أخرجت أجندتي من الحقيبة , وجدت رقم تليفون قناة المحور, طلبتها.
رد علي صوت مسجل :
أهلا بكم في قناة المحور . برامج القناة متاحة لمعرفة التفاصيل اضغط رقم 1 , للاتصال بالاستوديو اضغط رقم 2 .
ضغطت رقم 2 , انتظرت كانت هناك موسيقي صاخبة , وأصوات بعيدة تتداخل , مرت دقيقة أو أكثر , وقال نفس الصوت :
•الاتصال بالاستوديو حالا .
قلت في نفسي , ربما كانت المذيعة ريهام السهلي موجودة علي الهواء , وتكلمني, وتعمل مداخلة معي , وسأخبرها بحالتنا , وأقول لها , علي مسمع من الزوجة الجميلة , اننا محاصرون داخل القطار المكيف , وأن هناك اهالي قرية يقذفون القطار بالطوب والحجارة . وانه من المحتمل أن يهجموا علي القطار لسرقته , ثم ادخل في الجانب المأسوي وأخبرهم أن هنا طفلا , نفذت كمية اللبن التي يحملها له والداه , وانه لا توجد ألبان في القطار ولا اي مشروبات , وأن كل ما في البوفيه قد نفد . فلا مياه ولا اي مشروبات , وأن هيثم يريد رضعة لبن أطفال , وهي غير متوافرة .
انقطعت الموسيقي , وقال نفس الصوت كلمته التي قالها من قبل :
•الاتصال بالاستوديو حالا .
ثم عادت الموسيقي والصخب من جديد .
مرت فترة أكثر من ربع ساعة , وأنا في انتظار أن ينقلني التليفون إلي الاستوديو . ولكن دون جدوى .
كانوا يستنفدون الرصيد .!
مرة اخري طلبت رقم 122.
رد علي صوت آخر , خلاف الصوت الذي رد علي أولا. أخبرته بموقفنا , سألني من أنت , أخبرته عن شخصيتي الجديدة باعتباري مستشاراَ في محكمة النقض , وقلت له أريد أن أتحدث مع القائد , أخبرني أن القائد مشغول , طلبت أن أتحدث مع مأمور مركز الفشن , قال خذ رقمه . اخرجت قلما , وكانت الجريدة لا تزال معي , أملاني الرقم , كتبته علي الصفحة الأولي للجريدة .
طلبت الرقم الذي املاه لي الرجل , رد علي شخص . طلبت أن أتحدث مع المأمور , قال :
• مع الله .!
ثم أوصلني بشخص , رد علي بصوت أجش :
•مين عايزه ؟
•أنا .
•أنت مين؟
•أنا عثمان عبد المعتمد .
بتشتغل ايه ؟
فكرت قليلا قبل الإجابة , ولكنني فجأة قلت :
•صحفي .
•عايز إيه من البيه المأمور ؟
•نحن محاصرون داخل قطار, وان هناك نيرانا علي الطريق أمام القطار, وهناك مرضي وأطفال يصرخون , واننا نحتاج لبن اطفال , لطفل يبكي في القطار .
•فيه حد قال لك أنا عندي لبن أطفال ؟
•لا . ولكنني أريد أن أعرف متى سنتحرك , وانقل لك الصورة داخل القطار .
•آه .. أنت من اللي جوه القطار ؟
•نعم .
•أنت صحفي ؟
•نعم ..
تغير الصوت الأجش إلي صوت ناعم , وقال . :
•السيد مدير الأمن يبذل كل جهده لإنهاء واحتواء الأزمة, وسيادته يتفاوض مع قاطعي الطريق والذين أشعلوا النيران , حتى لا تراق دماء المصريين, والسيد وزير الداخلية يتابع الموقف كل لحظة , وينسق مع القيادة السياسية.
طيب ممكن أكلم السيد المدير .
•نقول مين يا أفندم .
•قل له وائل الإبراشي .
•أهلا يا استاذ وائل . أنت مش فاكرني , أنا العميد محيي , اللي كلمتني ساعة قضية الولد اللى قتل مراته .
•آه . طبعا فاكر , دي حاجة تتنسي . بس ياريت أكلم المدير , عشان نعرف إيه اللي تم .
سكت الصوت فترة , وقال :
•اللواء مساعد الوزير مدير الأمن مع حضرتك
•طيب أكلمه.
سمعت صوتا من بعيد في الناحية الأخرى , يقوم بتحذير المتحدث قائلا :
•حضرتك علي الهواء يا باشا ,
قلت متقمصا دور وائل الإبراشي , الإعلامي المعارض الذي يحرج الحكومة دائما بالقضايا التي يثيرها :
•وطي التليفزيون , وإسمعني من التليفون .
وسمعت صوتا واضحا وحادا يقول :
•أهلا وائل بيه . الموضوع بسيط , احتجاج بعض الأهالي , على صدور حكم من محكمة جنايات بني سويف اليوم، ضد خمسة من ذويهم بالسجن عشر سنوات، إثر مشاجرة بينهم وأبناء قرية أخرى بالمركز. واللواء مدير المباحث الجنائية بالمديرية ومعه وفد من القيادات المحلية والشخصيات البارزة هناك, للتفاوض مع أبناء القرية لإعادة فتح الطريق أمام السيارات، وإعادة تسيير حركة القطارات، وأؤكد لحضرتك أنه لا توجد اشتباكات بين أهالي المتهمين عقب صدور الحكم من جهة، وقوات الشرطة من جهة ثانية، وما قيل حول تحطيم مبنى مجمع المحاكم في مركز الفشن ، واستخدام الشرطة الغاز المسيل للدموع لتفريق المحتجين على صدور الحكم. كلام غير صحيح بالمرة , وإحنا تفاوضنا مع كبار رجال القرية , والمشكلة في الطريق إلي الحل , الحقيقة أن الشباب الثوري , أراد أن يعبر عن رأيه , ولكن تدخل بعض المشاغبين , وأضرموا النيران في بعض الفلنكات القديمة , ومن سوء الحظ , أنهم وضعوها علي شريط السكة الحديد , ونحن جهزنا عربات المطافئ , في انتظار أن يسمحوا لها بالدخول إلي المنطقة الموجود فيها القطار , لأنهم أغلقوا الكوبري الذي يؤدي إلي شرق ترعة الإبراهيمية , ومنعوا دخول اي سيارات اليه , وخاصة السيارات التي تحمل القوات او حتي عربات الإسعاف والمطافئ .وجار السيطرة علي الموقف , وتعليمات السيد الوزير , أننا نتعامل مع الموقف بموضوعية وحرص علي عدم إراقة دماء المصريين الشرفاء , ومعنا مدير المباحث , ومدير الأمن العام . وكلنا نتعاون من أجل إنهاء المشكلة ..
قلت له :
في القطار أطفال بتصرخ من الجوع , لعدم وجود لبن أطفال , ومرضي بالقلب , وكبار سن , وناس تقذف أحجارا علي القطار .
لبن الأطفال متوافر, وسنرسل للقطار أي كمية تطلبونها , وزجاجات مياه وأطعمة , المهم أن يقوم الأهالي بفتح الطريق , وإدخال المساعدات الغذائية لكل الركاب المحاصرين .
كان الرجل يتحدث بجدية تامة ,وخوف , وكأنه يقرأ من ورقة مكتوبة , ويشعر بأن وزير الداخلية يسمعه , فقال :
•دي تعليمات معالي اللواء وزير الداخلية , وتوجيهات السيد اللواء مساعد أول وزير الداخلية للأمن العام , والسيد اللواء أول مساعد وزير الداخلية لمنطقة شمال الصعيد .
خشيت أن أستمر في اللعبة , أو انكشف , فيقومون بالتعرف علي شخصيتي , من خلال التليفون , وأن يلفقوا لي قضية انتحال صفة , وإرهاب كبار المسئولين , وإفتعال وقائع تضر بالأمن العام والأمن القومي , باختلاق وقائع لو حدثت , فمن شأنها الإضرار بالمصالح العليا للبلاد ..
فقلت لمحاولة ترضيتهم :
•عموما نحن ننتظر أن تبلغونا بانتهاء المشكلة وفتح الطريق أمام القطار .
وأغلقت الخط , كما يفعل الإعلامي وائل الإبراشي .
فُتِحَ باب العربة عِنوَة , وظهر شاب يرتدي جلبابا بلديا قذرا , يحمل علي كتفه كرتونة كبيرة وبالية وصاح ينادي :
•اللي عايز هريسة بجنيه واحد . بسيمة بجنيه واحد , فولية بجنيه واحد حمصية بجنيه واحد , حلويات دمياط في الصعيد , مين يشتري , مين قال , آه .
وقف فترة , ينتظر أن يقبل الركاب علي الشراء , ولكن لم يتحرك أحد . ولم يرد عليه أحد ليطلب الشراء , فاستمر في السير بين صفوف الكراسي , ليصل للعربة الثانية , أملا في بيع محتويات الكرتونة من الهريسة والبسيمة والفولية .
ظهر شاب آخر . وقال محذرا :
•كل واحد ياخد باله من حقيبته , والحذر من النصابين , لأن النصاب يجلس معك ويكلمك , ويقدم لك مشروبا يخدرك , وبعدها يسرق أمتعتك !
علي الجانب الآخر من الترعة , رأيت بعض الأشخاص الذين يحاولون إلقاء الطوب , وهم يجرون مبتعدين عن المكان الموجودين فيه , ورأيت عساكر الأمن المركزي بدروعهم وعصيهم وهم يجرون خلفهم .
فتح باب العربة , ظهر اربعيني يبدو انه من الشخصيات المهمة من بين الركاب , وقال :
•قوات الأمن تتعامل مع قاطعي الطريق , وعلي الركاب الجالسين بجوار شباك زجاجي أن ينزلوا علي الأرض بعيدا عن الزجاج, لاحتمال وصول الطوب أو قذائف رجال الشرطة إلي عربات القطار , من خلال تعاملهم مع الأهالي الذين يقذفون القطار بالطوب .
كان هيثم قد توقف عن الصراخ , وراح في النوم, ربما تعب من الصراخ والجوع.
الحق أن الفزع دب في قلبي , وقلوب بعض الركاب في العربة , لأن أحدا لم ينبذ بتعليق واحد , وقال الرجل الملتحي فجأة :
•لا إله الا الله , ما ضاقت الا فرجت .
كانت فكرة الاختباء تحت الكرسي , لتحاشي الزجاج المتساقط نتيجة إلقاء الطوب أو قذائف الشرطة تبدو عسيرة او صعبة التحقيق .
وقد حاولت بالفعل أن اختبئ , ولكنني لم أتمكن , لضيق المكان .
تخيلت أنني في اوروبا , هل يمكن أن تواجهنا مشكلة مثل تلك المشكلة التي نحن فيها , محتجون علي حكم قضائي , يقطعون الطريق لإلغاء الحكم ؟
كنت أري زوج الجميلة وهو يحاول أن ينزل بجسده الي الأرض ليختبئ , كان جسده اضخم مني , وبدا عليه الخوف والهلع, وطلب من زوجته أن تنزل أسفل الكرسي , ولكنها لم تتمكن , فقد نام هيثم علي حجرها .
رن التليفون , كانت زوجتي , سألتني عن الأخبار , قلت لها القطار متوقف في منطقة بعيدة عن الرصيف , ولم أشأ أن اقلها بحكاية قطع الطريق , وقلت لها :
•عطل بسيط , في طريقهم إلي إصلاحه .
سألتني عن صحتي , وسألتني عن أقراص الضغط . أخبرتها أنها موجودة معي , وأنني إحتمال أن أتأخر . قالت :
•طيب خلي بالك من نفسك.
كانت الساعة تقترب من الرابعة صباحا .
شعرت بأن رأسي يدور , بمجرد أن تذكرت اقراص الضغط , أخرجت علبة الأتاكاند , وتناولت قرصا وابتلعت خلفه جرعة ماء , من الزجاجة التي احتفظ بها معي .وبدأ الطفل يستيقظ , ثم شرع في البكاء . ثم دخل في مرحلة الصراخ .
شعرنا بحركة القطار , وصاح أحدهم فى القطار مبتهجا :
القطار تحرك .
وصفق الجميع .
رابط دائم: