بهدوء معهود حصلت الصين فى عام 2015 على الضوء الأخضر لبناء قاعدة بحرية فى جيبوتى إلى جانب القواعد العسكرية للولايات المتحدة وفرنسا على أن يكون ذلك قبل نهاية عام 2017. ومنذ ذلك الوقت اتجهت التصريحات مبدئيا إلى الحديث عن اقاعدة بحرية لوجستية بهدف مكافحة القرصنة وضمان أمن مضيق باب المندب، وخصوصا ضمان أمن السفن الصينية التى تمر عبر هذا المضيق.
وفى شهر يوليو2017، أرسلت الصين ولأول مرة عسكريين صينيين إلى أول قاعدة عسكرية لها فى الخارج، فى جيبوتى، وذلك بعد يوم واحد من قيام سفن حربية صينية بمناورة بالذخيرة الحية فى البحر المتوسط وهى فى طريقها إلى البحر الأسود وهو الأمر الذى ترك إشارات ودلالات واضحة على أن الوجود الصينى فى المنطقة بدأ يأخذ طابعا أكثر جدية وعسكرية أكثر من أى وقت مضى.
مبررات صينية
فبهدوء صينى معهود ظهر خبر مقتضب بوسائل الإعلام الصينية قى 11 يوليو 2017 يشير إلى حفل للإعلان عن تأسيس قاعدة الخدمات لجيش التحرير الشعبى الصينى بجيبوتى ومغادرة سفن تحمل مجموعة من الأفراد العسكريين من الجيش الصينى لمنطقة تشانجيانج فى مقاطعة قوانجدونج جنوب الصين فى طريقهم لاقامة «قاعدة دعم» فى جيبوتى. وقرأ شن جين لونج، قائد بحرية جيش التحرير الشعبى الصينى، أمر إنشاء القاعدة فى جيبوتى.
وذكرت البحرية الصينية ان إقامة القاعدة جاء بناء على قرار صدر عن الدولتين بعد مفاوضات ودية، وانه يتفق مع المصالح المشتركة للشعبين.
وتحددت مهام القاعدة بتأمين المهام الصينية مثل المرافقة وحفظ السلام والمساعدات الانسانية فى افريقيا وغرب آسيا. وتقديم المساعدة للأنشطة التى تتضمن التعاون العسكرى والتدريبات المشتركة وعمليات اخلاء وحماية الصينيين فى الخارج والحفاظ المشترك على أمن الممرات المائية الاستراتيجية الدولية (وفى مقدمتها باب المندب وخليج عدن).
وبعد أيام من الحدث لمست القيادة الصينية مدى قلق عدد من الدول الكبرى بشأن الوجود العسكرى الصينى فى جيبوتى وتبعاته على الخريطة الجيواستراتيجية العالمية. فقررت الصين نشر تعليق عبر وسائل إعلامها تؤكد فيه أن القاعدة العسكرية الصينية فى جيبوتى ليست من أجل التوسع العسكرى. وأكدت مايلى: 1ـ إدراكها أن قاعدة الصين فى جيبوتى تثير بعض المخاوف 2ـ نفت الصين تلك التأويلات او المخاوف بشأن القاعدة مؤكدة أنها لا أساس لها من الصحة تماما. 3- تأكيد أن قاعدة جيبوتى لا علاقة لها بسباق التسلح او التوسع العسكرى. 4ـ التلميح بأن الصين ستكون الدولة الاخيرة التى تقيم قاعدة فى جيبوتى التى تستضيف بالفعل قاعدة عسكرية امريكية ضخمة وكذلك منشأت عسكرية فرنسية ويابانية. 5ـ أن القاعدة الصينية لا تعد تهديدا بالنظر الى كل هذه الدول التى اقامت منشآتها البحرية الخاصة بالمنطقة. 6 ـ أن الصين لم تؤسس القاعدة بهدف النشر الاستراتيجى للقوات العسكرية ولكن لتنفيذ مهمات الحراسة وحفظ السلام والمساعدات الانسانية فى افريقيا وغرب آسيا. 7ـ تأكيد أن الهدف النهائى من الجهود الصينية لتعزيز قوتها العسكرية هو ضمان امنها بدلا من السعى للسيطرة او حراسة العالم.
ولكن الواقع والحسابات الإستراتيجية والمنطقية تقول إن خطوط النقل البحرى فى المحيط الهندى تنقل 80% من النفط فى العالم وثلث البضائع العالمية، وأن العملاق الإقتصادى الصينى من المنطقى أن يتطلع إلى تأمين طرق موارده من الطاقة والنقل التجارى على طول تلك الممرات مما يتيح له تأدية دور أكبر فى الشئون العالمية. ولم تختلف اللهجة الصينية الهادئة عن التحرك الهادئ الذى تبنته فى طريقها إلى الحصول على قاعدة فى جيبوتى.
عناصر قلق القوى الكبرى
وعلى الرغم من إصرار الصين اعلاميا على أن قاعدتها فى جيبوتى ستقتصر على الخدمات اللوجستية لسفنها المدنية و الحربية العابرة للمنطقة، فإن القلق تسرب إلى بعض القوى العسكرية الكبرى التى تهتم بالمنطقة فى إطار خدمة مصالحها الإستراتيجية على المستويين التجارى والسياسى والعسكرى.
أـ الولايات المتحدة الأمريكية التى تمتلك قاعدة مهمة (ليمونييه) فى جيبوتى تسرب لها القلق. فالقاعدة الصينية المقامة على مسافة قريبة من نظيرتها الأمريكية ستطل على مضيق باب المندب، مدخل البحر الأحمر وقناة السويس، التى تعد واحدة من أكثر الممرات البحرية أهمية فى العالم، كما أنها قريبة أيضا من الصومال المضطرب، وعلى بعد مسافة قصيرة من شبه الجزيرة العربية بدولها وبترولها والتى تعد من أهم المناطق الإستراتيجية لدى واشنطن تحديدا وكل الدول الغربية التى تستورد موارد الطاقة من المنطقة.
كما تدرك واشنطن أن زيادة الوجود الصينى العسكرى فى مناطق وجود قواتها مثل شرق آسيا وبحار شرق وجنوب شرق آسيا والمحيط الهندى وبحر العرب وأخيرا عند مدخل باب المندب يمثل تهديدا ولومستقبليا حال نشوب أى مواجهة بين الطرفين
وتضع واشنطن فى حسبانها تطوير الصين لتحركاتها الهادفة إلى فتح المزيد من الأسواق لتجارتها والحصول على مناطق نفوذ اقتصادى وسياسى وتجارى وثقافى أكبر فى إطار مشروع االحزام الاقتصادى لطريق الحرير وبطريق الحرير البحرى للقرن الحادى والعشرين الذى يتبناه الرئيس الصينى شى جينبينج منذ عام 2013. وفى الهند المنافس الإقليمى الأكبر للصين تناولت وسائل الإعلام الأمر بقدر كبير من التوجس فى ظل ما يمكن أن تحدثه القاعدة البحرية الصينية الجديدة فى جيبوتى من تأثيرات على ميزان القوى والإنتشار الجغرافى للقوة البحرية بين الدولتين. ومن المعروف أن الهند تترقب منذ فترة إمكانية قيام الصين بإنشاء قواعد فى المحيط الهندى حول المياه الإقليمية للهند.
وهكذا بدأت تحركات الدول الكبرى تشهد بعض التطور حول المدخل الجنوبى للبحر الأحمر وباب المندب. فقد زاد تشابك وتناقض المصالح بين تلك القوى ولم يعد الأمر مقصورا على تنظيمات إرهابية أو حفنة من القراصنة أو الحوثيين، وإنما أصبحت هناك إستراتيجيات كبرى تخص دول كبرى لها أجنداتها التى قد تتوافق فى بعض النقاط ولكنها حتما ستتناقض فى نهاية المطاف.
رابط دائم: