حين عدت من الشارقة في عام2003 بعد عملي هناك لمدة سنتين تقريبا. تجولت بين أماكن تواجد الأصدقاء لأستعيد علاقتي بالواقع الثقافي, وفي نيتي البحث عن موضوع مميز أفتتح به نشاطي المهني. وكدت أيأس بمرور الأيام.. وقلت لا مفر من العودة التدريجية بحوارات عادية, إلي أن صادفت صديقي الأديب المحترم حسين عبد الجواد( الباشا كما أسماه الفاجومي)..
وفي سياق كلامه العادي ذكر أمامي أنهم في لقاء نجيب محفوظ قالوا كذا, فرد الأديب الكبير بكذا. فاستوقفته بسؤال.. هو نجيب محفوظ له لقاء أو مجلس؟.. فقال لي ما اعتبرته مفاجأة تخالف كل تصوراتي: نجيب محفوظ له ست جلسات من الأحد إلي الجمعة في أماكن متفرقة بأنحاء القاهرة.. والسبت لا يخرج من بيته.. يعتبره إجازة.. أذهلني الكلام لأنني كنت لوقتها أتصور أن أديب نوبل يكابد مضاعفات الشيخوخة في فراشه مترقبا الموت.. كان الموضوع كما تمنتيه أكبر بكثير مما طمحت إليه مهنيا.. أيعقل هذا؟ نجيب محفوظ يختلف إلي ستة أماكن في أنحاء القاهرة وهو في الثانية والتسعين من عمره؟!! أي إنسان هذا؟.. وبعد طعن رقبته بسكين مثلوم بيد ذلك المتطرف يعود لممارسة نشاطه مجددا؟!.. أي إرادة تلك؟!!.. وتوالت علامات الاستفهام علي ذهني بإلحاح ممض.

لم تهدأ إلا حين أخبرت الشاعر بهاء جاهين في اليوم التالي بفكرتي عن عمل موضوع لصفحة أدب التي تصدرها الأهرام يوم الثلاثاء من كل أسبوع, بعنوان أسبوع في حياة نجيب محفوظ, وأنني بحاجة لمساعدته, ليس بصفته رئيسا لقسم الثقافة فقط, بل لأن نجيب محفوظ يعرفه شخصيا بحكم صداقته مع والده الشاعر الكبير صلاح جاهين عضو شلة الحرافيش التاريخية, وصاحب لقب رجل الساعة الذي أطلقه علي نجيب محفوظ في احتفال أقامه له الأهرام بافتراح من جاهين لبلوغه سن الخمسين عام1960 في مبني جريدة الأهرام القديم الشهير بشارع مظلوم, وحضرته كوكب الشرق.. أم كلثوم, والمبدع الكبير توفيق الحكيم برعاية رئيس تحرير الأهرام وقتها الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل.. وقصد برجل الساعة أنه أهم أديب في حينه.. والمنضبط علي توقيت الساعة..
طلبت من بهاء جاهين الاتصال بمنزل الأديب نجيب محفوظ للاستئذان منه في حضوري مجالسه الستة, وتغطيتها لـالأهرام, فأعجبته الفكرة وتحمس لها, وبادر من فوره بالاتصال, وردت عليه حرمه السيدة عطية الله, وسمعت صوتها واضحا من السماعة وهي تعد بإبلاغ الأستاذ كما كانت تسميه, والرد فورا, وحين عادت قالت أنه يسلم علي بهاء جاهين, ويرحب بالرحيمي في مجالسه..
كنا يوم خميس.. أذكر جيدا.. وكان موعدنا الأحد( بداية أسبوعه), وذهبت من فوري إلي الأرشيف, وطلبت ملفه, فاتضح أنه ملفات متعددة, ومكتظة بالأوراق, وغرقت فيها, أخبار هائلة في كل الإصدارات, مصرية وعربية ودولية, وحوارات كثيرة جدا, قرأت أهمها, وفوجئت به ملولا في إجاباته في الأخيرة منها, ويقول للصحفيين أنا أجبت عن هذه الأسئلة مرات كثيرة, ومن يريد معرفة رأيي فيها فليقرأ الأرشيف ويأخذ منه.. وتجنبت كل الأسئلة التي رفض الإحابة عليها, وعدت إلي الأصدقاء الذين يحضرون أغلب جلساته, خاصة الكاتب حسين عبد الجواد, والفنان محمد الشربيني الذي توفي مؤخرا, رحمه الله, وأفادوني بأنه لم يعد يستقبل الصحفيين لإجراء حوارات, ويرفض القنوات التلفزيونية أيضا.. ورغم توجسي.. أعددت عشرة أسئلة رأيتها غير مطروقة, أو علي الأقل غير مستهلكة ولن تشعره بالملل..
وتسلحت بحيلة مشروعة استلهمتها من كلام الأصدقاء, وقراءاتي لسيرته الذاتية في كتاب جمال الغيطاني عن حياته, وحواراته, ومشاهدة لقاءاته التلفزيونية, وهي حبه للزعيم سعد زغلول وثورة1919 وكانت سيرة أي منهما كفيلة بفتح شهيته للكلام.. ووسط كلامه عن أيهما كنت أوجه له سؤالا من العشرة, وعبر الستة أيام أجاب علي تسعة منها, وتحفظ علي واحد فقط منها.. وخيرني فقبلت الاستغناء عنه لأني لم أرد أن أثقل عليه..
كانت مجالسه تبدأ يوم الأحد في إحدي الفنادق علي كورنيش النيل, في بار نابليون, ولم تكن جلسة شرب كما قد يتبادر لذهن البعض, بل كانت جلسة تشبه المقاهي العادية في المشاريب, وإن كانت في مكان فخم, وظني أن الفندق أراد استغلال اسمه الذائع بعد نوبل, فوفر له هذا المكان, وهناك ابتدأت الأسبوع معه..
والجلسة الثانية يوم الاثنين في فندق سوفيتل بمدخل المعادي, وخصصوا له قاعة يبدو أنها كانت للحفلات, أو ماشابه ذلك لكبر حجمها, وأذكر أنني قابلت المخرج المعروف توفيق صالح في تلك الجلسة, وطلب مني بجدية عدم ذكر بعض آراء له حول صدام حسين عند نشر الموضوع, ووفيت بوعدي له, وعرفت لاحقا أنه استحسن الموضوع جدا حين رآه في الأهرام, والطبيب النفسي الرائع أحمد شوقي العقباوي وكان مثقفا موسوعيا, ويمتلك حسا نقديا مدهشا, وكان يغلب علي تلك الجلسة حضور الأطباء, واندهشت أنهم لا يهتمون بالسياسة ولا بالشأن العام, ولاينشغلون بغير عملهم, وقراءة أعمال نجيب محفوظ.
واستكملت اليوم السابع, السبت, من كلام الأديب سلماوي وذهبت إليه مكتبه في بالأهرام, وكان ما يزال رئيسا لتحرير الأهرام إبدو, وحدثني عن لقاء السبت بينهما, وكيف كان نجيب محفوظ يفتح له الباب في تمام الساعة الخامسة, إذا كانت زوجته وابنتاه خارج المنزل, لأن سمعه ثقيل ولا يسمع الجرس.
وأفادني جدا المرحوم الحاج صبري السيد الذي كان يذهب إلي الأستاذ يوميا في بيته, ليقرأ له الصحف المهمة, ويطلعه علي أهم أحداث الوسط الأدبي التي لم ترد في الصحف, وسمعها في الأهرام. وأضاف لي محمد أمين الشرطة المكلف بحراسة الأستاذ من بعد حادثة طعنه, معلومات قيمة, وأضاء لي جوانب إنسانية مهمة في حياة الأستاذ, منها مساعداته للناس, ومنهم محمد نفسه الذي اشتري له الأستاذ شقة, وساعده في تكاليف الزواج..
والجلسة الثالثة يوم الثلاثاء في مركب عائم بنيل الجيزة, وكان يحضرها الأدباء جمال الغيطاني, ويوسف القعيد, وزكي سالم, والفنان محمد الشربيني, وغيرهم, وتصادف في ذلك اليوم أن كان عيد ميلاد الأستاذ محمد حسنين هيكل, وطلبه الغيطاني من تليفونه المحمول وقال له الأستاذ يريد أن يهنئك بعيد ميلادك, وأعطي التليفون لـ نجيب محفوظ الذي قال مبتسما وبصوته المتحشرج العميق: كل سنة واحنا طيبين بيك.. وناول التليفون من فوره للغيطاني الذي أكمل المكالمة للحظات مع هيكل..
والجلسة الرابعة كانت في فندق قريب من المطار, وحضرها في ذلك اليوم الشاعر الكبير عبد الرحمن الأبنودي, وآخرون لا أذكر من أسمائهم غير حافظ لأن نجيب محفوظ مازحه باسمه عدة مرات في ذاك اليوم, وآخرون من مشارب ووظائف متفرقة
والجلسة الخامسة, يوم الخميس, كانت فيإحدي المطاعم علي كورنيش النيل في المنيل, وحضرها الأديبان نعيم صبري وزكي سالم, والطبيب النفسي المعروف يحيي الرخاوي
والجلسة السادسة والأخيرة, يوم الجمعة, في بيت الدكتور يحيي الرخاوي بالمقطم, وحضرها حوالي عشرة أشخاص, أذكر منهم الصديق الناقد أسامة عرابي وكان محفوظ يحب أن يقرأ له أخبار الأدب بصوته القوي ولغته السليمة وثقافته الواسعة التي تضيف لأديب نوبل معلومات كثيرة يحب أن يعرفها, وأيضا الصديق المحترم بليغ بطرس, والفنان محمد الشربيني, وأناس آخرون كان يغلب عليهم العمل بوظائف حكومية, في مصالح متفرقة
ومما يستحق الذكر أن أعضاء تلك الجلسات الست, بعد وفاة نجيب محفوظ, تجمعوا في شلة واحدة, واختاروا مجلسا لهم بالقرب من بيته بالعجوزة, في نادي الأطباء البيطريين, أمام مستشفي الشرطة, وكان لهم لقاء أسبوعيا, وتطور الأمر بأن ناقشوا عملا من أعمال الأديب الكبير كل شهر, وحضرت معهم تلك الجلسات مرات عديدة, وحاورتهم في ذكراه, ونشرت عنهم موضوعا في الأهرام أيضا..
وفي الجلسة الأولي بفندق شبرد, ذهبت قبل الساعة السادسة, موعد بدء كل جلساته, بنصف ساعة, وجلست أترقب وصوله وأنا متوتر, لأني سأراه شخصيا لأول مرة, وإلي تلك اللحظة لم أكن أصدق أنه إنسان عادي, أو أنه موجود في سياق حياتنا المعتاد, وكلما اقترب الوقت كان ضربات قلبي تزداد بمعدل أربكني, وكنت أطمئن نفسي بمعرفتي بأعماله, التي قرأتها كاملة, وعالمه الذي أظن أنني أصبحت من مكوناته لفرط اطلاعي علي تفاصيله, وفي تمام السادسة رأيته قادما, يتأبط ذراع الدكتور فتحي هاشم صديقه الذي يتكفل باصطحابه في سيارته, وهي ذاتها التي كان يركبها وقتما طعنه المتطرف. وقفت أمامه وقال له الدكتور فتحي, وكان يعرفني جيدا: يا نجيب بيه.. دا الأستاذ أسامة الرحيمي من الأهرام, فقال الرجل بمودة رائقة وصوت عميق متعثر: أهلا وسهلا.. وأضاف بجدية وديبلوماسية استوقفتني: يا دكتور فتحي.. اشمله برعايتك.. وحين جلسنا أوسعوا لي مكانا بجواره فنظر ناحيتي مبتسما, وكان جميع من حولنا يتبادلون التحية, ويحتلون أماكنهم في الجلسة, وقال الأستاذ الكبير بود أصفي: انت اسمك عندي في رواية.. فقلت: نعم يا أستاذ.. رواية الطريق.. سيد صابر الرحيمي.. وسألني مستفسرا: انت من الجمالية, وكنت أعرف أن أسرة في منطقته القديمة تحمل اسم الرحيمي, فقلت له أنني من المنصورة, وأشعل سيجارة في اللحظة التي أتي فيها النادل بفنجان قهوته, وصبه ووضعه أمامه, وانصرف, وبعدما جذب عدة أنفاس بعمق أقوي من سنه, وبشراهة بادية, أخذ رشفة عميقة واحدة من الفنجان, ثم غطاه بطبقه, وأعاده إلي مكانه, وعرفت لاحقا أنه بات يدخن سيجارتين في اليوم فقط, واحدة في السادسة تماما, والثانية في الثامنة تماما, مع رشفتي القهوة, وحسب..
وبادر الدكتور فتحي هاشم الحضور بقوله: رجاء اللي يتكلم يذكر اسمه وعمله لأن الأهرام معنا اليوم مشيرا إلي تسجيل وقائع الجلسة, وبدأ الحديث شخص اسمه محمد الكفراوي قدم نفسه كمهندس وعضو الهيئة العليا لحزب الوفد, ثم تحدث عن محمد حسنين هيكل بكلام ملئ بالسباب المتجاوز, بسبب مقالته الشهيرة استئذان بالانصراف التي كتبها هيكل وقتها يستأذن عموم قراءه في التوقف نهائيا عن الكتابة, وأثارت حينها جدلا كبيرا في كافة الأوساط المعنية, وانتقل الكفراوي بلا فاصل إلي شتم جمال عبد الناصر, وكان لديه ارتباط شرطي بين اسمي هيكل وناصر, وكال لهما من الشتائم المقذعة ما يندي له الجبين, ولا تليق بمجلس يضم أديب نوبل الموقر, ونظرت إلي نجيب محفوظ لأري رد فعله, فأحسست أنه غارق في أفكار بعيدة عن مجلسنا, وكأنه لم لم يسمع, وبعد قليل استطاع آخرون انتزاع الكلام من الكفراوي ذاك, ووجهوه إلي حادثتين كانتا تشغلان الرأي العام وقتها, أولاهما انتحار الشاب عبد الحميد شتا الذي يحمل ماجستير في العلوم السياسية, ويحضر لمناقشة الدكتوراه, ويجيد الإنجليزية والألمانية بجانب إجادته التامة للعربية, وتقدم لامتحانات الخارجية ليعمل في السلك الديبلوماسي, لكنهم رفضوه بجملة أليمة, تليق بعصر مبارك بكل ما فيه من فساد وانهيار للقيم, حيث قالوا غير لائق اجتماعيا, فقط لأنه ابن عامل في مصنع للطوب, ومهما كانت مؤهلاته, وتفوقه بمرتبة شرف في تعليمه الجامعي والماجستير, لكنه ابن رجل فقير, وبسيط, والخارجية لم يعد يعنيها وقتها وجود الكفاءات, بل أبناء الأغنياء فقط, الذين يحملون مظاهر كاذبة, حتي لو كانوا جهلة, ولا يليق بهم تمثيل مصر.
والحكاية الثانية التي شغلت الرأي العام هي انتحار ولي أمر في القناطر لأنه عجز تماما عن توفير مائة جنيه فقط لشراء احتياجات أولاده عند بدء العام الدراسي, الكتب, والحقائب وما إلي ذلك, وكان يعذبه سؤال ابنته الصغيرة له كلما عاد إلي المنزل عن حقيبة المدرسة, وبعدما حاول اقتراض المبلغ, ورفض كل معارفه تماما, ووجد نفسه عاجز وضعيف أمام إلحاح ابنته, فأقدم علي الانتحار بلا تردد, حين اكتشف أن الحياة أقسي مما يظن..
أذكر جيدا أن نجيب محفوظ.. بعدما هدأ النقاش قليلا, تحدث فجأة قائلا: لكن يا كفراوي بيه ما كانش يصح أبدا أيام عبد الناصر إن شاب بالمؤهلات دي كلها يرفض لعدم لياقته اجتماعيا.. ولا أب ينتحر لأنه عجز عن توفير ميت جنيه بس.. كانوا المصريين أيام عبد الناصر مستورين.... وصمت لحظة ثم أضاف كأنه يحدث نفسه: ما كانش حد يقول لي.. ميت جنيه حاجة سهلة.. الراجل حظه صعب..
بعد قليل أحببت أن أسأله عن سيرته الذاتية, ومهدت لهذا بالكلام عما تبقي من قيم وجيل ثورة1919 في حياتنا, فضحك وقال: تقريبا.. ما عدش حد غيري. إذن لماذا يا أستاذ لا تكتب سيرتك الذاتية شأن الكتاب الكبار حول العالم؟, فقال: سيرتي في أعمالي, وكتاب الغيطاني, وكلامي في الأحاديث الصحفية التلفزيونية, فأحببت أن أفتح زاوية جديدة للسؤال, أقصد يا أستاذ سيرة ذاتية مثل صديقك لويس عوض؟!, فقال مازحا: دي مش سيرته.. دي سيرة أخوه.. وضحكنا جميعا..
واستكملنا الجلسة إلي الساعة الثامنة, فأشعل سيجارته الثانية, والتقط أنفاسه بشغفه الأول, وأخذ رشفة ثانية من فنجان قهوته الباردة, وبعد دقائق وقف للإنصراف, وقال لي: إلي اللقاء في جلسة بكره.. وحيا الجميع ومضي متأبطا دكتور فتحي هاشم, وتأملت نحوله, وتعجبت لخطواته التي لا يسمع لها دبيب..
وفي جلسة المعادي, كان معظم الحضور من الأطباء, وأغلبهم من الجراحين, متأنقون جدا, وحرصوا علي ألا يتحدثوا, وبدا لي أنهم تهيبوا وجود صحفي, وظننت أنهم خشوا قول آراءهم بحرية حتي لا تؤخذ عليهم إذا نشرت, ولم يتكلم منهم غير الدكتور أحمد شوقي العقباوي بجمال لافت, والمخرج توفيق صالح, وتحدث باستفاضة عن فيلم الأيام الطويلة الذي أخرجه في العراق عن جانب من حياة صدام حسين, وأنصت إليه نجيب محفوظ, والجميع باهتمام, شديد, وهو يلعن الدكتاتورية, وكيف قضي تلك الفترة في العراق علي أعصابه, وحين سألته عن حقيقة رفض صدام لمشهد التألم وهم ينتزعون الرصاصة من جسده بدون مخدر موضعي, انتبه لوجودي بسبب السؤال, وقال حازما, هذا الكلام ليس للنشر إطلاقا من فضلك, وأجاب علي سؤالي, وبعدما انتهي, فسر الدكتور العقباوي نفسية الديكتاتور بأسلوب علمي باهر, والمرة الوحيدة التي عقب فيها نجيب محفوظ قال: كلهم شبه بعض, وسألته سؤالا آخر فأجابني بلا تردد.. وخرجت بغنيمة إضافية من الجلسة..
وفي المركب العائم سألته عن الزعيم سعد زغلول فقص حكاية تعجبت لها, قال إنه ذات يوم وجد زحاما كبيرا في أحد شوارع القاهرة, وبعد السؤال عرف أن الناس يتجمعون للسلام علي الزعيم, فوقف, وكان في الخامسة عشر من عمره تقريبا, لأنه مواليد عام1911, والزعيم توفي عام1927, ومرض مرات متكررة لسنة قبل وفاته تقريبا, إلي أن مات. المهم أن محفوظ ذكر أن هذه كانت المرة الوحيدة التي رأي فيها الزعيم مباشرة, لكنه وقتها انصرف بعد قليل لشاغل وراءه, وأبدي ندما كبيرا أنه لم يقف إلي نهاية الوقت الذي بقي فيه سعد زغلول بين الناس, وبدت عليه حسرة حقيقية كأن الموقف كان بالأمس, مع أنه قد مر عليه فعليا قرابة السبعين سنة, وهو في شجنه هذا طرحت عليه سؤالا آخر فأجابه, وكانت إجاباته قصيرة جدا, في بعض الأحيان كانت جملة لا أكثر, وفي سؤال آخر أجاب بكلمة واحدة: يجوز.
وتنبهت لعدة أشياء في الجلسات المختلفة, أولها أن الأعضاء من مستويات ثقافية, واجتماعية, ومهنية مختلفة, وأنه طوال الوقت كان يسمعهم فقط, ولا يتحدث إلا نادرا, وإذا فاته شئ بدا له مهما يسأل مستوضحا المتحدث, كأنه كان يريد وضع يده علي نبض المجتمع بمختلف شرائحه, وطبقاته, ليعرف أين تتجه الأمور في البلد, وكان يتمتع بسماحة لم أر لها مثيلا في تقبل كافة التباينات في الآراء, والأشخاص من دون النظر لخلفياتهم, بل إنه كان يسأل باهتمام عن جميع الغائبين, وسمعته يسأل موظفا بسيطا في المترو: عامل إيه يا عبده, ولاحظت استخدامه البارع للسماعة, فإذا علا الضجيج, يغلقها بصنعة لطافة حتي لا يلاحظه أحد, ولا يسبب لهم حرجا, وحكي لي صديقي الراحل الفنان محمد الشربيني أنه كان إذا أصابه ضيق كبير من الكلام, يخلع السماعة من أذنه ويضعها أمامه دليلا علي استياءه, وأن أطباء من سويسرا, متخصصون في السمع, أحضروا له سماعة حديثة, وصغيرة الحجم, ووضعوها داخل أذنه فسمع كل الكلام بوضوح, وطلب انتزاعها فور إدراكه إمكانياتها المتطورة, واعتذر عن قبولها لأنه لا يريد أن يسمع كل الكلام, ولا بهذا الوضوح, وأنه يفضل السماعة القديمة لأن فيها إمكانية التحكم في الصوت بتخفيضه أو غلقه وقتما يحب. كذا استوقفتني كلماته القليلة التي يستخدمها في التعبير عن إعجابه بأي شئ, وكان يتجنب المبالغة بإصرار شديد, فيقول فقط كويس و كويسة إذا أعجبه شئ, وفق المذكر والمؤنث, ويستخدم أيضا مفردات ربما, ويجوز, ومحتمل, ويصح برضه, ولا يقطع بيقين في أي شئ حتي لو كان متأكدا, ليظل كلامه في محيط الاحتمالات وحسب.
ويوم الأربعاء, أنصت باهتمام شديد, تعجبت له, لمقالة الشاعر عبد الرحمن الأبنودي في ملحق الجمعة الفائت بعنوان أيامنا الحلوة, وعرفت أنه يحرص علي سماعها منه أسبوعيا, وحين انتهي قال له: كويسة, ويبدو أن الأبنودي كان معتادا علي كلمته تلك, فلم ألحظ أي غضب, لمعرفتي اليقينية أنه يحب الإطراء, بحكم تعاملي معه, ومحاورتي له أكثر من مرة. وفي هذه الجلسة قدم له شخصا ظريفا اسمه حافظ علبة سجائر, وقال له: دي علبة السجائر الجديدة اللي طلبتها يا أستاذ نجيب.. ودي العلبة القديمة فيها12 سيجارة ما زالت.. فضاحكه محفوظ بقوله: ما تعرفش أنا أخدت كم نفس يا حافظ.. وضحكنا جميعا بما فينا حافظ, وبعد لحظات صمت سأل فجأة: هو الرحيمي ما جاش النهارده.. أذهلني تركيزه, وأسعدني أنه يذكر اتفاقنا علي الجلسات الست. وبادر الجميع بإخباره بوجودي, فشكرته وقلت: موجود يا أستاذ فقال بتعبير عموم الناس:دايما موجود, فسألته عن إصرار بعض النقاد علي تفسير شخصية حميدة في روايته زقاق المدق بأنها مصر التي تعيش آمنة في زقاقها الضيق, وأنها إذا خرجت إلي السكة الجديدة بدون استعداد واحتياطات كافية بالعلم والخبرة, فسيخطفها من يضيعها كما حدث؟ فقال كلمة واحدة: يجوز!!
وفي جلسة الخميس, بحضور الكتاب نعيم صبري وزكي سالم والطبيب النفسي يحيي الرخاوي رأيته يأكل لأول مرة, وعرفت أنه يحب الطعمية, وأكل واحدة لا غير, مع ربع رغيف صغير جدا, بحجم لقمة واحدة, أكله علي قضمات ضئيلة, ظل يمضغ فيها لوقت طويل جدا, وشرب رشفات ماء قليلة بعدها, وعرفت عنه التزامه المطلق في الأكل, خشية مضاعفات السكر, فمنذ أخبره الطبيب وهو في سن الخمسين بإصابته بالسكر, وحدد له آليات تفاديه بالتغذية الصحيحة, لم يخالف تعليماته مرة واحدة طيلة46 سنة عاشها بعد ذلك, حيث توفي وهو في السادسة والتسعين من عمره. والحقيقة أن الدكتور الرخاوي في ذلك اليوم انفرد بأغلب وقت الجلسة, وتحدث باستفاضة عن علاقة الأدب بالطب النفسي, وتجليات ذلك في الأدب العالمي عند دستيوفسكي وغيره, وعند نجيب محفوظ, وهو ينظر إلي لأسجل كلامه, وسجلته فعلا, لكن لم أستفد إلا ببعضه, والمدهش أن نجيب محفوظ ظل صامتا تماما, ولم يعقب, ولم يتكلم إلا حين طرحت عليه سؤالي وأجاب باقتضاب كدأبه..
وفي جلسة الجمعة بمنزل الدكتور الرخاوي بالمقطم, لم يكن هو معنا( صاحب البيت), وقرأ عليه أسامة عرابي المقالات والموضوعات التي اختارها من أخبار الأدب, بصوت رصين صحيح, بدا درسا في أصول اللغة والقراءة, وكان الأستاذ يغمض منصتا, وكأنه سعيد بأداء عرابي, وحين انتهي نظر إليه مبتسما, وربت بحنو علي يده, تحية له علي الإجادة, وساد صمت لبعض الوقت, قطعه أحدهم بنكتة قبيحة بصوت خفيض, فضحك جانب من الحضور بلا ضجة كبري, وبادر شخص ثان بقول نكتة شبيهة, وضحكوا, فقال أحدهم أيضا بصوت خفيض: يا جماعة.. مايصحش كده في حضرة الأستاذ؟!.. وفوجئنا جميعا بالأستاذ محفوظ يقول بخفة ظل مدهشة: أنا شاهد ما سمعش حاجة.. وضج المكان بالضحك.., وحين هدأوا بعد قليل, انتقلت إلي جواره لأطرح بقية أسئلتي عليه, وأجاب علي ما تبقي لدي من أسئلة بلا تردد..
واستكملت تفاصيل اليوم السابع من الكاتب محمد سلماوي الذي حدثني عن كلمته الأسبوعية في الأهرام, التي كان يتحدث فيها معه, ويترك له الأستاذ صياغتها ثقة في أمانته ودقته. وأخبرني الحاج صبري السيد ما الذي كان يحب قراءته في الصحف, وأنه كان يفضل الأهرام طوال عمره, خاصة الصفحات الثقافية, وملحق الجمعة, ومجلة نصف الدنيا التي واظب علي نشر أحلام فترة النقاهة فيها, وكيف كان يتصرف في بيته, مع زوجته وابنتيه, فأكد لي الرجل أنه كان أبا ودودا, وزوجا هادئا رقيقا, وهن يعرفن كافة مطالبه وينجزنها قبل أن يطلب شيئا, فكانت حياتهم تسير وادعة.
ما توفر تحت يدي بعد الست جلسات تلك, وإجاباته علي أسئلتي التسع, صنع صفحتي جورنال, لكنهم في الأهرام قالوا صفحة واحدة فقط, وصباح نشرها اتصل بي الأديب إبراهيم أصلان, وقال لي حرفيا: واد يا أسامة.. انت عامل حاجة غير مسبوقة.. ونطق قاف مسبوقة همزة.. مسبوءة.. الحقيقة أسعدني رأيه جدا, لكني ظللت أترقب رأي الكبير نجيب محفوظ.. وبعد فترة صادفني عم صبري فاستوقفني وقال لي: الأستاذ كان مبسوط قوي من صفحتك, فتشجعت وسألته: قال إيه؟, فأجاب: قال كويسة!!.
رابط دائم: