لم تكد الانتخابات الرئاسية التى جرت أخيرا فى كينيا تنتهى بإعلان فوز الرئيس الحالى «أوهورو كينياتا» بفترة ولاية ثانية وأخيرة، حتى شهدت بعض مناطق البلاد موجة من أعمال العنف شنها أنصار مرشح المعارضة الخاسر «رايلا أوديجا» بدعوى حدوث عمليات تزوير وقرصنة الكترونية لنتائج عمليات الفرز رغم إشادة المراقبين الدوليين وفى مقدمتهم بعثة مراقبة الانتخابات التابعة للاتحاد الافريقى
بهذه الانتخابات الرئاسية وكونها تمت فى أجواء هادئة، واعتبارها سلمية وشفافة ومطابقة لسياسات الاتحاد الافريقى، وهى نفس النتيجة التى خلص اليها المراقبون الاجانب، وان كان الجانبان سجلا فى اطار استكمال مهمتهما قلق المعارضة من حدوث تجاوزات، وحثا كل الاطراف المعنية على العمل يدا بيد لايجاد حل لهذه القضية.
ومع أن هذه الاشادة تبدو فى الاحوال الطبيعية كافية لإقرار الحقيقة والاعتراف بفوز كينياتا ب55% من الاصوات مقابل 44% لمنافسه رئيس الوزرا السابق، السياسي المخضرم ، الا أن الواقع يشير لرفض أودينجا وأنصاره الاعتراف بالنتيجة وهنا يشير المراقبون الى أن أودينجا الذى رفض فى البداية اللجوء للقضاء والطعن على نتائج الانتخابات ، ودعا أنصاره للاحتجاج السلمى والعصيان المدنى، قبل أن يغير موقفه ويعلن أنه سيلجأ للمحكمة العليا وسيتخذ كل السبل الدستورية المتاحة لاثبات صحة مخاوفه من حدوث عمليات تزوير، تسبب ربما دون قصد فى اندلاع هذا العنف، حيث فسر أنصاره حديثه على أنه دعوة لاتخاذ خطوات على أرض الواقع للإعلان عن غضبهم المتزايد تجاه خسارة مرشحهم المفضل، خاصة وأنه برر فى البداية رفضه اللجوء للمحكمة العليا بتجربته السابقة عام 2013 عندما خسر الانتخابات أيضا أمام كينياتا ولم ينصفه القضاء.
ولكن يبدو أن تطورات الأحداث دفعته لتغيير استراتيجيته بعد اعلانه الاحتكام للقضاء، حيث أكد أنه مستعد هذه المرة بالأدلة والبراهين لمواجهة التجاوزات التى حدثت، وأنه حتى اذا لم يصدر الحكم لصالحه فهو لا يهدف فى المقام الاول لتغيير نتيجة الانتخابات، بقدر ما يهدف الى عرض الأدلة التى لديه على التزوير سعيا لإرساء قواعد الشفافية والعدالة ليس فى بلده كينيا فقط ولكن للقارة الافريقية بأكملها. ومن هنا كانت انتقاداته للمراقبين الدوليين الذين دعوا للتهدئة، لأنهم من وجهة نظره قدموا منع العنف ومواجهة عدم الاستقرار على مناقشة التجاوزات الانتخابية، حيث رأى أن إعلاء اعتبارات الأمن فى افريقيا على الديمقراطية خطأ والصحيح أن الديمقراطية يجب أن تواكب المعايير الدولية.
ومع ذلك فإن الدعوة للتهدئة ليست بالشىء الهين أو البسيط فى هذا البلد الذى طالما ترافقت فيه الانتخابات الرئاسية بأعمال شغب وعنف يقع بسببها العديد من الضحايا، ولعل الانتخابات الرئاسية التى جرت عام 2007 تعد الأسوأ فى تاريخ البلاد، حيث لقى أكثر من 1300 شخص مصرعهم، بينما سقط أكثر من 300 قتيل عقب انتخابات 2013، ومن ثم تبدو المخاوف حقيقية من تجدد العنف فى ظل تشكيك المعارضة فى نتائج الانتخابات.
ولكن هذا الجدل الدائر لا يمنع حقيقة أن الرئيس كينياتا الذى اعتبر عند توليه المنصب للمرة الاولى أصغر رئيس فى تاريخ البلاد منذ استقلالها، والذى يحمل ارثا سياسيا عائليا كونه نجل “جومو كينياتا” أول رئيس للبلاد، نجح خلال رئاسته الاولى فى تحقيق إنجازات على أكثر من صعيد، فإلى جانب تأكيد موقف بلاده كحليف قوى فى الحرب على الارهاب خاصة ضد حركة الشباب الصومالية، فقد استطاع أن يحول الانظار والانتباه عن الاتهامات الموجهة له ولنائبه حول تورطهما سابقا فى جرائم الاعتداء على أنصار منافسه الدائم أودينجا، وشهدت البلاد خلال رئاسته زيارات كبار الرؤساء، من بينهم الرئيس أوباما والبابا فرانسيس، أما على الصعيد الاقتصادى فقط حقق الاقتصاد نموا بلغ معدله 5% سنويا الى جانب الزيادة الملحوظة فى مجال الاستثمرات الاجنبية، بالرغم من تشكيك المعارضة واعتبارها أن هذه الارقام لم تترجم نتائجها على الأرض ولم يشعر بها قطاع واسع من المواطنين.
والواقع أن كينياتا لم يعتمد فقط على إرث عائلته السياسى و المالى، بل قدم نفسه على أنه مرشح الشباب والأجيال الحديثة حتى إنه اطلق على نفسه “الرئيس الرقمى” كناية عن العصر الذى ينتمى له ,وهى استراتيجية وضعها للوصول لجيل الشاب وكتعبير ايضا عن حماسه لطموح بلاده لان تكون مركزا للمبادرات الالكترونية فى القارة السمراء، وذلك فى مواجهة منافسه التقليدى اودينجا البالغ من العمر 72 عاما.. والمفارقة أن كلا من الغريمين السياسيين ينتمى لعائلة سياسية معروفة فزعيم المعارضة أودينجا هو نجل بطل استقلال كينيا “أوجينجا أودينجا” ولعل ذلك ما يفسر المنافسة الشديدة بين الطرفين، والغضب الواضح لدى معسكر أودينجا كونها المرة الرابعة التى يترشح فيها للانتخابات الرئاسية ويفشل فى تولى سدة الحكم.
لقد دعا أودينجا مؤيديه للهدوء، مؤكدا أن المحكمة العليا لديها فرصة تاريخية لاثبات استقلالها وحيادها، مع أنه بشهادة المراقبين الدوليين لم يقدم دليلا واضحا يدعم به ادعاءاته بتزوير النتائج، رغم تأكيداته المتواصلة بحصوله على معلومات سرية من لجنة الانتخابات تؤكد تقدمه على منافسه، وهو جدل سيحسمه القضاء بلا شك، وإلى أن يتحقق ذلك سيظل الخوف قائما من تجدد العنف وسقوط ضحايا جدد للديمقراطية فى افريقيا.
رابط دائم: