحجيج فى هذه الزيارة الميمونة والمحببة لدى كل مسلم التى تصل ذروتها الإيمانية حين تقول:
على كل أفق فى الحجاز ملائك .
تزف تحايا الله والبركات .
لدى الباب جبريل الأمين براحل
رسائل رحمانية النفحات ..
وفى الكعبة الغراء ركن مرحب
بكعبة قصاد وركن عفات .
وزمزم تجرى بين عينك أعينا ً
من الكوثر المعسول منفجرات
لك الدين يارب الحنيف جمعتهم
لبيت طهور الساح والشرفات ..
إلى أن تصل إلى المعنى الذى أبدع فيه شوقى معبراً عن توافد الحجاج إلى البيت الحرام مبتهلين إلى الله أن يغفر لهم ماتقدم من ذنبهم وماتأخر وبلغ شوقى قمة إبداعه حين ركز فى الحج على تساوى جميع الحجاج أمام الله لا فرق بين فقير وغنى فكل الناس سواء فى وقفة عرفات ومناسك الحج عموما ً
أرى الناس أفواجا ً ومن كل بقعة ..
إليك انتهوا من غربة وشتات ..
تساووا فلا الأنساب فيها تفاوت ..
لديك ولا الأقدار مختلفات ..
ويارب هل تغنى عن العبد حجة ..
وفى العمر مافيه من الهفوات ..
وأنت ولى العفو فامحو بناصع ..
من الصفح ما سوءت من صفحات ..
ويتجلى لحن السنباطى أكثر وتتأثر به أم كلثوم :
إذا زرت بعد البيت قبر محمد ..
وقبلت مثوى الأعظم العطرات ..
وفاضت من الدمع العيون مهابة ..
لأحمد بين الستر والحجرات ..
واشرق نور تحت كل سنية ..
وضاء أريج تحت كل حصاة ..
وتتجلى أم كلثوم مع موسيقى السنباطى وروعة أشعار شوقي:
شعوبك فى شرق البلاد وغر بها ..
كأصحاب كهف فى عميق سبات .
. بإيمانهم نوران ذكر وسنة ..
فما بالهم فى حالك الظلمات ..
وقل ربى وفق للعزائم أمتى ..
وزين لها الأفعال والعزمات ..
ويقول النقاد الذين عاصروا سيدة الغناء العربى إنها كانت فى قمة تجلياتها واحساسها بالرهبة وهى تسجل هذا اللحن والدموع تسيل من عينيها من خشية الله وكانت تتشوق إلى حج بيت الله والفوز بزيارة الأماكن المقدسة ولم تتمكن ولكنها أدت العمرة مرة واحدة، لكنها ظلت بعدها تتردد بصفة دائمة على السنباطى وتجلس مع أسرته وكانت تعتبره أستاذها الذى تعلمت منه حسن الآداء، وإتقان القصائد التى تكتب بالفصحى دينية كانت أو وطنية، ولذلك كانت لا تستطيع أن تطلب منه أى تعديل فى اللحن الذى ينتهى إليه وتلتزم به وكانت المرة الأولى التى اختلفت معه فى رائعة إبراهيم ناجى «الأطلال» عندما طلبت تعديل القفلة الأخيرة فى الأغنية وغضب السنباطى لأنه كان يعرف إمكانات صوتها وإنها تستطيع أن تغنى اللحن كما هو واقتنعت فى النهاية بذلك وبعد نجاح الأغنية واستقبال الجمهور لها بحفاوة شديدة عادت إليه فى «فيلته» بعد نهاية الحفل تعتذر عن السنوات التى ضاعت من عمرها بسبب هذا الخلاف .
ويجمع النقاد الذين عاصروا السنباطى وسيدة الغناء أن رائعة أحمد شوقى إلى عرفات الله هى من أعظم ما أبدعه الثلاثة وأجمل ما عبر فيه شوقى عن حالة تشوقه لزيارة قبر الرسول عليه الصلاة والسلام وحنينه لأداء فريضة الحج وحسنا ً فعل التليفزيون عندما أعاد تصوير «إلى عرفات الله» بعد اثنتى عشرة سنة (1963) من تسجيلها، وتطالعنا أم كلثوم فى مثل هذا الوقت من كل عام سواء فى حياتها أو بعد رحيلها باعتبارها من الكنوز الثرية التى يقتنيها التليفزيون والإذاعة ويحرصان على تقديمها فى هذه المناسبة ولم تقتصر سيدة الغناء والسنباطى معا ً على الاهتمام بالقصائد والأغانى الدينية فقط بل امتد حرصهما أيضا ً على الأعمال الوطنية الراقية التى تؤكد حب هذا الوطن والانتماء إلى ترابه الطاهر ومن أهمها رائعة شاعر النيل حافظ ابراهيم «وقف الخلق ينظرون جميعا ً كيف أبنى قواعد المجد وحدي» ويذيعها التليفزيون بصفة دائمة مع لقطات عن انجازات ثورة 30 يونيو مثل قناة السويس الجديدة ومحور القناة ومشروع المليون ونصف المليون فدان وآلاف الوحدات السكنية التى تم إنشاؤها فى جميع أنحاء مصر، وكذلك رائعة عبدالفتاح مصطفى «طوف وشوف فى جنة ربنا واتفرج وشوف .. ضفتين بيقولوا أهلا ً والنخيل واقف صفوف .. وابتسامة شمسنا أجمل تحية للضيوف» وتعتبر من أجمل الأغانى التى تعكس معالم مصر السياحية والأثرية لو أحسن استغلالها، ثم رائعة الشاعر عبدالوهاب محمد «حق بلادك» «قوم بإيمان وبروح وضمير.. دوس على كل الصعب وسير..» وجميع هذه الأشعار والأغانى سواء كانت بالفصحى أو العامية من تلحين الموسيقار الكبير رياض السنباطى الذى تمر هذه الأيام ٣٦ سنة على وفاته فى سبتمبر ١٩٨١ .
رابط دائم: