كشف قرار الكونجرس حول العقوبات ضد روسيا عما وصفته مصادر أمريكية بـ»اذلال» مهين للرئيس دونالد ترامب، وثمة من يقول انه قد يسفر فى نهاية المطاف عن الاطاحة به، بينما تقول موسكو إنه صار خير حافز لروسيا نحو التحول صوب التركيز على تطوير قواها وقدراتها الذاتية، وهى التى طالما خَبَرَت وتحملت قسوة حصار التاريخ والجغرافيا على مدى عقود طويلة.
لا يزال توقيع الرئيس الأمريكى دونالد ترامب على قانون الكونجرس حول العقوبات ضد روسيا يثير الكثير من التعليقات والمواقف التى تميط اللثام عن حقيقة مواقف روسيا تجاه التطورات الأخيرة على صعيد العلاقات مع الولايات المتحدة.
وكان الرئيس فلاديمير بوتين أوجز مواقف بلاده من هذه العقوبات فيما أقره من قرارات حول طرد 755 من العاملين بالسفارة الأمريكية وقنصليات الولايات المتحدة ومصادرة ممتلكاتها فى روسيا، فى نفس الوقت الذى كشفت فيه تعليقات رجال السياسة عن تقارب التقديرات تجاه مستقبل العلاقات بين البلدين ومدى تأثير العقوبات الامريكية على اقتصاد روسيا وعلاقاتها بالخارج. وفى هذا الصدد توقف الكثيرون عند ما أعلن عنه دميترى ميدفيديف رئيس الحكومة الروسية حول اعتبار العقوبات الأمريكية «اعلانا لحرب تجارية شاملة ضد روسيا»، إلى جانب كونها تضع حدا لما راود موسكو من آمال فى تحسنها مع الإدارة الأمريكية الجديدة.
وأضاف ميدفيديف أن توقيع الرئيس ترامب على هذه العقوبات يعنى اعترافه بالعجز التام وتنازله عن صلاحيات السلطة التنفيذية إلى الكونجرس، الأمر الذى يغير من توازن القوى فى الساحة السياسية الأمريكية، وينذر باحتمالات الاطاحة به فى نهاية المطاف.
وانضم ميدفيديف إلى مجموعة القائلين فى موسكو بأن «الهستيرية المعادية لروسيا صارت عماد السياسة الداخلية الأمريكية وليس فقط الخارجية»، مؤكدا أن اصدار الكونجرس لقانون العقوبات يعنى «تقنينها» بما يكفل استمرارها لعقود طويلة، ويسلب الرئيس الأمريكى صلاحيات الغائها أو تعديلها بدون موافقة الكونجرس.
وأضاف أن هذه العقوبات تبدو أكثر ايلاما من قانون «جاكسون - فينيك» الذى أصدره الكونجرس فى مطلع سبعينيات القرن الماضى عقابا للإتحاد السوفيتى على موقفه من الهجرة اليهودية إلى اسرائيل، ولم يلغه إلا فى عام 2012 رغما عن انتفاء أسباب صدوره منذ ما قبل انهيار الإتحاد السوفيتى فى عام 1991، ليسن بذلك قانونا بديلا يحمل اسم «لائحة ماجنيتسكى» يتضمن ذات العقوبات تحت أسماء مغايرة.
على ان اعتراف ميدفيديف بأن تبعات العقوبات ستزيد من توتر علاقات البلدين، وهو ما لا بد ان ينسحب على الأوضاع الدولية، لم يكن ليحول دون تأكيده انها «ستنعكس ايجابا على قدرات روسيا وتوجهاتها نحو معالجة القضايا الرئيسية فى الدولة وتطوير الاقتصاد والمجال الاجتماعى بالاعتماد على قدراتها الذاتية، كما تعلمته خلال السنوات الماضية».
وكنا أشرنا على صفحات «الاهرام» إلى المخططات التى سبق وربطت العقوبات التى اعلنت عنها الإدارة الأمريكية السابقة فى أعقاب اندلاع الأزمة الأوكرانية بما راحت تروج له شخصيات بعينها فى البيت الابيض حول الاطاحة بنظام الرئيس بوتين.
وقد جاءت العقوبات الأمريكية لتلقى بالمزيد من الزيت فى أتون نيران عبثية الاتهامات التى يكيلونها لموسكو بشأن اختراق الأنظمة والمواقع الالكترونية للعديد من المؤسسات الأمريكية ما ينال عمليا من سيادة الدولة الأمريكية ووضعية هذه المؤسسات والأجهزة الأمنية، ويفرغ هذه العقوبات من محتواها، ما قد يكون تفسيرا لنتائج استطلاع الرأى الأخير الذى أجراه «مركز عموم روسيا قياس الرأى العام» (فتسيوم). وكانت هذا النتائج كشفت عن أن «ما يقرب من نصف المواطنين الروس لا يتوقعون ظهور أى آثار للعقوبات التى شددتها واشنطن ضد موسكو مؤخرا». وأشارت النتائج كذلك إلى أن نسبة 28% من المشاركين فى الاستطلاع يرون أن العقوبات ستسفر عن تبعات سلبية على حياتهم، بينما لا يتوقع أكثر من نسبة 9% أن تسفر العقوبات عن نتائج إيجابية». أما عن مدى تـأثير العقوبات على حياتهم الشخصية قالت نسبة 79% من المواطنين الروس «إنهم لم يشعروا بتلك التأثيرات، فيما أعلن 18% عن تبعاتها، التى حددها المواطنون الروس فى مجالات ارتفاع الأسعار، وانخفاض مستوى الحياة المعيشية، وارتفاع نسبة البطالة، وارتفاع قيمة الدولار واليورو مقابل الروبل، وتقليص المرتبات، وندرة وجود بضائع من الدول الخارجية فى السوق الروسية، وكذلك مواجهة المشاكل النسبية فى الحصول على تأشيرات السفر».
على أن عدد الرافضين لاقرار هذه العقوبات لم يكن ليقتصر على روسيا وحدها ، بل تعداها إلى الكثير من البلدان والروابط الأوروبية التى تجمعها كثير من المصالح الاقتصادية مع روسيا. ومن هؤلاء كانت ألمانيا التى أعلن وزير خارجيتها زيجمار جابرييل أن العقوبات «غير قانونية»، وقال إن «واشنطن تسعى استنادا لهذه العقوبات الى شغل حيز لمنتجاتها فى قطاع الطاقة فى الإتحاد الأوروبى. ونقلت وكالة «نوفوستى» عن زيجمار تصريحاته حول ضرورة «تخفيف العقوبات المفروضة على روسيا بشكل تدريجى دون ربطها بتنفيذ اتفاقيات مينسك حول الأزمة فى أوكرانيا التى يعتبرها الغرب شرطا أساسيا للبدء فى الحديث عن تخفيف العقوبات تمهيدا لرفعها فى نهاية المطاف». وأشارت «نوفوستى» نقلا عن رابطة الشركات الأوروبية التى تضم بين صفوفها ما يزيد على 500 من كبريات الشركات الأوروبية، إلى ما اعلنته حول تضررها من إصدار مثل ذلك القانون الذى قالت إنه يشكل أحد أهم عناصر السياسة الأمريكية خلال العقود الماضية. وفى بيانها الصادر فى هذا الشأن أكدت الرابطة الأوروبية أن «التجارة تعد حلقة وصل هامة بين الدول والشعوب، ولا يجوز أن تخضع مبادئ التجارة الحرة لأى قيود، إلى جانب «دعوتها الى رؤساء دول وحكومات الإتحاد الأوروبى والولايات المتحدة وروسيا من اجل وضع استراتيجية جديدة تستهدف الفصل بين العمل والسياسة، وإيجاد حل مشترك مقبول من كل الأطراف يتسم بروح السلام والوفاق». ويعيد المراقبون فى موسكو إلى الاذهان ما سبق واتخذته الادارة الأمريكية من قرارات تجاه العديد من الدول ومنها إيران وكوريا الشمالية، اللتان عادت واشنطن وادرجتهما مع روسيا ضمن قائمة المستهدفين من القرار الأخير للعقوبات الذى أصدره الكونجرس. وقال هؤلاء إن واشنطن عجزت عن ارغام أى من الدولتين على السير فى ركابها، ولم تستطع الحيلولة دون برامج البلدين الرامية إلى تحقيق اهدافهما النووية. وتوقف المراقبون عند كوريا الشمالية التى كان الرئيس الأمريكى ترامب استهل ولايته بالعديد من القرارات والتوجيهات تخصها، ومنها الدفع بأساطيله وحاملات طائراته صوب الشواطئ الكورية الشمالية، والتى عاد وأعلن عن سحبها معربا عن استعداده للجلوس للتفاوض مع زعيمها الشاب كيم تشونج اون. ومن اللافت بهذا الصدد أن الولايات المتحدة لم تتوقف عن فرض عقوباتها ضد كوريا الشمالية منذ بداية الحرب الكورية فى عام 1950 وحتى اليوم دون تحقيق مكاسب تذكر، على نحو يقترب من اخفاقاتها العسكرية فى كل الحروب التى خاضتها خلال العقود الماضية منذ حرب فيتنام وحتى فشلها فى افغانستان والعراق وليبيا.
ورغم تصاعد التوتر واحتدام الخلافات مع موسكو فقد أعرب ركس تيلرسون وزير الخارجية الأمريكية عن أمله فى تحسن العلاقات معها، مؤكدا أن الرئيس دونالد ترامب لم يكن أمامه سوى التوقيع على قانون الكونجرس حول تشديد العقوبات، وأنه مع الرئيس ترامب لا يشعران بالسعادة ولا بالارتياح تجاه صدور مثل هذا القانون. ونقلت وكالة أنباء «تاس» عن تيلرسون قوله إن العلاقات بين البلدين تراجعت إلى أدنى مستوياتها منذ انتهاء سنوات الحرب الباردة، وأنه لا يستبعد تطورها إلى ما هو أسوأ من جراء قرار الكونجرس، معربا عن مخاوفه من تدهورها واحتمالات تحولها إلى «صراع مفتوح» وقال بضرورة «تفاديه سعيا وراء تحقيق الاستقرار من أجل حل القضايا الخلافية»، فيما اعترف بأن ما اتخذته موسكو من قرارات «يعقد حياة الأمريكيين» على حد تعبيره. وتعهد تيلرسون بالعمل من أجل تحسين العلاقة مع الكرملين لا سيما فى المجالات التى تستدعى التعاون المشترك ومنها مواجهة الإرهاب الدولى. وأشار الوزير الأمريكى إلى اهتمام بلاده باستمرار مناطق خفض التصعيد فى سوريا، وذلك ما قد يفتح الباب أمام قدر من التقارب وانحسار المواجهة على ضوء ما أسفر عنه لقاؤه مع نظيره الروسى سيرجى لافروف على هامش قمة شرق آسيا فى مانيلا عاصمة الفلبين فى نهاية الأسبوع الماضى.
رابط دائم: