شهدت الفترة القليلة الماضية سلسلة من الفعاليات الإعلامية التى حاول الرئيس فلاديمير بوتين من خلالها اختراق «الصمت» الذى طالما حرص الكرملين على ان يكتنف الكثير من جوانب حياة وخصوصيات الرئيس الروسى. وكان المنتدى الاقتصادى فى سان بطرسبورج، واللقاء مع مديرى ابرز وكالات الانباء العالمية، الى جانب الفيلم الوثائقى «بوتين» الذى اعده المخرج الامريكى اوليفر ستون الحائز على الاوسكار، سلسلة فى حلقات «الاختراق» الذى لا تزال اصداؤه تتعالى حتى اليوم.
بلغة ساخرة طالما لجأ اليها فى الملمات، اقْدَم الرئيس الروسى على خوض «مبارزة كلامية» على مرأى ومسمع من كل ضيوف منتدى سان بطرسبورج الاقتصادى السنوي، فى معرض إجاباته على ما قالته ميجين كيللى مذيعة NBC الأمريكية التى ادارت الجلسة العامة الاولى للمنتدى له ولبلاده من «اتهامات»، طالما عكرت صفو اجواء الساحة السياسية العالمية وعلاقات روسيا مع الخارج، وفى مقدمتها ما يقال حول «تدخل روسيا فى الانتخابات الرئاسية الامريكية» الاخيرة.
هذه القضية كانت أثارت الكثير من الجدل فى الساحتين الامريكية والاوروبية، دون ان يدرى من اطلقها ورَوًج لها انه اتهام لا يدين روسيا بقدر ما يدين، بل و«يهين» الولايات المتحدة وأجهزتها «العتيدة». ومن ثم كان رد بوتين على ما أثارته ميجين كيللى من اتهامات حول «العثور على بصمات «اصابع روسيا»، تاكيدا لمثل هذا الاتهام بقوله: «قولى بصمات الحوافر .. بصمات الايائل»...«توقفواااااا ... كفى».
ومضى ليدحض ما يتناثر من تعليقات واتهامات متسلحا بخبرات رجل المخابرات. وكان بوتين أضاف ايضا ان التكنولوجيا العصرية تكفل «فبركة» مصادر المعلومات، وطمس حقيقة مصدرها، فضلا عن تأكيده ان ايه تدخلات من هذا القبيل لم تكن لتؤثر على النتيجة النهائية للانتخابات الامريكية، وهى اتهامات عادت لتلوكها ألسنة الكثير من قيادات البلدان الغربية .
وكان بوتين انتقد ايضا فى حديثه الى مديرى اهم وكالات الانباء الاعلامية، تجسس الولايات المتحدة على اعضاء الناتو الذين وصفهم بـ «التابعين» وليس الحلفاء، مؤكدا ان روسيا لا تتجسس على اصدقائها. وما دام الشىء بالشىء يذكر، فقد عاد بوتين واعلن فى حديثه مع المخرج الامريكى اوليفر ستون الذى اذيع فى 12-15 يونيو فى اربع حلقات فى الولايات المتحدة، وبدأت يوم الاثنين الماضى ( 19 يونيو) موسكو فى اذاعة عدد من حلقاته ، إلا انه لا يتفق مع اسلوب ادوارد سنودن الموظف السابق فى وكالة المخابرات المركزية اللاجئ حاليا الى روسيا، وكان فضح أسرار الوكالة الامريكية بشأن التنصت الإلكترونى الأمريكى على حلفاء واشنطن.
وقال بوتين كذلك، إنه لا يعتبر سنودن خائنا لأنه لم يبع مصالح بلاده، لكنه لا يوافقه على توجهاته ، وكان من الاحرى به الاستقالة.
وفى رده حول اسباب استقالته من «كى جى بي» (جهاز أمن الدولة ابان سنوات الاتحاد السوفيتي) انه ترك موقعه فى صفوف «كى جى بي» احتجاجا على الخطوات التى قام بها، وتحديدا محاولة الانقلاب الفاشلة فى اغسطس 1991، مؤكدا «انه لم يكن يريد البقاء فى صفوف المخابرات فى هذه الفترة».
وكان بوتين سبق وفسر استقالته من «كى جى بي» برغبته فى التفرغ لكتابة رسالة «الكانديدات» (الدكتوراه) فى العلوم الاقتصادية آنذاك.
ولم يكن بوتين ليغفل بعضا مما اتخذه نظيره الامريكى دونالد ترامب من قرارات تؤثر على الاوضاع فى الساحة العالمية ومنها انسحاب الولايات المتحدة من معاهدة باريس حول «الاحتباس الحراري».
لكنه فعل ذلك فى لهجة تتسم بقدر من السخرية غير المباشرة، حين قال تعليقا على ما اجتاح روسيا من عواصف وتقلبات جوية اسفرت عن الكثير من الدمار فى الممتلكات الى جانب الضحايا البشرية ان «ترامب سبب طقسنا السيئ» فى اشارة الى الاعاصير التى ضربت عددا من مناطق روسيا فى مطلع الشهر الحالى.. وفيما انتقد بوتين فى كل لقاءاته النزعة المعادية لروسيا والتى قال انها دفعت بلاده الى البحث عن البدائل لتجاوز العقوبات والحصار المفروض منذ اندلاع الازمة الاوكرانية فى عام 2014 ، اكد الرئيس الروسى ان بلاده تخرج من هذه الازمات اقوى مما كانت عليه بنسبة نمو تزيد عن 3% فى القطاع الزراعي. واعرب عن امله فى ان «يفيق» العالم ليدرك ان «المواقف المضادة لروسيا غير بناءة وتلحق ضررا حتى بمن ينتهجها» .
وكان بوتين توقف طويلا عند إصرار روسيا على عدم تجاهل توسع البنية العسكرية للناتو على مقربة من حدودها. وقال ما نصه : «فى ألاسكا، والآن فى كوريا الجنوبية تُنصب درع صاروخية. فهل علينا النظر ببساطة إلى هذا من دون مبالاة؟ طبعا لا. ونحن نفكر فى كيفية الرد على هذه التهديدات».
وأضاف أن «ما يتعلق بالمخاوف من الروس بدأ يطفح فى بعض البلدان، بل ويفيض فى بلدان أخرى حتى الحواف. فبم يرتبط هذا؟». واجاب على تساؤله بقوله « انه يعتقد فى ارتباط ذلك بتوطد العالم متعدد الأقطاب. وهذا لا يعجب المحتكرين». ونذكر ان بوتين كان اول من ناهض عالم القطب الواحد فى خطابه «العاصف» فى مؤتمر الامن الاوروبى فى ميونيخ فى فبراير 2007 حين طالب بالكف عن ممارسات هيمنة القطب الواحد ومحاولات احتكار القرار الدولي، والتحول نحو بناء عالم متعدد الاقطاب.
ويحضرنا من هذا الحديث ما قاله بوتين حول اعتزازه ببلاده وتاريخ نضالها ومكانتها الثقافية على خريطة الحضارة العالمية، وتقديره لرئيس وزراء الهند مودى الذى استهل فترة وجوده فى سان بطرسبورج بزيارة «مقابر بيسكاريوفسكايا» التى تضم رفات ما يزيد على اربعمائة الف من سكان لينينجراد، منهم شقيقه الاكبر، ممن فقدوا حياتهم ابان حصار القوات الهتلرية ابان سنوات الحرب العالمية الثانية. ونتحول الى الحديث التليفزيونى الذى ادلى به الرئيس بوتين الى المخرج الامريكى الحائز على الاوسكار.
فى هذا الحديث كشف بوتين عن الكثير من اسرار الماضى، ومنها انه سبق واقترح على الرئيس الأمريكى الأسبق بيل كلينتون حين التقاه فى يونيو 2000، دراسة إمكانية انضمام روسيا إلى حلف الناتو » وقال بوتين ان الرئيس كلينتون اجاب :« ولم لا؟ انا لست ضد ذلك»، وهو ما اثار دهشة وقلق اعضاء الوفد المرافق للرئيس الامريكى الاسبق. وانتقد بوتين حلف الناتو الذى وصفه بانه «آلية طيعة» فى يد الولايات المتحدة ، تتحكم من خلالها فى البلدان اعضاء الحلف ممن وصفهم بالتابعين وليس الحلفاء.
اما عما يتعلق بأمنه، وما قيل حول انه تعرض لما يزيد عن خمس محاولات استهدفت اغتياله، كشف بوتين فى حديثه الى المخرج الامريكى الشهير، عن انه حرص على اتباع نصيحة الرئيس الراحل فيديل كاسترو الذى كان تعرض لما يزيد على المائة محاولة لاغتياله. قال ان هذه المحاولات لم تكلل بالنجاح، لانه اى كاسترو عمل شخصيا على ضمان أمنه.
ومضى الرئيس الروسى ليكشف عن انه يعتقد «ان من يخطط لاغتيال زعيم دولة يحاول فى كثير من الأحيان الاندساس فى صفوف حراس ضحيته»، وهو ما يعنى ضمنا احتمالات «تورط» حراسه فى مثل هذه المحاولات الفاشلة.
ويبقى ان نقول ان بوتين لم يكتف بكل هذه الاحاديث التى خاطب من خلالها العالم الخارجى بالدرجة الاولي، حيث عاد والتقى مع شعبه فى حواره التليفزيونى السنوى التقليدى المباشر مع الامة والذى اجاب فيه عن كل ما يعرضه مواطنوه من اسئلة .. فى صبر واناة، كانت مقدمة لكثير من الحلول الفورية لعدد من المشكلات المزمنة التى استمرت لعقود طوال .
رابط دائم: