رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

حكايتان عن السفر

محمد بركة

كبيرنا

كنت أتصور أن الإثارة التي تسبق عادة رحلة السفر الأولى خارج الحدود ستمنعني من النوم خصوصاً أن موعد الطائرة يتطلب الاستيقاظ الثالثة فجراً، لكنى كنت واهماً، التعب بلغ منى منتهاه فسقطت في النوم مثل حجر بعد نهار حافل قضيته بالدوران على أصدقائي من «أصحاب السوابق» الخارجية . الكل يريد أن يعمل معي واجباً فيلزمني بضرورة لقاءه منفرداً ليتلو علىَّ وصاياه العشر. وفى كل بيت أو مقهى لا تخرج الوصايا بمجملها عن ضرورة أن أرفع رأس العرب وسط نساء العم سام .

ــ نريدك بغلاً من الشرق !

ـــ شهداءنا في فلسطين والعراق وأفغانستان يناشدونك الانتقام.

اللقاء الوحيد الذي كان يعنيني اقتضى منى اختراق مجاهل «الصين الشعبية»... هناك فى عمق «بولاق الدكرور» من ناحية «ناهيا» حيث التقط الخيال الشعبي هذا الاسم ليطلقه على أشهر أحياء القاهرة زحاماً وتلوثاً وفوضى، ولست أريد إعطاء انطباع كاذب بأنني كنت أتوغل بهذه الأحراش البشرية على طريقة «المثقف المتأمل» الذي يرصد نماذج أو يستكشف عوالم، فالحق الحق أقول: كنت أسير مثل ثعلب اختطفوه من الحقول وتركوه فجأة في مفترق طرق سريعة .

ولكن من أجل عيون «جو» كله يهون !«هو كبيرنا « يوسف « الذي علمنا السحر ولا أستطيع أن أقوم بهذه الرحلة دون أن أمُر عليه، ليس لكي نأخذ البركة كما نمزح معه دائماً، وإنما بسبب إحساس دفين بالذنب يكنه معظم أفراد الشلة تجاهه. يكبرنا بعشر سنوات على الأكثر إلا أن مظهره يعطيه عشراً إضافية ونحن القادمين من الريف والنجوع تربينا على مكتبته، بل وسطونا على نصفها، وهو القاهري كان بوابتنا إلى العاصمة ودليلنا إلى أسرارها وعالمها الليلي . نبيت عنده بالأسابيع فلا يتذمر، نستلف سجائره فلا يشكو وندهش لثقافته الموسوعية، وتجاربه المذهلة ونقول «: هؤلاء هم اليساريون وإلا فلا ...

هو الذي عاش ببيروت أيام الحرب الأهلية، وترقى إلى رتبة «مقدم» في خلية عسكرية، نعجب متى ينام، فعيناه حمراوان، دائماً حمراوان، لا يحلق ذقنه، ولا يكف عن تدخين الشيشة ويحيط علاقته بالمرأة بستار كتب عليه «ممنوع الاقتراب أو التصوير». يكره الأكل كراهية العمى، وإذا ازدرد بعض لقيمات، فإنما يفعل ذلك لكي لا يكون التدخين على معدة خاوية، لا يطيق الخروج أو الاستحمام، لا يحمل للفلوس هماً، فهي تأتيه بانتظام من « البلد « بسبب قطعة أرض كبيرة ورثها عن أبيه الذي كان أحد الأعيان.

وكما هو القانون القاسي للأشياء ، كان لابد أن يأتي يوم ينطفئ فيه البريق، وتخبو جذوة الوهج، ونقرر بيننا وبين أنفسنا بلحظة «نذالة تاريخية» أن «يوسف» مرحلة وانتهت.

وإذا قمنا بأي مبادرة ودية مثل التي أفعلها الآن فمن باب عدم التمادي في النذالة والتواصل مع الرجل الذي كان يوماً ما أهم شخص في حياتنا والآن أصبحنا لا نراه إلا مرات تُعد على أصابع اليد كل عام. والغريب أنه مثلما كان صبوراً ونحن نقص عليه ارتباكاتنا العاطفية، ومتفهماً ونحن نسأله النصح والإرشاد في غرامياتنا، لم يتذمر مطلقاً، ولم يغضب أبدا ونحن ننفض من حوله بل كان يقول في نبرة تجمع بين الحنو الأبوي والأداء المسرحي: اذهبوا فأنتم الطيور.. لكم الفضاء والحرية!

السلم طويل يلتف حلزونياً بزوايا حادة مقلقة، درجاته غير سميكة لا يبدو أهلاً للثقة، ، والشقة أو «وكر الحرية» تقع فوق السطوح، ويوسف كالعادة بمنزله بين النوم واليقظة، يقطَّع الفحم على رخامة المطبخ ويرصه على نار الشعلة في البوتاجاز، ويمضى متكاسلاً إلى حيث الحمام لتغيير ماء الشيشة، وفى النهاية، وبينما وهو يحتسى شاياً ثقيلاً، ويسحب أنفاساً معطرة بالنشوة يفتح الله عليه وهو يتلو علىَّ نبوءته قائلاً:

ـــ المدينة التي ستعجبك هي D.C أنهما الحرفان الذين يختصران عبارة District of Colombia .. أنت تتصور أن دمها سيكون ثقيلاً على قلبك باعتبارها «العاصمة السياسية» لأمريكا ولكن هذه المدينة الصغيرة المفروشة ببساط من الحدائق الخضراء و تماثيل البرونز و البنايات الصغيرة الأنيقة ستكون خلاصة ما تطلع به من رحلتك.

ويسحب يوسف نفساً طويلاً ثم يخرج عاصفة دخانية من «منخاريه» وفِيه قبل أن يتابع:

ــــإذا أردت نصيحتي، فعليك بسلسلة مقاهي «ستاربكس» الشهيرة، ادخلها صباحاً والشمس تفرش الشوارع الواسعة برداء من المودة واطلب قهوة مع عبوة لبن أيرلندي وشاهد الخلق وهم يسيرون على الرصيف أمامك، يمسكون الحبل بيد، ويمسكون الصحيفة باليد الأخرى ويتمشون في نشاط وحيوية.

سألته:

ـــأي حبل؟

قال: ـليس شرطاً أن يكون حبلاً.. ربما تكون سلسلة.

عدت أسأل :

ــأي سلسلة؟

قال: سلسلة تنتهي بطوق حول رقبة كلب من فصيلة ألمانية» لا أذكر اسمها الآن.

وضحك فجأة دون سبب ثم سعل بشدة فكشف عن فم يبدو مثل الكهف و أسنان سوداء وناب بدا وكأن منحوت بمبرد...

الجار الانجليزي

كانت سلاسل الجبال بلونها البني الداكن مؤشراً على أننا أصبحنا داخل الحزام الأوروبي. بدا ذلك واضحاً من خلال القمم المتوجة بثلوج ناصعة البياض لم تذب بعد رغم أننا كنا في يونيو . جارى بالمقعد على الطائرة كان استهلالاً إنجليزياً سيئاً، فصحيح أن سقف التوقعات حول هوية الجار لم يكن قد يرتفع عندي إلى «جِنية حمراء قادمة من بافاريا» على طريقة قصص عمنا يوسف إدريس، لكنى بالتأكيد لم أكن أنتظر أن يهديني القدر كل هذا البرود!

في الخمسين من العمر كان الرجل، يرتدى جاكت خفيفاً وكوتشي وبنطلوناً من الجينز، لكن روحه لم تكن بنفس البساطة، قمت بعدة مبادرات ودية كنوع من جس النبض، إلا أن استجابته لم تكن مشجعة إطلاقاً. أسأله عن جنسيته التي لم أكن أعلم أنها بريطانية، أو عن مكان وضع حقيبة كتف صغيرة احتفظ بها، فيجيب بإيجاز إجابة لا تمد جسراً بقدر ما تضع حواجز...

ـــ فليكن!

هكذا همست لنفسي وأخذت أتسلى ، كنوع من الانتقام السري ، باستدعاء أكثر التعبيرات القوية عن البرود التي لفتت نظري، وتذكرت أنه في إحدى المخطوطات القديمة جاءت عبارة: والله إن له لبرودة أشد من برودة الرخام في شهر طوبة»

أما التعبير الأكثر حداثة فقرأته برواية مترجمة يقول صاحبها: وكان بارداً برودة لورد إنجليزي يجلس مسترخياً في حديقة منزله».

وأخذت بهذه الروح أتطلع إلى الجار في تشف وهو يقرأ بعض الصحف المتاحة مجاناً على باب الطائرة: «لوفيجارو»، «لوموند»، «ديلى تليجراف»، لكن يبدو أن «البعيد» أدرك ما يجول بخاطري وأراد أن يرد لي الصفعة حين سألته للمرة الثانية أن يسمح لي بالعبور حيث أحتاج بشدة للذهاب إلى دورة المياه بما أن سيادته يجلس على المقعد الأول وأنا في الداخل بجوار الشباك. أجاب في هدوء:

ــــ حسناً.. ولكن ستكون هذه هي المرة الأخيرة!

وفوجئت بنفسي أقول له وبإنجليزية طليقة بلا تردد:

ــــ هل تعرف شيئاً.. لن أذهب!

وجلست مكاني، ولم تزد دهشته عن ثوان سرعان ما عاد بعدها إلى القراءة وكأن شيئاً لم يكن..

رابط دائم: 
اضف تعليقك
البريد الالكترونى
الاسم
عنوان التعليق
التعليق