رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

إنفراد .. الأهرام يعثر علي أول قصة نشرها نجيب محفوظ .. السفينة البيضاء
محمد سلماوي يروي أسرار القصة المجهولة

كتب- انور عبد اللطيف
في الذكري الـ‏11‏ لرحيل أديب نوبل الكبير نجيب محفوظ يقدم الأهرام لقرائه مفاجأة غير مسبوقة‏,‏ حيث يفتح الكاتب الكبير محمد سلماوي خزانته المحفوظية ليكشف لنا عن لجنة إدارة تحرير مجلة المدرسة التي كان محفوظ عضوا بها‏,‏ والقصة المنسية لـ أبو الرواية العربية‏,‏ بعنوان السفينة البيضاء‏,‏

التي تؤكد أن محفوظ بدأ يكتب القصة  قبل أن يتخرج من المدرسة الثانوية, وقبل التاريخ الأدبى المعروف لأديب نوبل بعقد كامل من الزمان ثم يأخذنا سلماوي إلي مجلسه الأسبوعي مع الأديب الكبير ليطلعنا علي رأيه في هذا العمل الذي قد يكون أول ما كتبت يده من القصص, وينقل لنا رد الفعل التلقائي لأديب نوبل حين قرأ عليه سلماوي قصته التي كان قد نسيها والتي نشرتها مجلة مدرسة فؤاد الأول الثانوية قبل ذلك اللقاء بأكثر من سبعين عاما .. وهذا هو نص القصة المجهولة

السفينة البيضاء

أبحر الملك هنري الأول إلي نرمنديا برفقة ابنه البرنس وليم لينادي به ملكا عليها وليعقد زواجه علي ابنة الكونت أنجو ولما تم له ما أراد تأهب هو وأتباعه للإياب إلي الوطن, وبينما هو علي وشك السفر إذ مثل بين يديه ربان نرمندي يدعي فنرستيفن وقال له مولاي, كان والدي من جند أبيك الأمناء وقد قضي نحبه بصحبته علي سفينة لي شرف قيادتها الآن. وكل ما أتمناه أن تلحقني بخدمتكم لأبذل لكم ما بذل أبي لأبيكم فأجاب الملك كأنك تطلب الانفصال عن الأسطول النرمندي عندما صار ابني ملكا علي نرمنديا؟ فقال الربان سأظل مكاني وسأكون له مخلصا حتي الممات, ولكن لي رجاء واحد وهو أن يبحر مولاي علي( سفينتي البيضاء) كما أبحر أبوه منذ أعوام عليها في غزوته لانجلترا فقال الملك: يحزنني أن أخيب رجاءك هذا أيضا لأني أمرت بإعداد سفينة وهي علي تماما الأهبة في الميناء ولما كان ابني وزوجته سيرافقانني عليها فإني سأطلب منهما أن يتخلفا ويبحرا علي سفينتك.


ولم تمض ساعة حتي كانت سفينة الملك في طريقها إلي الشواطئ الإنجليزية وعندما اقتربت من الشاطئ وكان الوقت مساء سمع بحارتها صوتا مزعجا آتيا من جهة البحر تلاه صراخ ثم سكون ولم يعرف أحد سر ذلك.


بعد أن اختفت سفينة الملك عن الشواطئ النرمندية أبحرت السفينة البيضاء وكان ركابها ينيفون علي المائة بين نبيل ونبيلة هذا عدا البحارة والتجار, ولما وجد البرنس وليم نفسه بعيدا عن عيون أبيه عول علي انتهاز الفرصة فشرب مع الشاربين ورقص مع الراقصين وعندما خيم الليل وكانوا قد قاربوا الشواطئ الإنجليزية أخذوا يتأهبون للنزول, وبينما هم في استعدادهم إذ شعروا برجة عنيفة زلزلت السفينة زلزالا وتلا ذلك صراخ مزعج وهذا الذي سمعه بحارة سفينة الملك هنري, وكانت السفينة قد اصطدمت بصخرة هائلة شقت مقدمتها.


ذعر فتز وأسرع نحو الأمير ودفعه بين يديه وقفز به إلي أحد القوارب وطفق يجدف لئلا يمانع الأمير ويحاول إنقاذ زوجته, وفي أثناء ابتعادهما وصل لأذنيهما صوت زوجته وهي تستغيث فاشتعل قلب الأمير غضبا وفزعا وصاح بالربان عد ثانيا, سأنقذها مهما شق الأمر, ولم ير الربان بدا من الرجوع, وما اقترب القارب من السفينة حتي صعد الأمير علي ظهرها وغاص في لجج الماء وظهر ثانيا وزوجته بين يديه, وحدث أن تزاحم الناس علي القارب الذي يحرسه( فتز) للأمير فاختفي, وضاعت صرخة الربان اليائسة مع صرخات الفزع لما ابتلع البحر السفينة البيضاء.


نجا رجلان من هذا الجمع الغفير أولهما نبيل يدعي جودفري والثاني تاجر خمر من( بردو) وقد لحق بهما ثالث هو فتز ولما لم يجد الأمير في قاربهما صرخ بيأس ورمي بنفسه بين الأمواج.


استمر النبيل والتاجر في التجديف حتي أعياهما التعب فقال النبيل: الوداع أيها الرجل, سر يرافقك الله, أما أنا فإني إن نجوت من البحر فلن أنجو من الملك, وألقي بنفسه في اليم وترك الرجل في ذعر عظيم وفي الصباح رآه بعض البحارة فأنقذوه وهو في الرمق الأخير, مضت ثلاثة أيام ولا يجرؤ أحد علي إنباء الملك بالخبر, وأخيرا بعثوا إليه بغلام أخبره وهو يبكي ـ بغرق السفينة البيضاء.
فسقط الملك علي الأرض ممتقع اللون, ولم ير بعد ذلك اليوم مبتسما.


نجيب محفوظ
رابعة أدبي ـ مدرسة فؤاد الأول الثانوية


..................................................................................................

..ومحمد سلماوي يروي أسرار القصة المجهولة

هل كانت السفينة البيضاء هي باكورة إنتاج محفوظ الأدبي؟

ماذا قال محفوظ حين قرأ القصة بعد أكثر من سبعين سنة؟

 

وعن خلفيات هذا الكشف الأدبى المهم يقول الكاتب الكبير محمد سلماوى : من بين ما أحتفظ به من أوراق أديبنا الأكبر نجيب محفوظ هذة القصة القصيرة التى تحمل عنوان' السفينة البيضاء'  وقد كتبها وهو في الثامنة عشرة من عمره, ونشرت في مجلة مدرسة فؤاد الأول الثانوية عام1929 والتي كان نجيب محفوظ عبد العزيز الباشا طالبا وقتها في السنة الرابعة أدبي بها, وهي بذلك قد تكون أول قصة نشرها أديب نوبل الكبير في حياته التي امتدت حتي عام2006ونشر خلالها ما يزيد علي350 قصة قصيرة أخري بالإضافة لرواياته التي قاربت الأربعين ومسرحياته الست.

ومازلت أذكر حين حدثت الأستاذ نجيب عن تلك القصة أنه قال لي إنه لا يذكرها وطلب مني أن أقرأها له, فقرأتها عليه وهو يستمع في هدوء, وبعد أن انتهيت منها ابتسم وقال لي إن تلك كانت محاولاته الأولي في الكتابة الأدبية, ورغم أنه لم يكن يتذكر القصة, حتي بعد أن قرأتها له, إلا أنه وصفها بتعبير مازلت أذكره, حيث قال لي إن تلك كانت' آلام المخاض'! ووصف لي المشقة التي كان يتكبدها في تلك السن المبكرة كي ينجز قصة واحدة كهذه رغم حجمها القصير, وأدركت أن تلك الجهود التي يحدثني عنها هي التي أفرزت في النهاية الأديب العالمي الذي نعرفه اليوم.

والحقيقة أن مثل هذه الكتابات الأولي التي عادة لا يحرص الأدباء علي الاحتفاظ بها أو علي إعادة نشرها, بل إن بعضهم قد يمزقها, انما تكتسب أهمية تاريخية بالغة تفيد الباحث والدارس لإنتاج الأديب, ولمصادر موهبته وكيفية تطورها عبر السنين.
وأذكر أنني قرأت كتابا غريبا أثناء زيارة لإنجلترا في السبعينات الماضية عنوانهTheirFirstPoem أي' قصيدتهم الأولي', جمع فيه المؤلف القصائد الأولي لبعض أكبر شعراء القرن العشرين من أمثال ت. س. إليوت وجوستاف مالارميه وبول فاليري وروبرت بيرنز, وغيرهم, وقد جاءت القصائد كلها بالطبع دون المستوي المعروف لأصحابها, لكنها أوضحت كيف تتطور الموهبة الأدبية عبر السنين لتصل بأصحابها الي مرتبة العبقرية الشعرية أو الأدبية, ومن الطريف أن المؤلف قال في تقديمه للكتاب: رغم الأسماء الرنانة التي تضمها هذه المجموعة لأكبر شعراء العصر, فإن ما أقدمه لكم بين دفتي هذا الكتاب هو أسوأ ديوان شعر يمكن أن تقرأوه! وقد أثار الكتاب وقتها ضجة كبري ما بين المدح والذم, لكن أحدا لم يختلف علي أهميته, وعلي الجهد الذي بذله كاتبه في البحث عن تلك الأعمال القديمة التي كانت مجهولة بعد أن نسيها أصحابها أنفسهم.
وتضم مكتبتي كتابا يحوي الأعمال الأولي لأميرة الرواية الانجليزية جين أوستن والتي كتبتها وهي في السن التي كتب فيها محفوظ قصة' السفينة البيضاء', لكنها لم تنشرها, بالإضافة لروايات كتبتها بعد ذلك ولم تكملها, أما في مكتبة إسكتلندا الوطنية في مدينة أدنبره فقد اطلعت علي مخطوط مكتوب بخط اليد لأول مسرحية كتبها أديب فرنسا الكبير بيير كورنيي بعنوان' أليدور', وقد كان المعروف أن المسرحية الأولي لكورنيي هي' مليت' أو' الخطابات المزورة' التي كتبها عام1625 وقدمت علي المسرح عام1629, ورغم أن المسرحية لم يكن عليها اسم المؤلف إلا أنه تبين بالدراسة أنها تتضمن جميع الخصائص الدرامية المميزة لأعمال المسرحي الفرنسي الكبير, وكذلك المميزات اللغوية التي جعلت له أسلوبا أدبيا فريدا في الكتابة, مثل حذفه لحروف التمييز حين تسبق أفعال معينة, وهو أسلوب غير معتاد في اللغة الفرنسية, علي أن الدليل القاطع علي أن كاتب المسرحية هو كورنيي كان خط يده المميز, فمن بين أعمال كورنيي الأخري هناك المخطوط الأصلي لمسرحيته الشهيرة' أنشودة القديسة جنفييف' التي كتبها حوالي عام1660, وقد أقر الخبراء بتطابق خط اليد في كل من المخطوطين.
ومن الطبيعي ألا يكون الأديب مرتاحا لأعماله الأولي من الناحية الأدبية, لذلك لم يسع كورنيي لنشر مسرحية' أليدور', ولا لتقديمها علي المسرح, الي أن طواها النسيان, وظل المعروف هو أن أولي مسرحياته هي' مليت', كما أنها- في حدود علمي- لم تنشر حتي الآن منذ تم اكتشافها عام1944.
إن مثل هذه الأعمال المجهولة في حياة الأدباء قد يبذل الباحث سنوات في التنقيب عنها, رغم أنها في بعض الأحيان لا تكون أكثر من الإرهاصات الأولي للأديب, لكنها بمجرد اكتشافها لا يكون هناك غني عنها في أي دراسة موثقة لأعمال الأديب, سواء كان كورنيي أو جين أوستن أو محفوظ أو شعراء القرن العشرين, فهي نقطة البداية التي انطلقت منها بقية المؤلفات الإبداعية لكل منهم, والتي وضعتهم في النهاية في المكانة المرموقة التي يحتلونها اليوم في الأدب العالمي.
لقد أمضيت بعض الوقت مع محفوظ نحاول تحليل قصته المنسية' السفينة البيضاء', وكان هو الذي نبهني الي أسلوبها الأدبي الذي بدا فيه تأثير المنفلوطي واضحا, وأكد لي محفوظ أنه كان متيما بمصطفي لطفي المنفلوطي في ذلك الوقت رغم سنه المبكرة, حيث نجده يلجأ لبعض المفردات البلاغية التي أقلع هو نفسه عنها بعد ذلك في أعماله المنشورة, والتي كانت أولاها رواية' عبث الأقدار' التي نشرت بعد قصة' السفينة البيضاء' بعشر سنوات, فانظر مثلا إلي قوله' تأهب هو وأتباعه للاباب الي الوطن', أو' وكان سكانها ينيفون علي المائة', أو' قفز به الي أحد القوارب وطفق يجذف', أو' وغاص في لجج الماء'.
أما عن موضوع القصة فقد قال لي محفوظ يومها أنه كان نتاج مباشر للروايات الأجنبية المترجمة التي كان يقرأها بنهم في ذلك الوقت, وقد لا يعرف البعض أنه حين بدأ محفوظ يكتب الرواية بعد ذلك كانت محاولاته الأولي- التي أعرفها- مستوحاة هي الأخري من تلك الأجواء الأجنبية, وأنا أتحدث هنا عن كتابات غير منشورة ومعظم ما أعرفه منها غير مكتمل, الي أن سيطرت مصر عليه بقوة, أولا بتاريخها في رواياته الفرعونية, ثم بحاضرها في رواياته الواقعية, ورواياته التالية بعد أن تجاوز الواقعية الي تجارب جديدة فتحت آفاقا للرواية العربية لم تكن تعرفها من قبل.
وقد روي لي محفوظ أن ما دفعه لترك الموضوعات الأجنبية والاهتمام بمصر في رواياته الأولي كان ولعه بالتاريخ المصري القديم الذي جعله يداوم علي زيارة دار الكتب للاطلاع علي الكتب التي تروي هذا التاريخ, ومن المعروف أن محفوظ كان ينوي تكريس حياته لكتابة التاريخ المصري القديم في شكل روايات كما فعل سير وولتر سكوت مع تاريخ إسكتلندا, لكن هذا المشروع توقف بعد رواياته الفرعونية الثلاث الأولي, ولم يعد إليه إلا في سنوات الثمانينات برواية' العائش في الحقيقة'.
أما' السفينة البيضاء' فتسبق التاريخ الأدبي المعروف لمحفوظ بعقد كامل, وربما كانت تلك هي أهميتها رغم أنه لم يظهر أي إهتمام بها يوم قرأتها عليه, وقد قلت له يومها:' إنك كثيرا ما ساعدت الأدباء الشباب بتوجيهاتك, ونصحتهم مثلا بالاختصار هنا أو بالتكثيف هناك, أو غير ذلك.. فلو أن شابا في الثامنة عشرة من عمره عرض عليك هذه القصة, بماذا كنت ستنصحه؟' فقال ضاحكا:' كنت سأنصحه بأن يترك الكتابة الأدبية ويبحث لنفسه عن مهنة أخري!'.


رابط دائم: 
اضف تعليقك
البريد الالكترونى
 
الاسم
 
عنوان التعليق
 
التعليق