بينما كان قادة وزعماء الدول الـ19الأقوى إقتصاديا ونفوذا فى العالم بالإضافة إلى الإتحاد الأوروبى مجتمعين وراء أبواب قاعة المؤتمرات فى هامبورج أويحضرون حفلا للموسيقى الكلاسيكية فى قاعة الإحتفالات الجديدة المطلة على الميناء فى حماية المروحيات والعربات المصفحة
تحولت شوارع المدينة الألمانية الساحلية خلال الأيام الماضية إلى ساحة لحرب العصابات قام فيها آلاف الناشطين اليساريين المتطرفين من المانيا وكل انحاء اوروبا بحرق السيارات وتحطيم الممتلكات العامة والخاصة ونهب المحلات والإعتداء بوحشية على رجال الشرطة فى مشهد صادم اشعل جدلا ساخنا فى المانيا من شقين:
اولا:التساؤل ما إذا كان إختيار مدينة هامبورج الكبيرة لإستضافة قمة العشرين قرارا صائبا فى ظل وجود قاعة المؤتمرات فى قلب المدينة مباشرة بل وبجوار حى «شانسن فيرتل» المعروف بتوجهات ساكنيه اليسارية المنهاضة للرأسمالية والعولمة وحول مدى إستعداد الأجهزة الأمنية للتعامل مع العنف غير المسبوق من قبل ناشطى التكتل الاسود او «البلاك بلوك» ذوى الميول الفوضوية. ورغم دفاع المستشارة انجيلا ميركل عن إختيار هامبورج بإمكاناتها اللوجيستية لإستضافة الآلاف من أعضاء الوفود المرافقين للزعماء وآلاف الصحفيين وكذلك تعهدها فى ختام القمة بتعويض المتضررين من أعمال الشغب إلا انه من غير المستبعد ان تؤثر مشاهد العنف على شعبيتها ولو بدرجة اقل من اولاف شولتس عمدة المدينة الإشتراكى الديمقراطى الذى صرح قبل القمة انها ستكون بمثابة إحتفال لن يشعر السكان به وتتعالى الآن الاصوات المطالبة بإستقالته، وذلك قبل شهرين تقريبا من الإنتخابات البرلمانية المهمة فى المانيا.
الشق الثاني: الجدل الدائر حاليا هنا بعد إنتهاء القمة يتعلق بنتائجها السياسية التى اجمع المراقبون على تواضعها بالقياس لتكلفتها المادية التى تجاوزت مائة مليون يورو من اموال دافعى الضرائب تضاف إليها تعويضات بالملايين للمواطنين واصحاب المتاجرالمتضررين فضلا عن مئات المصابين والجرحى من المدنيين ورجال الشرطة. وبإلقاء نظرة سريعة على البيان الختامى أو إعلان هامبورج لقمة العشرين يمكن ان نخلص إلى ان اكبر الدول الإقتصادية فى العالم والتى حققت جزءا كبيرا من رخاءها وقوتها الإقتصادية بفضل قواعد التجارة الحرة لم تتمكن من الإلتزام المشترك بنظام تجارى عالمى حر متعدد الأطراف يرفض السياسات الحمائية الوطنية بعد ان تمسك الرئيس الأمريكى دونالد ترامب بنهجه المخالف فى هذا الإطار رافعا شعار امريكا اولا. وبالتالى قبلت الدول الـ19 بصيغة توافقية فى هذا الملف تتضمن فقرة تسمح بإستخدام ادوات حماية تجارية شرعية وذلك إرضاء للولايات المتحدة الأمريكية وفى دليل ملموس على الخلاف الأمريكى الألمانى الأوروبى الذى بدا واضحا فى جلسة التجارة الحرة عندما هدد الأوروبيون بفرض عقوبات على امريكا إذا ما تمسكت إدارة ترامب برغبتها فى تقييد صادرات الصلب الأوروبية للسوق الأمريكية بإعتبارها تهديدا للأمن القومى الأمريكي. اما فى ملف مواجهة تغير المناخ فقد ظهر الخلاف بين الدول الـ18 والإتحاد الأوروبى من جهة وإدارة ترامب من جهة اخرى واضحا بعد ان اكدت ميركل فى ختام القمة ان جهود التوصل لحلول وسط لم تفلح هنا, وبالتالى خرج بيان القمة يسجل موقفين مغايرين وهما من ناحية إلتزام كل الدول ٌتفاقية باريس للمناخ ورفض التفاوض حولها من جديد فى حين تنسحب منها الولايات المتحدة من ناحية أخرى، بل وتمكن الوفد الأمريكى من إدراج فقرة تتضمن حق واشنطن فى دعم الدول للحصول على الوقود الاحفورى النظيف وهو ما اثار انتقادات واسعة من الخبراء والمراقبين, وفسر الإصرار الأمريكى على ذلك برغبة واشنطن فى التوسع فى تصدير الغاز الصخرى لدول العالم وخاصة شرق اوروبا أنطلاقا من بولندا التى زارها ترامب قبل انطلاق قمة العشرين مباشرة ويعتبرها حليفا إقتصاديا وعسكريا وثيقا له. ولم تكد القمة تنتهى حتى اعلن اردوغان فى انقرة ان بلاده لن تصادق على اتفاقية باريس للمناخ فى ضربة إضافية لميركل. فى ملف التنمية والشراكة مع أفريقيا الذى اولته الرئاسة الألمانية للقمة اهمية كبيرة وطرحت مبادرة مشروع مارشال مع الدول الأفريقية خرجت نتائج القمة محبطة كما اكدت ذلك مؤسسة دعم أفريقيا الألمانية، فتمويل مشروعات التنمية التى ينص عليها المشروع ستتكفل به شركات وتضمنه فقط الحكومات فى حال وقوع خسائر، بما يعنيه ذلك من وضع الأرباح اولا قبل توفير فرص العمل للمواطنين والإستثمار فى مشروعات تدفع الإقتصاد فى هذه الدول. كما يشكك الكثيرون فى وفاء هذه الدول باى التزمات جديدة تجاه القارة مثل إنشاء صناديق جديدة لدعم وتمكين المرأة الأفريقية بقيمة 280 مليون يورو وهى المبادرة التى تم إخراجها بذكاء من قبل ميركل وتصدرت المشهد فيها ايفانكا ابنة الرئيس ترامب فى محاولة منها لتخفيف الأجواء مع الرئيس، غير انها تتناقض تماما مع نية ترامب تقليص مساعدات التنمية الأمريكية بنسبة الثلث. اما على صعيد الملفات الأمنية والأزمات المشتعلة فكان مكافحة الإرهاب هو الملف الوحيد الذى حظى بإجماع جميع المشاركين، سواء على صعيد محاربة التطرف على مواقع الإنترنت او تجفيف مصادر تمويل الإرهاب وملاحقتها فى الملاذات الآمنة وتوثيق التعاون الأمنى بين اجهزة الاستخبارات ومراقبة تطبيقات التواصل الإجتماعى المستخدمة فى الإتصالات وغيرها من الإجراءات. ويمكننا تلخيص نتائج القمة بأن نادى الدول الصناعية الكبرى يشهد إنقسامات وتحولات جذرية حاليا مع تقارب المانيا والإتحاد الأوروبى مع الصين والهند وإعتبارهما وخاصة الصين شريكا يمكن ان يعوض الإبتعاد الأمريكى التدريجى عن اوروبا والخلاف معها حول ملف التجارة الحرة ومحاربة التغير المناخي. وقد إعترفت ميركل فى ختام القمة بأن التقدم تحقق فقط فى بعض الملفات فى حين وصف امين عام الأمم المتحدة جوتيريش القمة بأنها «لم تكن فاشلة « ويكفى التزام المجموعة بالتعاون سويا فى المستقبل، وهو تصريح لا يحتاج لتفسير! بل أن بعض التعليقات الألمانية هنا رأت أن ميركل انقذت ما يمكن انقاذه فى هذه القمة.
رابط دائم: