ذلك المسكين الأشعث الأغبر حافي القدمين مغبر الوجه الذي لا تبدو على ملامحه أي أمارات لأي شئ.. لا حزن تلمحه ولا فرح.. لا غضب ولا سكينة.. قليل من شقاء يكاد يبين وقليل من ارتياح لا تبصره العين.. يتيح لي وقوفي اليومي بسيارتي في إشارة الميدان المزدحمة أن أتأمله وأتفرس في ملامحه وملابسه ووجهه كل يوم..
يطلقون عليه في المعاجم اللغوية لفظ «المتشرد» وتعريفه: هو ذلك الذي لا مأوى له سواء كان ذلك بإرادته الحرة أو لظروف قاسية فرضتها عليه الحياة.. ويطلق عليه الناس لفظ «المجنون».. هذا المسكين لا يبرح الرصيف الذي يتوسط الميدان.. إذا مررت عليه عصراً أجده جالساً يأكل من خشاش الناس والأرض وحين ألاقيه أثناء عودتي ليلاً أجده متلحفاً ببطانية اسودت من عادم السيارات وذلك شتاءً وصيفاً.. لا يبدو أن الماء قد لامس جسده أو وجهه منذ زمن.. أي حدث جلل ألقى به في قارعة الطريق يخافه الناس على أولادهم و أنفسهم و ينفرون منه.. أي خذلان تعرض له وممَن حتى يترك نفسه هكذا فريسة للتشرد والجنون والشقاء.. وكنت أسأل نفسي كل مرة «هل يشعر الرجل بأي شئ؟ هل يحزن أو يفرح؟ هل يبكي أو يضحك؟ أم أنه قد ترك ما نكابده كل يوم نحن المدركون وذهب بروحه إلى حيث لا ندري ولا يدري هو بشئ. «..
أربعون ثانية هي عمر الإشارة الحمراء لم تكن تتيح لي أن أقرأ الأسطر الثلاث المكتوبة على ورقة عريضة ألصقها على ظهره يطريقةٍ أو بأخرى.. لابد أن أحداً ساعده في ذلك.. في البداية لم أكترث لها طويلاً ففي الغالب هي بعض الكلمات يستجدي بها عوناً مالياً أو طعاماً يطعمه أو مأوىً يؤويه علّ أحد الأثرياء أو فاعلي الخير أو راغبي المثوبة يقرأ و يساعد.. و لكن بعد أشهرٍ أربعة لم يتغير الحال و لم يبرح الرجل موضعه ولا الورقة زالت عن ظهره، حينها غلبني فضولي و توقفت بسيارتي بعيداً ثم ترجلت إليه لأقرأ ما سُطِّر فيها:
« أين النعيم الذي كانوا يدّعون أن المجانين يعيشون و يترفون فيه ؟! .. المجانين في عذابٍ مقيم و لكنكم لا تشعرون...
رابط دائم: