بكلتا يديه طاويا إبهاميه لوح لجماهيره الغفيرة ، هذا هو شعاره ومنهجه ، أنها علامة «رابعة» وهى ليست تلك التي يستخدمها أقرانه من الأخوان المسلمين ، أنما هى إشارة محلية محضة تلخص أركان ما يسعي لتكريسه من قومية استعلائية بشوفينيتها الأبدية : اللغة الواحدة ومعها العلم والأمة التركية والارض دون تجزية أو شريك ،وهى الشعارات التى سبق وتحفظ عليها فى مرحلة صعوده من أجل الأخوة .
لكنه اكتشف أن مسعاه للمصالحه سيكلفه سلطته التى يريدها مطلقة ، فانتهز الفرصة فى أول منعطف ليعود بالصراع مع أكراد بلاده إلى المربع الأول وهو الذى كاد أن يقترب من تحقيق السلام وليحفر لنفسه مكانا خالدا وعظيما فى التاريخ ولكن هيهات.
كان هذا عقب وصوله قبل أيام من رحلته القصيرة للولايات المتحدة الامريكية ، ولأنه جاء منها خال الوفاض بمن كان يعتقد جازما أنه سيظفر به من نظيره دونالد ترامب بدءا من تحجيم تحركات عدوه اللدود الداعية الديني فتح الله جولين حيث يقيم فى ولاية بنسلفانيا تمهيدا لتسليمه لبلاده ، وإنتهاء وقف دعم قوات سوريا الديمقراطية بالأسلحة ، ولا هذا أو ذاك تحققا ، زاد على ذلك بعض الصور السيئة التى شاهدها بنفسه ، ولطخت سمعة حكومته ( وهذا ليس بجديد ) ، وتمثلت في لقطات فيديو لمشاجرة دامية قادها أمن سفارته ورجال حمايته في واشنطن ، مستهدفين مناوئين لحكمه رغم أنهم تظاهروا بصورة سلمية ، وبفضل الهواتف الذكية كان العالم على موعد ليراها على الهواء مباشرة.
ولم يكن هناك من مفر بتذكير انصاره بقوتهم ومجد أمتهم وتراثهم التليد ، ولشحذ همم عاود الهجوم على الاتحاد الأوروبى متهما إياه بالنفاق ومتوعدا بجملة تهديدات أهمها أن أنقرة ستتجه إلى طريق آخر وإمعانا فى عمل كل ما هو معاكس لما يطلبه بضرورة احترام الحريات ، أصدرت السلطات القضائية ، مذكرات اعتقال طالت قائمين بارزين على صحيفة « سوزجو « المعارضة ، تمهيدا لمحاكمتهم ثم سجنهم ، ليلحقوا بأقرانهم العاملين بزميلتهم الشهيرة « جمهوريت « والتهمه نفسها الانتماء والترويج لمنظمة جولين.
والحقيقة التى عجلت بتلك الخطوة هو أن الصحيفة ، أنبرت عن غيرها ، ونقلت تصريحات السيناتور جون ماكين عضو مجلس الشيوخ الأمريكى وفيها دعا إلى طرد «سردار كلج» السفير التركى لوقوفه لجانب حراس الرئيس رجب طيب أردوغان عقب الاشتباكات التى اندلعت امام مقر السفارة ، وأيضا لانه تصرف مع قوات الشرطة الأمريكية بطريقة تتعارض تماما مع الأعراف الدبلوماسية ولا يمكن لدبلوماسى بدرجة سفير أن يتصرف بهذا الأسلوب . وعبثا حاول الإعلام الموالي لأردوغان إلقاء اللائمة على المتظاهرين الانفصاليين التابعين لحزب العمال الكردستانى وأنهم هم الذين استفزوا مؤيدى الرئيس ولكن دون جدوي ، فالصور كانت دامغة لا تحتمل أدنى شك. ومع هذا فأردوغان بدأ طريقا وعليه أن يواصل السير فيه حتى النهاية ، غير عابئ بما يضمره له أهل الفرنجة وليتكلم إعلامهم كيفما شاء ، فلا عدول أبدا عن خططه ورؤاه التى هى « أمثولات « لا تقبل النقد أو النقاش ، فخلال افتتاحه لجامعة تحمل اسم « بن خدلون « حرص HYPERLINK «javascript:void(0);»أردوغان على التأكيد بأنه لا يحارب الإرهاب فقط وإنما» أولئك الذين يقدمون له الدعم الفكرى واللفظى « وهؤلاء لا مكان لهم داخل الجامعات والمقصود هنا هم الذين يصفون أنفسهم بالاكاديميين، كان هذا بالنسبة للداخل.
أما الخارج فقد شدد أردوغان فى كلمته أنه « لا يمكن لأى دولة أن تعتبر الترويج للمنظمات الإرهابية حرية تعبير ، فى إشارة إلى بعض البلدان الفاعلة بالقارة العجوز خصوصا ألمانيا التى تحتضن قيادات كردية وموالين للعقل المدبر لإنقلاب منتصف يوليو الماضى، وجاء العقاب بعدم السماح لوفد من برلين لزيارة قاعدة إنجرليك الجوية لتفقد أحوال ما يزيد على 260 جندى ألمانيا يعملون ضمن قوات التحالف الدولى ضد داعش والسبب الذى أعلنته أنقرة صراحة هو قيام السلطات الألمانية منح اللجوء السياسى لجنود وضباط أتراك شاركوا فى محاولة الانقلاب، وبخصوص تهديد الألمان أنهم سيسحبون قواتهم ويبحثون عن قواعد بديلة فليذهبوا، فتركيا لن تتوسل كى يبقوا، هذا ما قاله وزير الخارجية مولود تشاويش أوغلو. وهكذا لا يبدو أن تركيا فى ظل أردوغان سوف تغير نهجها وهو ما تجسد يوم الأحد فى عودة الأخير للحزب الذى أسسه والبدء في حملته المستميتة لبقائه فى السلطة استعدادا للانتخابات التى ستجرى بعد عامين وهو ما يعطي إيحاء بأن نتائجها باتت معروفة سلفا. المفارقة أن كثيرين اعتقدوا أن الحكومة بصدد فتح صفحة جديدة فيها تعيد حساباتها مع معارضيها، وذلك على ضوء تقارب عدد من قالوا «لا» للتعديلات الدستورية مع من قالوا «نعم» في الاستفتاء المثير للجدل الذى جرت وقائعه فى إبريل الفائت، وهو ما حرص على تأكيده رئيس الوزراء بن على يلدريم، لكن الشواهد تقول النقيض تماما ، فآلة الاعتقالات تتسارع تروسها من أجل القبض على متواطئين فى المحاولة الانقلابية الفاشلة، و 159 صحفيا يقبعون خلف القضبان بتهم وذرائع وهمية والرقم مرشح للزيادة وليس هناك فى الافق ما يشير إلى فك أغلالهم قريبا ، إضافة إلى فرار 153 آخرين خارج البلاد هربا من الملاحقات الأمنية نتيجة لقرارات صادرة بحقهم من المحاكم، وليصبح الأناضول الأول على مستوى المعمورة في سجن واعتقال ومطاردة الصحفيين، وعلى مستوى أوروبا فلا وجود لبلد واحد فيها يشهد ما تشهده تركيا من انتهاكات شبه يومية ضد معارضى الرئيس .
والمثير فى الأمر أنه كان يقال حتى وقت قريب أنه لا مكان لتركيا فى أوروبا، غير أن الصحيح هو أنه لم يعد للثانية أى مساحة فى الأولى، التى أصبحت تنتمى إلى الشرق المعقد بعدما أصبح البون بينهما ليس شاسعا فحسب بل سحيقا.
رابط دائم: