حوَّلتُ القناة ضجِرا بالهجوم الكاسح الذى شنه أغلى مدرب فى أعرق ناد على أغنى لاعبين .. خذلتهم قدراتهم وإمكاناتهم وأقدامهم السليمة
وحرمتهم الفوز فى سباق البطولة .. أشاح المدرب بيده يائسا: سمعتى فى بورصة التدريب أولا.. لست ساحرا أو تاجرا مغامرا لكى أدرب لاعبين «مكسَّحين» بلا خيال .. أوصلنى الريموت إلى مؤتمر الشباب.. ضجت القاعة بالتصفيق للقادم الذى اصطادته كاميرا شاشة العرض الداخلية.. ركن الدراجة على الباب، حمل حقيبته على ظهره، أغلق جاكت بدلته احتراما لهيبة المناسبة ومهمته فى تثبيت أركان الدولة، وضع الكاب تحت أبطه، ودخل قاعة المؤتمر، شاهدته مراهقا صغيرا يزك بساق معدنية وأخرى سليمة ويتصدر رأسه المائلة بثقة ابتسامة محفورة وشعر أسود مجعد لم يعرف السيشوار، نهض الرئيس فى مكانه، لم يدهشنى سلوكه المعتاد والطبيعى حين يكون الزائر رئيسا أو مبعوثا ضخما من البنك الدولى أو من رئيس مجلس إدارة الكون أوعالم كبير أو مستثمر أو مسن أو سيدة عجوز أو ضحية تحتاج طبطبة و«آسفين يابنتى» و«حقك علينا»، لكن الرئيس نهض ومشى عدة خطوات ليكون فى شرف استقبال وتقبيل رجل المؤتمر المهم، صافحه الرئيس ثم احتضنه بحنان الأب فأخرج «الرجل المهم» مظروفا من حقيبته وأعطاه للسيد الرئيس وجلس عن يساره قبل رئيس الوزراء، اكتملت واجهة الصف الأول الذى كان حكرا لعقود خلت على كبار المسئولين.. أمسك الرئيس المايك، وقبل أن ينطق بكلمة، تذكرت كتاب «رجال حول الرئيس».. كشف مؤلفه مصير مستشارى رؤساء مصر، بعد عبد الناصر ـ الذين صاروا رؤساء ووزراء وسفراء ومراكز قوى ـ حتى محمد مرسى ومستشاروه الذين خرجوا بشعاراتهم معه من الميدان الى الليمان، العنوان كان تقليدا «حداثيا» لسفر العلامة خالد محمد خالد «رجال حول الرسول».. الذى تناول فيه ضمائر وذمم 60 صحابيا كان يستشيرهم رسول الله .. ليت كبارنا وصغارنا يبلغون نصف مثقال ما بلغ أحكمهم وأعدلهم .. هاهى الواجهة العصرية ورسائل مصر الجديدة للعالم، عن يمين الرئيس جلست مريم أولى الثانوية العامة تمثل الامكانات العقلية البازغة للفتاة القادرة بتواضع على كسر حواجز الطبقات الهشة، حملها الاصرار من القاع إلى الصدارة بقطارالأوائل، بنوتة بالإيشارب بلا تذويق ولا تنميق ولا تزمت، وقفت وابتسمت وصفقت وجلست، أشعَّت براءتها بلا تكلف أو هتاف، ملأت مقعدها بحضور آثر كأنها ولدت عليه أو كأن هذه المكانة ولدت لها، لم تثقل على والدها حارس العقار بتلك الأثقال التى يلهث تحتها البرجوازيون وأشباهم فى سباق الحصول على شهادة الوجاهة والمظهرية ، وعلى يساره نظر الرئيس وقدم للحضور فى القاعة وعبر الشاشات للبيوت أحدث رسائله واكتشافاته «التخفف من عقد الماضى» أهم شروطه للتقدم، شاب عمره ثماني عشرة سنة منذ ثمانى سنوات كان طفلا يلهو وأصيب، صحى من النوم مبتور الساق، بالقانون الذى فصل خصيصا لتبقى المجتمعات «محلك سر» مكانه الطبقى أحد بيوت الأحداث أو متسولا فى إشارات المرور أو ثائرا فى مدرجات الجامعة، أو شاعرا يائسا شتاما لاعنا ثم خريجا تحت الطلب تذروه الرياح، لكن بالقدرة والحلم صار مكان أحد مبتورى الساق يتشرف به رئيس الجمهورية، فى زمن مصر الجديدة والمنصورة الجديدة والمعادى الجديدة والعاصمة الجديدة ومكتبة الاسكندرية الجديدة يقدمه الرئيس بفخر ويكرر تأكيده أنه يتشرف بوجوده، إنه ياسين بن ياسر، سألت والده كيف حولت بلواه إلى معجزة قال: كنت أضحك فى وجهه واندبح فى غرفة نومي، وداوى نفسه بالتى كانت هى الداء، فصار بطلا فى قيادة الدراجات، وحين علم ياسين أنه سيسأل الرئيس، جاب محافظات مصر يجمع الأسئلة والهموم من الشوارع والحوارى والنجوع وزار ـ كما اعتاد ـ من هم أكثر منه ابتلاء وصبرا، استهزأ به البعض، وسخر من مهمته كثيرون، وآمن برسالته القلة جبرا لخاطره، وحملوه شكاواهم بلا حرج أو تذويق، وانضمت شكاواهم إلى أسئلة «لؤى» والذين معه، (الرئيس يغضب ..الرئيس عصبى ..الرئيس دمر الطبقة الوسطى ..الرئيس انحاز للفقراء والمهمشين ..وأنقذ العشوائيين ..وحول الموظفين إلى معدمين.. الرئيس أغضب أهل الوراق) .. أغرب الشكاوى جاءته من كاتب «لوزعى»: مافائدة الطرق والعاصمة الجديدة إذ لم تجد من يمشى عليها أو يسكنها.. كم هائل من الأسئلة الخبيثة والبريئة والجريئة، حملها مظروف ياسين من الأهالى إلى للرئيس، وحين منحه الرئيس الميكروفون ليقدم نفسه، كشف عاهات مدرب الكرة وفريق الأثرياء وكل فقراء الحلم والمتمردين على الخيال : «كان ممكن أقعد ابكى أو اتفرج، لكن كان عندى هدف ..أشارك .. كل ما عملته أن أشارك.. فأنا شاب ..وعندى هدف .. والرئيس قرر أن يسمعنى وأنا اخترت أن يسمع الرئيس من خلالى هموم كل الناس، و«هوه ده الصح»..
على مقعد بالواجهة أيضا غير بعيد عن الرئيس ظهرت منى فتاة العربة.. كل ابداعاتها أنها آثرت أن تأكل عيشها وترعى أهلها المعدمين بذراعها، تشد وراء ظهرها عربة بضاعة وتطوف بها على كل المحلات لمسافة ثلاثين كيلو يوميا فى شوارع الاسكندرية، .. وكأن القدر كان حريصا على أن يكتمل عقد الواجهة كما رأيتها مساء الأحد قبل أن ينتهى المؤتمر بنوع آخر من الرجال يمارسون الحلم للوطن بعيدا عن الصورة، جاءنى بوست فى الفيسبوك من صديقى «على» .. شاهدت دبابة مصرية فى طريقها لحماية أحد ألأكمنة، توقفت فى الصف ثم استدارت وهرست سيارة ملاكى خلفها عدة مرات وعادت مرة أخرى برشاقة الى مكانها فى الطابور الطويل أمام الكمين، وشرح لى على وهو جندى فى الصاعقة : تم إبلاغ زميلى قائد الدبابة وطاقمها بأن السيارة التى تقترب منه مفخخة وبها مجموعة من المسلحين، وأن ماتراه الآن هو سر حربى مصرى، ملخصه رد فعل الجندى المصرى فى ميدان الحروب، احتار في توقعه خبراء العسكرية فى العالم، وشرح على: الطبيعى أن يشتبك الطاقم بمدافعهم الثقيلة مع السيارة المفخخة بعد أن يأمر المدنيين بمغادرة المكان فينزل الانتحاريون ويشتبكون مع القوة وينتحرون أو يهربون وتتولى السيارة المفخخة باقى المهمة، لكن قائد الدبابة قرر أن يعلمنا درسا جديدا فاستدار بدبابته وفاجأ الانتحاريين بعدم إطلاق النار بل هرس السيارة المفخخة بدبابته ومشى بها فوق متفجراتهم وعلى رءوسهم المتحجرة، ثم عاد البطل المجهول للوقوف فى الصف بأمان فى انتظار الوصول إلى الكمين..
و«هوه ده الصح» .. وكأن قائد الدبابة الذى «يفك الخط بصعوبة» يقرأ من نفس كتاب الإبداع كما فعلت منى جرارة العربة وتفوقت مريم بنت الأصول وعلمنا ـ رجل الأسئلة الصعبة ـ ياسين !
رابط دائم: