أنا رجل على المعاش, متزوج ولدى أبناء وأحفاد, وكنت مديرا عاما لإحدى الإدارات التعليمية، وبالرغم من أن سن الستين تمثل مشكلة للكثيرين,
إلا أننى أرى الحياة بعين اخري, وقد حدثت زملائى فى ذلك خلال الحفل الذى أقاموه لتوديعى وقلت لهم إننى غير حزين لإحالتى إلى التقاعد لإيمانى بأن الحياة سوف تبدأ معى بعد الستين بالمرح مع الأحفاد والأبناء الذين شغلتنى عنهم هموم الوظيفة، ولم يمض شهر واحد حتى اتخذت حياتى منحنى آخر غير الطريق الذى تصورته, فلقد استيقظت ذات يوم على هاتف زوج ابنتى الذى أخبرنى بأنها شعرت فجأة بضيق فى التنفس وصعوبة فى البلع, وأنه نقلها إلى مستشفى شهير جدا, وهرولت إلى الطبيب الاخصائى وسألته عن حالة ابنتى فأخبرنى بأنها مصابة بورم خبيث فى الغدد الليمفاوية, ولابد من استئصاله فى أسرع وقت, ولكن قبل إجراء الجراحة يجب إجهاض ما فى بطنها لخطورته على صحتها حيث إنها حامل، وبالفعل تركت ابنتى أولادها الثلاثة فى رعاية جدتهم, بينما قررنا أنا وزوجها البقاء معها فى المستشفى إلى أن تمر الوعكة الصحية ـ التى ألمت بها ـ فى سلام, وتعود إلى سابق عهدها ونشاطها, وإلى هنا تبدو الأمور عادية، وتدخل فى باب القضاء والقدر، وقد أجريت لها جراحتان رجعت بعدهما إلى منزلها, ولم تمر أيام حتى عادت إليها الأورام الخبيثة من جديد, وقال لى الطبيب المعالج: إن الحل يكمن فى العلاج الكيميائى, وعندما حان موعد الجلسة الأولى امتنعت ابنتى عن الذهاب للمستشفى, وقالت لى إنها اتخذت قرارها بأن تلجأ إلى التداوى بالاعشاب بحجة أن العلاج الكيميائى يؤثر سلبيا على الكبد والكلى, واستغربت جدا لكلامها وهى المتعلمة والمثقفة, بل والمدهش أن زوجها هو الآخر اقتنع بما تريده، وبذلنا أنا ووالدتها قصارى جهدنا لكى نقنعها بأن ما سوف تقدم عليه هو خطوة غير مأمونة العواقب, وأن من يلجأون إلى الأعشاب لا يخضعون لإشراف وزارة الصحة, وأنه ليست هناك أى تأكيدات بجدوى هذا النوع من العلاج، وبدأ أحد أقارب زوجها فى إرسال جرعات الأعشاب إليها، بل إنها انجرفت وراء إعلانات المدعين على الجدران بأن لديهم جهازا لإزالة الألم.
وهدانى تفكيرى إلى استشارى كبير فسألته عن هذا الجهاز السحرى, فقال لى إن هذا غش وتضليل ومتاجرة بآلام المرضى.. لكن ابنتى مضت فى طريقها الذى رسمته لنفسها ولم تعر ما أقوله أدنى اهتمام، وانعكس ذلك على حالتى الصحية وأصبت بحالة اكتئاب شديدة, كما أصيبت ابنتى بحالة نفسية سيئة وأفرطت فى تعاطى أدوية الاكتئاب والمهدئات، ولم يكن أمامى أى حل سوى أن أتركها فيما تمضى فيه من باب أن الاقتناع بالدواء يمثل نصف العلاج, وبعد تسعة أشهر كاملة أيقنت ابنتى أن من يعالجونها بالأعشاب نصابون، فهم يصرفون لها أعشابا ليس لها أى تصنيف طبي، وفرحت جدا أنها أدركت ذلك حتى ولو أن اقتناعها بما قلته لها قد جاء متأخرا.
ولم يدم الوقت طويلا إذ شاهدت على شاشة إحدى القنوات الفضائية إعلانا عن أن العسل الجبلى يشفى من السرطان ويقوى جهاز المناعة فأسرعت بشرائه, ولم تنقطع عن التردد على جهاز إزالة الالم!.. وبعد مرور عام تحولت ابنتى إلى هيكل عظمي, وقد ضقت ذرعا من تصرفاتها، وأرجوها أن تسلك الطريق الطبى المعروف فى العلاج بعيدا عن تلك القنوات الفضائية التى اخترقت كل القوانين ومواثيق الشرف الإعلامية والتى لا تجد من يُوقف بث سمومها وليس أدويتها، فهل توجه إلى ابنتى كلمة تنتشلها من الضياع, وهل توجه كلمة أيضا إلى الأطباء المتخصصين لكى يدلوا برأيهم فى قضية العلاج بالأعشاب التى طال الحديث عنها, ومازالت تجد آذانا صاغية لدى البعض ممن يتلمسون أى خطوة جديدة تخفف عنهم بعض متاعبهم؟
ولكاتب هذه الرسالة أقول :
لقد قرأت كلماتك البليغة التى وصفت بها رؤيتك للحياة لكننا كطبيعة كل البشر نجزع إذا أصابنا مكروه, ونتذكر الله عز وجل فنبتهل إليه أن يفرج كربنا وينجينا مما نحن فيه، ومهما تضرر الإنسان مما أصابه فإن مايكرهه قد يكون خيرا له, وفى ذلك يقول الحق تبارك وتعالي: «وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم, وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم». (البقرة 216) . ولذلك فإن على ابنتك أن تتقبل ما هى فيه, وأن تطلب العلاج لدى الأطباء الأخصائيين, وألا تلتفت إلى ما يشاع عن أدوية لا أمل فيها.. أما الفضائيات التى تتحدث عن العلاج بالأعشاب دون سند أو دليل علمي, فإن مسئوليتها تقع على المجلس الأعلى للإعلام الذى يجب أن يخاطب أصحاب هذه القنوات بضرورة الالتزام بمواثيق الشرف الاعلامية, وعلى وزارة الصحة أيضا أن تصادر هذه الأعشاب وتحاسب من يبيعونها, وهم غالبا يتخذون من الأوكار مكانا لممارسة أنشطتهم، إذ لا تجد عنوانا لهذه المراكز التى تعالج بالأعشاب, بل إنك تتصل بها عن طريق تليفونات محمولة فيأتونك بما تريد دون أن تعرف لهم مكانا!
إنها أزمة ضمير قبل أن تكون مشكلة مجتمع، وإذا غاب الضمير، توقّع أى شىء، وسوف يلقى هؤلاء المتاجرون بصحة الناس مصيرا مؤلما, وقد يعجل الله بحسابهم فى الدنيا، وربما يؤخرهم إلى يوم تشخص فيه الأبصار.
وأقول لابنتك: إهدئى بالا, وثقى بأن الله سوف ييسر لك أمورك, ويختار ما هو أفضل لك فاستمعى إلى نصيحة والديك, وكفاك الفترة السابقة التى تلقيت فيها العلاج الذى اخترته، ولتجربى هذه النصيحة من الطبيب الكبير الذى أشار على والدك بضرورة خضوعك للكشف الطبى السليم طلبا للعلاج الناجع بإذن الله، وأرجو أن تحرك رسالتك المياه الراكدة تجاه هذه القضية الخطيرة.
رابط دائم: