لم أكن أعرف أن االفنان والشاعر الراحل صلاح جاهين كتب عددا من الأغانى على مدى عشر سنوات للمطربة العالمية داليدا ، فقد فاجأنا الشاعر بهاء جاهين بمقال بمجلة داليدا تحدث فيه عن غنائها لصلاح جاهين وفى منتصف الصفحة رسم لسامح الكاشف يعبر عن العلاقة الانسانية التى ربطت الشاعر ورسام الكاريكاتور بالمطربة العالمية .
أول أغنية كتبها جاهين لداليدا كانت « سالمة يا سالامة « فى منتصف السبعينات ويقول مطلعها :
فى الدنيا الكبيرة وبلادها الكتيرة
لفيت لفيت ولما نادانى حبى الأولانى
سبت كله وجييت وفى حضنه إترميت
وغنيت
سالمة يا سلامة
ويفتح بهاء جاهين صندوق والده الأسود ويعرض علينا أغنية بعنوان « جميل الصورة « يقول مذهبها:
جدع إنت . يا جميل الصورة
يامزقطط زى العصفورة
قرب جنبى وإسمع قلبى
حيقولك باحبك
.................................................
ويشير بهاء فى هذا المقال الى موسيقى شهير إسمه جيف بارنيل شكل مع داليدا ثنائيا فنيا إنضم له صلاح جاهين فى أغانيها التى غنتها بالعامية المصرية فصاروا ثلاثيا رائعا ، تبين أنه مصرى قبطى إسمه الأصلى جورج برنابة وقد هاجر من مصر وأقام فى باريس فى نفس الفترة التى التى تركت فيها داليدا مصر وشكلا معا ثنائيا فنيا حقق نجاحا مدويا فى عاصمة النور والجمال .
لكن جيف بارنيل أو جورج برنابة لم يكن دائما الطرف الموسيقى الدائم فى معادلة الأغانى التى كتبها جاهين لداليدا ، فالأغنية الأخيرة من كلمات جاهين لحنها لداليدا الفنان المصرى سمير حبيب الذى كون فى السبعينات أول فرقة غنائية مصرية شهيرة أطلق عليها فرقة « الجيتس « ولحن لداليدا وصلاح جاهين فى مطلع الثمانينات أغنية أحسن ناس وتقول كلماتها :
أدينا بندردش ... ورانا إيه ؟
بنحكى ونفرفش ... ورانا إيه ؟
ومنين يابلدينا وبلدكم إيه ؟
أحسن ناس
وفى نهاية الأغنية تقول داليدا مشيرة الى نفسها ومسقط رأسها :
أما أنا ... أنا من شبرا
فى مصر وولادها الطعمين
زى القمر بعيون سمرا
لابسين عقود فل وياسمين
والنيل بيضحك ويغنى
فاكرنى وبيسأل عنى
أروح له ألقاه مستنى
وجنب منه ... أحسن ناس
لقد كانت الفنانة المصرية الفرنسية الراحلة بالفعل كما وصفها العنوان : سيدة الجمال المكتوب بمفاتيح وأوتارالموسيقى الذهبية .
عرضت المجلة مجموعة من كبار المطربين من ذوى الأصول المصرية من الذين أثروا الموسيقى العالمية التى حطمت كل الحدود وأسقطت كل الجدران فاستمع اليها أبناء كل قارات العالم وتغنوا بها .
ديميس روسوس
عرض الناقد الفنى مصطفى طاهر جانبا من حياة المطرب العالمى الشهير ديميس روسوس إبن الاسكنرية التى كانت فى تلك الأيام عروس البحر المتوسط وكما وصفه المقال « الأيقونة الخالدة فى الذاكرة السمعية للعام « . ولد أرتيميوس فنتوريوس روسوس الذى إشتهر بديميس روسوس فى الاسكندرية فى 15 يونيو 1946 وكانت عروس المتوسط فى ذلك الوقت ملاذا آمنا لخليط كبير من حضارات وثقافات متعددة قدمت من مختلف أنحاء العالم ودرس الموسيقى فى طفولته وظل خمس سنوات عازفا ومطربا فى كورال الكنيسة الأرثوذوكسية اليونانية ولعبت المدينة الكوزموبوليتانية الساحرة التى تحتضن ثقافات مختلفة وألوان متعددة دورا أساسيا فى تشكيل الحالة الفنية للفتى الصغير .
عاش ديميس حياة أبناء الشرائح العليا من الطبقة الوسطى ولعل عددا من القراء ممن عاصروا الستينات يتذكر قطع الحلوى المغلفة بالورق الملون الذى يحمل اسم روسوس فقد كان والده يمتلك مصنعا كبيرا يحمل اسم الأسرة كما كان عمه لديه مصنع آخر للحلوى أطلق عليه إسمه « نادلر « .
لكن الأزمة الاقتصادية التى مرت بها مصر بعد عام 1967 دفعت باستثمارات متعددة فى طريق الافلاس مما إضطر أسرة الموسيقى الشاب الى العودة الى أثينا ليبدأ الفنان الشاب مرحلة جديدة ويحقق أكبر نجاح حققه مطرب عالمى فقد تجاوزت مبيعات ألبوماته ستين ألف نسخة فى أكثر من مائة دولة حول العالم .
عاد عاشق مصر الى أرض الميلاد فى نهاية السبعينات وقام بعدة زيارات لوطنه الأول وكان قد أصبح نجما عالميا، وكانت أول زيارة له بدعوة من الرئيس الراحل أنور السادات الذى حرص بعد نصر أكتوبر وبداية مفاوضات السلام على استغلال النجوم العالميين أبناء مصر والشرق الأوسط مثل داليدا وروسوس وخوليو أجلاسيوس والمطرب الجزائرى الفرنسى أنريكو ماسياس المولود فى الجزائر من أبوين فرنسيين وقد شاهدته يبكى على مسرح الألومبيا فى باريس وهو يرتجل أغنية « سقط الراعى من أجل السلام « .
حصل روسوس من الحكومة الفرنسية على وسام « دوقة الشرف « وهو من أرفع الأوسمة التى تقدم لقادة الدول وكبار الأدباء والفنانين وقلده له السفير الفرنسى فى أثينا فى سبتمبر 2013 وقد رحل عن العالم فى 25 يناير 2015 وعمره 69 عاما فى إحد مستشفيات أثينا .
من بين الفنانين من أبناء مصر الذين أبهروا الدنيا فى الغربة كلود فرانسوا إبن الاسماعيلية قال عنه هشام طه كان والده الفرنسى يعمل مديرا بشركة قناة السويس قبل التأميم وقد ولد فى أول فبراير عام 1939 وعاش مع أسرته فى بورتوفيق حياة الرفاهية حتى إضطرت الأسرة الى الرحيل عام 1967 وإختارت إمارة موناكو للاقامة بها وكان عمره فى ذلك الوقت 17 عاما . كانت والدة كلود إيطالية عاشقة للموسيقى فحرصت على تعليم الابن دروسا فى الكمان والبيانو لكنه كان يعشق الضرب على الطبلة التى أجادها الى جانب الغناء .
المجلة زاخرة بالفنانين المصريين العالميين الذين حققوا نجاحات باهرة بأصواتهم وموسيقاهم التى أسعدت الملايين ،لكن المساحة لاتسمح بالكتابة عنهم ومن بين هؤلاء جورج موستاكى إبن الاسكنرية أيضا التىولد بها عام 1934 وقد كتبت عنه فاطمة الحصى مقالا تناولت فيه عشقه لمصر ومحبته لمدينة الاسكندرية ،وأتذكر أنه فى خلال عملى مراسلا فى كندا كان جورج موستاكى يحرص على إحياء معظ حفلات « جمعية أقباط الصعيد» التى تكونت من آلاف المهاجرين فى مونتريال وكانت فى الثمانينات والتسعينات من القرن الماضى تقوم بعدة نشاطات ثقافية وتعد معرضا سنويا لمنتجات أبنائها فى الصعيد وتقيم حفلا سنويا يحييه المطرب جورج موستاكى وكان دخل هذه الحفلات والمعارض يرسل الى مصر للانفاق على مدارس الجمعية فى الصعيد والتى وصل عددها 45 مدرسة أكثر من %50 من تلاميذها من الأطفال المسلمين الفقراء.
كريم شكرى
تناولت المجلة أيضا حياة عاشق مصر كريم شكرى الذى جمعتنى به علاقة صداقة عميقة فقد كان اسمه جان زلعوم وقد كتب عنه مقالين أحدهما لنسرين عيسى المصرية المهاجرة فى كيبيك ثم مقالا من مصرللكاتبة مروة سلام الصحفية بوكالة رويترز لكننى سوف أكتب عن تجربتى الشخصية مع كريم شكرى التى لا يعرفها أحد، وكنت ألتقى به فى القاهرة فى مطبعة الأهرام بالمبنى القديم فى باب اللوق فى أواخر الستينات وتعارفنا وتوطدت بيننا علاقة صداقة . كان كريم شكرى سكرتيرا لتحرير جريدة وطنى وكنت فى بداية عملى بالصحافة أعمل سكريرا للتحرير بالأهرام . وكان كريم شكرى يحضر فى مساء كل خميس لمراجعة صفحات وطنى قبل طبع الجريدة الأسبوعية بمطابع الأهرام . كان كريم شكرى يعمل أيضا مديرا لشركة « مترو جولدن ماير « الأمريكية للانتاج السينمئى فى القاهرة وزرته فى مكتبه أكثر من مرة فى الدور الأول بسينما مترو . وكان يعزف ويغنى على بعض مسارح القاهرة وأول من قدم أغانى الفرانكو آراب وإشتهر بالأغنية التى حققت نجاحا كبيرا والتى كان يلقيها على الجماهير ونبضات قلبه تشتعل بحب مصر وهى « عد بى الى القاهرة «
Take me back to Cairo
عندما استمع للأغنية وزير السياحة فى ذلك الوقت المرحوم ثروت عكاشة طلب من كريم شكرى أن يصورها بالفيديو بين أهرامات الجيزة وأبوالهول وأن يرسل الشريط الى جميع مكاتبنا السياحية فى الخارج للدعاية للسياحة المصرية فى الخارج .
تزوج كريم شكرى من فتاة إيطالية مصرية وكان يقيم بمصر الجديدة وكان عضوا مع أسرته بنادى هوليوليدو الرياضى وقد تعرف هناك على الرئيس السابق حسنى مبارك وأسرة ثابت التى تنتمى اليها زوجته سوزان وقد أطلعنى فى مونتريال على صورة لشقيقته زميلة سوزان بمدرسة سانكلير وكانا فى رقصة جماعية بمناسبة حفل إنتهاء العام الدراسى .
كريم شكرى – الذى هو من أب سورى ينتمى الى كنيسة الكاثوليك - هاجر والده فى أوائل القرن الى مصر وتزوج مسيحية مصرية ، وادى كريم الخدمة العسكرية فى أول الستينات وكان كما قال لى يعيش حياة هادئة وسعيدة ولكن بعد عام 1967 أغلقت مترو جولدن ماير مكتبها فى القاهرة واضطر الى الهجرة الى كندا واتخذ مع زوجته من مونتريال مقرا لإقامتهما وافتتح لنفسه مكتبا للانتاج السينمائى وأنتج ستة أفلام كندية واستأجر دارا للسينما لعرض الأفلام المصرية للجاليتين المصرية والعربية لكنه أضطر الى إغلاقه بعد ثلاث سنوات بعد الضغوط التى تعرض لها من الجالية اليهودية بالمدينة . كنت ألتقى مع كريم ومجموعة من المثقفين من أبناء الجالية المصرية فى مونتريال مساء كل أربعاء على العشاء طوال التسعينات وأزعجه أن يغنى المطرب سمير الاسكندرانى أغنية « عد بى الى القاهرة « ويدعى أنها من تأليفه وألحانه، مما اضطر كريم أن يلجأ الى القضاء ليثبت حقه فى ملكية الأغنية ، وكتبت وقتها فى الأهرام شهادتى بحق ملكية كريم للأغنية التى هى من كلماته وألحانه ،مما وضعنى فى حرج شديد مع سمير الذى كان زميلى فى نفس الفصل الدراسى بمدرسة قصرالدوبارة الثانوية .
حب كريم للسينما ولوطنه الأول دفعه لانتاج فيلم عن الزعيم الراحل جمال عبدالناصر لصحفى أمريكى شهير وجاء الى القاهرة والتقى بالأستاذ محمد حسنين هيكل ليكتب السيناريو وحاول أن تساهم وزارة الثقافة فى تمويل الفيلم لكنه لم يجد أى قدر من الحماسة من المسئولين بالوزارة .
كانت آخر زيارة لمصر قام بها كريم فى آخر التسعينات لانتاج فيلما عن سرقة الآثار المصرية كتبه مع زوجة ابنه المخرج السينمائى فى أمريكا، واتصل بصديقه عمر الشريف وعرض عليه القيام بدور البطولة فى الفيلم ثم تحدث مع الفنانة لبنى عبدالعزيز التى كانت قد عادت الى القاهرة وقد وافق الاثنان على القيام بتمثيل الفيلم .
فى عام 2012 كنت أجلس معه ومجموعة الأصدقاء المصريين فى لقائنا الأسبوعى على العشاء مساء كل أربعاء بأحد مطاعم مونتريال عندما جاءته مكالمة تليفونية من القاهرة . كان المتحدث على الطرف الآخرإبنه آلان الذى كان يزور القاهرة لأول مرة فى رحلة سياحية .سمعت الابن يتحث بأعلى صوته ويقول لوالده : كيف تترك هذه البلد الرائعة ذات الطبيعة الساحرة التى يدفئك شمسها طوال العام بينما تغمرنا الثلوج ستة أشهر فى السنة فى كندا ... إن مصر أجمل بلاد العالم . إنتهت المكالمة التليفونية لينخرط كريم فى البكاء وكأنه يفول للابن : عد بى الى القاهرة بعد عام واحد فقط ... فى مايو عام 2012 ذهبت للقاء الأصدقاء المصريين كعادتى مساء كل أربعاء وكان كريم قد وعدنى باحضار نسخة من فيلم سرقة الآثار المصرية ، لكن كريم أخل بوعده للمرة الأولى منذ تعارفنا . جلس الجميع ينتظرون كريم الذى كان أكثر الجميع التزاما بالحضور ، واتصل واحد من الأصدقاء بمنزل لترد زوجته : كريم مات منذ ساعة على أثر أزمة قلبية مفاجئة ، مات كريم فى مونتريال ولم تنفذ وصيته ويجد من يعود به إلى القاهرة .
كلمة أخيرة
ليست هذه السطور عن الفنانين ديميس روسيس وكريم شكري والفنانة المطربة العالمية داليدا التى أطلق عليها الزميل الفنان سامح الكاشف ـ فى المجلة التى تحمل اسمها وجمالها ـ» زهر البنفسج « ابنة شبرا التى بلغت القمة لكنها لم تنس أصولها فى مصر ، خصص ملحق الجمعة منذ أسابيع مساحة كبيرة لمقال جامع عن داليدا بقلم الكاتبة الصحفية سهير حلمى منعت بهذا المقال أى كاتب أن يقترب من الفنانة الكبيرة منعا للاحراج . فسهير حلمى تشتهر بأسلوبها العذب الذى يجمع بين الأدب وفن الكتابة الصحفية الراقى مع تحليلها لشخصية الفنانة الكبيرة ومتابعة لحياتها منذ مولدها فى حى شبرا وحتى رحيلها ولكن هذه السطور للاحتفاء ببعض النجوم الذين احتضنتهم مصر من أصحاب المواهب من كل العالم.
رابط دائم: