«بورتوريكو صوتت فى استفتاء عام لصالح أن تكون الولاية الأمريكية رقم 51»، للوهلة الاولى يبدو هذا الخبر غريبا ومثيرا للدهشة، فهل يمكن أن تتخلى دولة عن سيادتها بإرادتها وتختار الانضمام لدولة اخرى، وما هى الأسباب التى دفعتها الى ذلك، وهل ستترتب على هذا الاستفتاء نتائج ملزمة للولايات المتحدة تجاه هذه الجزيرة الصغيرة الواقعة فى البحر الكاريبى.
والاجابة على هذه التساؤلات تتطلب اولا العودة لتاريخ الجزيرة الذى يشرح حقيقة الوضع السياسى المبهم لها والذى أدى لمثل هذا المطلب وهو ليس الاول من نوعه، فقد شهدت الجزيرة من قبل اربعة استفتاءات لتحديد مصيرها ومستقبلها. فى محاولة لتحديد شكل العلاقة الممتدة بين الطرفين منذ 120 عاما، بعد أن تحولت من مستعمرة اسبانية الى ارض امريكية عقب الحرب الاسبانية-الامريكية وانتقال السيادة عليها للولايات المتحدة عام 1898، ومنذ ذلك الحين يعتبر سكانها مواطنين امريكيين وان كانوا يتحدثون الاسبانية، ولكنها مع ذلك ليست ولاية امريكية أو تابعة لولاية، رغم انها تحت الادارة الامريكية التى تدير شئون الجزيرة المالية والدفاع والبنية التحتية والتجارة، ومع ذلك لا يسمح لسكان بورتوريكو البالغ عددهم 3٫5 مليون نسمة بالتصويت فى الانتخابات الرئاسية أو انتخاب ممثلين لهم فى الكونجرس، ولا يدفعون الضرائب الفيدرالية ولا يحصلون على تمويل فيدرالى لبرامج مثل الرعاية الصحية، رغم أن الجزيرة منحت فى خمسينات القرن الماضى وضع «الولاية الحرة الشريكة» وهى عبارة ربما تلخص كل تعقيدات العلاقة مع السلطة الامريكية.
هذا الوضع الملتبس بين الاستقلال ووضعية الولاية كاملة الانضمام هو السبب من وجهة نظر البعض فى أزمة الهوية التى تعانيها الجزيرة المعروفة بتعددها العرقى والثقافى، والتى تنعكس غالبا فى الجدل الدائر داخل المجتمع بين دعاة الاستقلال أو الابقاء على الوضع الحالى بكل مشاكله، او بذل المحاولات الحثيثة فى سبيل اقناع الجانب الامريكى بقبولهم، ولكن جدل الهوية والمستقبل ليس هو العنصر الحاسم فى قضية الانضمام من عدمه، فالاهم من ذلك وربما يكون الدافع الرئيسى لطرح هذا الموضوع بين الحين والاخر هو الوضع الاقتصادى المتردى للجزيرة، حيث بلغت ديونها مؤخرا 70 مليار دولار، وهو ما أدى لتراجع حاد فى الانفاق الحكومى واعلان اكبر افلاس للمجالس البلدية، فضلا عن معاناة 45% من سكانها من الفقر وارتفاع معدل البطالة. حيث يرى دعاة الانضمام رسميا للولايات المتحدة، أن ذلك سيسرع من وتيرة تعافى الاقتصاد، بعد أن تتلقى دعما فيدراليا وينضم مواطنوها لبرامج الرعاية الاجتماعية المتاحة للمواطنين الامريكيين، وكلها مبررات ساقتها حكومة بورتوريكو لإقناع المواطنين بموقفها قبل اجراء الاستفتاء. ومع ذلك كان من اللافت أن هذا الاستفتاء شهد نسبة مقاطعة واسعة من قبل المعارضة، حيث بلغت نسبة المشاركة نحو 22% فقط، رغم كل الجهود الحكومية التى بذلت لإتمامه، ورغم ان حاكم الجزيرة «ريكاردو روسيلى» فاز بمنصبه فى يناير الماضى بناء على وعود انتخابية بالدفاع عن رغبة السكان فى أتمام خطوة الانضمام الكامل. ولعل ذلك هو السبب فى حماسه البالغ عقب الاستفتاء، حيث وصف نتيجته بأنها رسالة قوية وواضحة للكونجرس الامريكى وللعالم، مؤكدا أنه سيتقدم على الساحة الدولية للدفاع عن أهمية أن تصبح بورتوريكو اول ولاية ناطقة بالاسبانية فى الولايات المتحدة الامريكة، مؤكدا أنه من الان فصاعدا لن تستطيع الحكومة الامريكية تجاهل اصوات غالبية مواطنى الجزيرة، وأنه سيكون من الامور المتضاربة أن تطالب واشنطن بالديموقراطية فى عدد من مناطق العالم، ولا تستجيب لحق سكان الجزيرة المشروع فى تقرير مصيرهم. وهنا يشير البعض الى أن المقاطعة لم تأت فقط بسبب احتجاج المعارضة على تكلفة الاستفتاء الباهظة التى وصلت الى 8 ملايين دولار انفقت على الحملة وتجهيزات الاستفتاء رغم الاوضاع الاقتصادية السيئة فى الجزيرة، لكن بسبب الشكوك حول الجدوى منه، خاصة انه استفتاء غير ملزم، كما أنه لا توجد مستجدات تفرض على القائمين على الامر فى واشنطن تغير وضع قائم منذ 120 عاما. فضلا عن أن ضعف الاقبال على الاستفتاء ألقى بظلاله على الشرعية السياسية لنتائجه، ومن ثم فإن تصور أن هذه الجزيرة الصغيرة ستتحول تلقائيا لولاية امريكية كاملة الحقوق والواجبات هو تصور خاطئ، حيث سيحتاج الامر الى سجال ونقاش طويل فى الكونجرس ثم موافقة الرئيس ترامب.
وهنا تبدو الحقيقة واضحة، ففى ظل وضع دولى معقد تستحوذ فيه قضايا اخرى مثل مكافحة التطرف والارهاب على اهتمام الجميع، ويعاد فيه ترتيب العلاقات بين الولايات المتحدة وحلفائها التقليديين، فإنه من المنطقى ألا تحتل بورتوريكو موقعا متقدما فى سلم الاولويات الامريكية. والدليل على ذلك أن الادارة الامريكية وكذلك البيت الابيض لم يصدرا أى بيان أو تعقيب على نتائج الاستفتاء. بل أن كثيرا من المحللين لا يتوقعون حماسا من الكونجرس لمناقشة هذه المسألة لأسباب عملية تتعلق بعدم الرغبة فى فرض مزيد من الاعباء على خطط الانفاق الحكومى، التى يرى الجمهوريون اصحاب الأغلبية فى المجلس ضرورة الاسراع فى تخفيضها، خاصة أنه فى انضمامها الكامل ستكون أفقر ولاية، وأكثرها احتياجا لبرامج الاعانة الفيدرالية.
لقد اقر عدد كبير من مواطنى الجزيرة أنهم صوتوا لصالح الانضمام الكامل للولايات المتحدة بسبب الازمة الاقتصادية الحادة التى طغت على اعتبارات اخرى مثل اللغة والثقافة والهوية التى ستفقد حتما اذا حدث واصبحت بورتوريكو الولاية ال51، رغم أن كل الشواهد تؤكد صعوبة حدوث ذلك فى الوقت الحالى، فكل من الكونجرس وترامب بل والنسبة الاكبر من مواطنى بورتوريكو التى قاطعت الاستفتاء لم يظهروا اهتماما كافيا بما حدث، وان كان البعض مازال يرى أن الطريق حتى لو كان طويلا فهو الامل الوحيد أمامهم.
رابط دائم: