أنا شاب فى الخامسة والثلاثين من عمري, نشأت فى أسرة متوسطة لأب يعمل مديرا باحدى المصالح الحكومية, وأم ربة بيت نالت قسطا من التعليم, ولى أربع أخوات يصغرنني، ومنذ أن وعيت على الدنيا أخذ أبى يشعرنى بالمسئولية عن إخواتي, ويؤكد لى دائما أننى قادر على إرشادهن وحمايتهن, وعلى عكس ما يقال من أن الآباء والأمهات يدللون الابن الوحيد، ويركزون اهتمامهم فيه, فقد ركز أبى اهتمامه على أخواتى البنات, ولم يرفض طلبا لإحداهن, فى الوقت الذى كان يحرمنى فيه من تلبية معظم ماأطلبه منه، وكانت حجته فى ذلك اننى رجل, وأستطيع أن أتحمل الظروف التى أمر بها إلى أن تتيسر الأحوال، أما البنات فهن مطالبات بالحفاظ على مظهرهن وسط زميلاتهن، وبالرغم من ضيقى الشديد من هذه التفرقة إلا أننى لم أتوقف عندها طويلا.
ومضت الأيام وتخرجت فى كليتى وتسلمت وظيفتي, والتفت إلى نفسى لأول مرة باحثا عن شريكة حياتي, فوجدت فتاة تناسبنى تماما وكانت بيننا وبين أسرتها معرفة قوية، وطلبت من أختى التى تلينى فى العمر وهى أكبر أخواتى أن تفاتحها فى الأمر, ففعلت ولاقت لديها قبولا وترحيبا بي, ولاحظت سعادة أمى عندما علمت بذلك، ثم تقابلت معها ذات مرة وكانت بصحبة والدتها فى زيارة عادية لأسرتنا, ولمست الترحيب من الجميع ولم يبق إلا أبي، وعندما فاتحته فى الأمر ثار ضدى واتهمنى بالأنانية وبأننى أفضل نفسى على شقيقاتي, ويقول لى إنه كان يتوقع منى أن أنتظر حتى تتزوج أختان من أخواتى على الأقل قبل أن أفكر فى مسألة الزواج! وحاولت إفهامه بأننى لا أريد سوى خطبة فتاتى والانتظار الفترة التى يريدها, لكنه لم يغير موقفه، وهكذا انسدت جميع الأبواب فى وجهى ودخلت فى حالة خصام معه, وحاولت التقرب من أسرة فتاتى فوجدتها اكثر تفاؤلا ورضاء من أسرتى, ثم سعى الأهل إلى تقريب وجهات النظر بينى وبين أبى حتى قبل بقراءة الفاتحة, لكنه ظل على نفس موقفه السابق من عدم مساعدتى بالرغم من أنه يستطيع ذلك بما يملكه من بعض المال الذى آل اليه عن طريق الميراث.
ودخلنا فى خصام جديد, وبدأت أشعر بالمرارة والألم, ولم أعد أطيق الجلوس فى البيت, ومضت الأيام ولم يوافق ابي, وبعد جهود جديدة معه وافق على أن يعطينى مبلغا بسيطا قائلا: إن عليك ان تدبر حالك بنفسك, فأخذت المبلغ راغما واستعنت بمبلغ يزيد على ضعفه من والد فتاتي، وتزوجت دون مساعدة أخرى من أبي.. وبدأت حياتى الزوجية, وكلى مرارة تجاه أبي, بل وأمى التى رأيت انها لم تبذل الجهد الكافى مع أبى لإقناعه بتقديم المساعدة المناسبة لى, وانعكس ذلك على علاقتى بأسرتى بعد الزواج, فلم أزرها, وإذا ذهبت إليهم فى احدى المناسبات اجلس بعض الوقت صامتا ثم أنصرف لزيارة أهل زوجتى!
وأنجبت طفلين وانشغلت بحياتى وانخرطت فى علاقات اجتماعية مع أهل زوجتى ولم يعد أبنائى يعرفون أقارب لهم سواهم..! وانشغلت بحياتى وأسرتي, وذات يوم سقطت على الأرض مغشيا علىّ فنقلونى إلى المستشفى ومن خريطة العلاج اكتشفت حقيقة مرضى وتلفت حولى لم أجد سوى زوجتى التى جلست معى بعض الوقت ثم انصرفت عائدة الى البيت لرعاية الأولاد.
وهنا تذكرت أبى وأمى واخوتي, وماحدث معى وتمنيت لو أننى نلت رضاهم عني، وفجأة جاءت أمى واخواتى لزيارتى بعد أن علمن بمرضى من والد زوجتي.. فانخرطت فى بكاء مرير وطلبت منهن الصفح والغفران, وتمنيت لو أن ابى عفا عنى ودعا لى بالشفاء, وتحققت امنيتي, وجاءنى أبى فكانت قمة السعادة, وأحسست بالشفاء وأنا فى أشد المرض, وآمل أن يقرأ رسالتى كل الأبناء وأقول للجميع : إننى نادم على ما فعلت, وعليهم أن يتعلموا مما حدث لى، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
> ولكاتب هذه الرسالة أقول:
من حيث الخطأ الذى ارتكبته فى حق أسرتك فبإمكانك إصلاحه، والمهم هو أن تصدق نيتك ويصح عزمك, فإنه لأمر عجيب حقا ما حدث بين أب وابنه من كبرياء فينتظر كل منهما أن يخطو الآخر الخطوة الأولى تجاهه, ولا أدرى ما الذى جعلك تفكر بهذه الطريقة, فأى كبرياء هذه التى تبرر عقوقك لأبيك وجفاءك له سنوات طويلة؟.
إن الكبرياء تكون بين طرفين متساويين تماما، لكنه لا يكون مفهوما فى علاقة الابن بأبويه, إذ يأمرنا الله سبحاته وتعالى بأن نخفض لهما جناح الذل من الرحمة، وأن نقول «.. رب ارحمهما كما ربيانى صغيرا» بل وبأن نصاحبهما فى الدنيا معروفا ولو جاهدانا على أن نشرك بالله، ومن فضله عز وجل عليك أن المياه عادت إلى مجاريها مع أسرتك, فصلة الرحم وعقوق الأبوين من أكبر الذنوب عند الله سبحانه وتعالى.
وقد قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: «رب معصية أدخلت صاحبها الجنة»، وجاء فى تفسير هذا الكلام أنها المعصية التى أورثت صاحبها ذلا وانكسارا لله تعالي، وندما صادقا على فعلها وخوفا شديدا من عواقبها, وجدا واجتهادا فى تحصيل الطاعات التى تمحو أثرها, فيكون من عائد ذلك كله ان تسوغ صاحبها لدخول الجنة، وإنى واثق أن ستستطيع إرضاء أبويك، وتمد جسور المودة بين زوجتك وابنيك وبينهم، وفقك الله وسدد خطاك.
رابط دائم: