نصحنا نجيب محفوظ في أصداء السيرة الذاتية:أسكت أنين الشكوي من الدنيا, لا تبحث عن حكمة وراء المحير من فعالها, وفر قواك لما ينفع, وارض بما قسم, واذا راودك خاطر اكتئاب فعالجه بالحب والنغم. كما أنه نبهنا في حضرة المحترم:ان العجز أحيانا عن بلوغ الأمل لا يزعزع الثقة به, ما دام الإصرار علي المضي نحوه هو المسئول عن وجود النبل والمعني في الحياةـ
وكاتبنا العظيم الذي نحتفي بحياته في ذكري رحيله عن دنيانا منذ11 عاما يوم30 من أغسطس عام2006 ترك لنا بالتأكيد ما قد ينفعنا في فهم حياتنا واعطاء معني لها وما يدفعنا للأمل والإصرار علي المضي نحوه. وهو أيضا الروائي القائل في المرايا: ان الإنسان لا تتقرر حالته الحضارية بما يملك, ولكن بما ينبض به فكره وقلبه.ـ
...............
وفي رحلتنا مع قراءة كتابات تنبض وتنير لنا طرقنا في الحياة أقف في محطة الشاعر محمود درويش. وهو يتحدث في رام الله عن مهنة الشاعر أو مهمته تساءل ان كان الوطن في حاجة إلي براهين شعرية, وان كان الشعر مازال في حاجة الي براهين وطنية؟ ان علاقة الشعر بالوطن لا تتحدد باغراق الشعر بالشعارات والخريطة والرايات. انها علاقة عضوية لا تحتاج الي برهان يومي, فهي سليقة ووعي وارادة. ميراث واختيار.. وذكر أيضا بأن.. الشعر الوطني الردئ يسئ الي صورة الوطن ونبهنا بألا ننسي أن الشعر متعة, وصنعة, وجمال. وأن الشعر فرح غامض بالتغلب علي الصعوبة والخسارة, وأنه رحلة لا تنتهي الي البحث عن نفسه في المجهول وان شقاء التجديد المتعثر أفضل من سعادة التقليد المتحجر وأنا أقرأ السطر الأخير يأتي في البال ما قاله يحيي حقي في كتابه ناس في الظل عن المدق الترابي: أحب المدق الترابي, يترك الطريق المسفلت المستقيم كالخط المرسوم بالمسطرة, ليتعرج صاعدا هابطا بين تضاريس الأرض التي لم تصنعها يد انسان..سيطوح بي.. أليس هذا فعل الخمر بالرؤوس؟ثم يضيف: الرقص فن.. انه كسر قانون العامة بأن أقصر خط بين نقطتين هو الخط المستقيمـ
إن كسر قانون العامة هو أيضا ما فعله وما كتبه محمد الماغوط. الذينصحنا لاتنحن لأحد مهما كان الأمر ضروريا فقد لا تواتيك الفرصة لتنتصب مرة أخريـ
وفي احتفاء بذكري الماغوط قال محمود درويش: سر الماغوط هو سر الموهبة الفطرية. لقد عثر علي كنوز الشعر في الطين, جعل من تجربته في السجن دلالة وجودية. وصاغ من قسوة البؤس والحرمان جماليات شعرية, وآلية دفاع شعري عن الحياة في وجه ما يجعلها عبئا علي الأحياء مضيفا: وهو الأن, في غيابه, أقل موتا منا, وأكثر منا حياةـ
أما عبد الرحمن منيف في كتابه لوعة الغياب يتناول حياة الأحباء الي قلبه وما تركوهمن ذكري ولهفة لتكرار اللقاء. واهدائه للكتاب الي سعد الله ونوس الذي حكم علينا بالأمل. ولم يتردد منيف في تذكيرنا بأن البدو يستعملون لفظ الغياب ليس ضمن مفهوم الانطفاء والتلاشي ثم الغياب الكامل, وانما كتوقيت زمني للدلالة علي غروب الشمس, وأن دائما بعد كل غروب وليل شمس ستشرق من جديد, وسوف يمتلئ الكون بالضياء مرة أخري.ـ
منيف وهو يتحدث عن تواصل الأجيال يكتب:احدي المشكلات الكبري التي تواجه الفكر العربي( بما في ذلك الآداب والفنون) انعدام التواصل, أي عدم القدرة علي المراكمة الايجابية, بحيث يكون السابق درجة في السلم الصاعد, يرتقيها اللاحق, دون أن يكون مضطرا لدفع ثمن سبق أن دفع من قبل, وبالتالي لا حاجة للبدء كل مرة من الصفر, لاكتساب المعارف والمهارات.ـ ويقول أيضا:ان وضعنا, من وجوه كثيرة, يشبه وضع وارث يحدس أن لديه ثروة كبيرة, لكن دون أن يعرف حجم هذه الثروة أو طريقة الاستفادة منها, ويشبه أيضا من يجمع الأشياء, ويضعها في مستودع, لكن بطريقة عشوائية, بحيث يتعذر عليه لاحقا الاستفادة منها.ـ
ولا شك أن حضور أحمد بهاء الدين في حياتنا الصحفية والثقافية كان علامة مميزة في الزمن الجميل. وأمام حضوره وتأثيره يقف رجاء النقاش قائلا:..كلمتاالاخلاص والأمانة تمثلان أحمد بهاء الدين خير تمثيل. فقد كان دائما حريصا علي البحث الجاد عن الحقيقة, ثم هو بعد ذلك شديد الحرص علي أن يقول رأيه في اخلاص وأمانة. وهناك صفة أخري كان بهاء يتميز بها هي الشجاعة, ولم شجاعته من النوع التقليدي الذي يلقي بصاحبها الي الصراعات والصدامات المختلفة, بل كان تعريفه للشجاعة تعريفا مختلفا فهو يقول عن نفسه: ان الفضيلة التي يجب أن يتمسك بها هي الشجاعة العقلية. ويضيف:والمعني الشائع للشجاعة عندنا هو أن المرء لا يخاف, بالمعني المادي لكلمة الخوف, ولكن بالمعني الذي أقصده للشجاعة هو ألا يخاف الانسان من الأفكار الجديدة, والحقائق الجديدة, والفضيلة التي أسميها باسم شجاعة العقل لها أهمية كبري, خصوصا في هذه الفترة من حياتنا, فالعالم من حولنا يتغير بسرعة.ـ ومعني ذلك أن هناك أفكارا جديدة تواجهنا كل يوم ولا بد أن يكون لنا موقف منها.ـ
.................
وإذا كان الحديث حولنا يدورغالبا عن الطريق الذي سوف نقطعه.. فإن الطريق نفسه الذي نسير فيه وبه يحتاج منا الي محطات تأمل وإلي صحبة أحباء يخففون عناء الطريق, والأمر الأهم في صحبتهم أن نسترجع لحظات البهجة ونستحضر معهم أفكارهم ونبضاتهم مهما طال الغياب.. خاصة أن لدينا لهفة للقاء ورغبة في التواصل وفي دوام المحبة.ـ
رابط دائم: