يفاجئنا خالد عميرة في روايته الجديدة (بورفيريا الروح) الصادرة عن دار روزنامة بمنطقة جديدة تدور فيها أحداث الرواية , حيث عالم المرض الغريب والمعقد .. بورفيريا .. ذلك المرض الذي يتماس أو تتشابه أعراضه مع التشوهات الشكلية المرتبطة أسطوريا وسينمائيا بمصاصي الدماء ,
كما يفاجئنا بتلك القدرة المذهلة على الإلمام بكل التفاصيل والدقائق الموجعة التي لا يخففها إلا تلك الجرعات الإنسانية التي تتبدى من بعض البشر (الحقيقيين) مثل ليلى , زوجة الأب , التي تحب شريف بطل الرواية حبا غير عادي أو معتاد بكل المقاييس.
........................................................
تقع (بورفيريا الروح) في 178صفحة من القطع الصغير , وهي ثاني عمل لعميرة بعد مجموعته القصصية (ربما) , لكنها تؤكد ما يمتلكه الكاتب من نفس روائي مميز , وقدرة على البناء المحكم , حيث قسم الكاتب عمله إلى 7 فصول , يحمل عنوان كل منها اسم أحد الأبطال , وكل بطل يروي الحكاية .. حكايته وحكاية الآخرين من وجهة نظره .. ثم يسلم خيط الحكي للبطل الذي يليه , ليبدأ الحكي من حيث انتهى سابقه , ليتم كل ذلك التقسيم والانتقال بين الرواة بسلاسة ونعومة آسرة.
فمن خلال السرد الإنساني الرقيق يأخذنا الكاتب في رحلة مع (شريف) الشاب المريض بمرض البورفيريا , لنكتشف أنه ليس المريض الوحيد بهذا المرض الغريب, بل هو أكثر الشخصيات نبلا رغم التشوهات الظاهرية , فالجميع مرضى بتشوهات من نوع مختلف , تشوهات تسكن أرواحهم وإن بدت أجسادهم في غاية الصحة.
فالأب (قدري) يريد أن يتحدى القدر , ويحضر لابنه أما جديدة بعد وفاة والدته , ويفرض عليها شرطا مجحفا بعدم الإنجاب حتى تظل أما حقيقية أو (بديلة) لابنه الوحيد , وتوافق هذه السيدة (ليلى) على أمل أن يتنازل الأب عن شرطه مع الأيام , ومع حسن عشرتها له ولابنه , وبالفعل تعيش مخلصة لشريف مثل أمه الحقيقية تماما , لكننا نكتشف , وتكتشف هي معنا, أنها مصابة بالعقم , وأنها لم تكن تحب شريف عن فرط إنسانية منها فقط , ولكن لأنه منحها في المقابل إحساس الأمومة الذي حرمها القدر منه.
أما الدكتورة (نهى) فبعد أن فشل حلمها في الترقي العلمي بأمريكا , وأجبرت على العودة إلى مصر, نكتشف أنها تحولت ضحية لطبيب أمريكي كبير يستخدمها لتقوم باستغلال أبناء وطنها كفئران تجارب لعلاجات لم تثبت فعاليتها بعد , حيث تجد ضالتها في شريف ومرضه النادر , فتحس أنها وقعت على الكنز الذي كانت تبحث عنه , ليعود إليها الأمل مجددا .. أمل العودة لأرض الأحلام دون النظر إلى معاناة شريف , خاصة بعد أن أبدى أستاذها الكبير على الضفة الأخرى من المحيط اهتماما ملحوظا بالحالة.
كما نتعرف خلال رحلة العلاج على (منير) الأستاذ الجامعي, شقيق الدكتورة , ونكتشف جانبا آخر من تشوهات الروح بعد أن فشلت حياته الزوجية مع امرأة حولته تدريجيا – بحسب الرواية- إلى (ماكينة لضخ الأموال والحيوانات المنوية) بينما تنعزل عنه متابعة بشغف برامج تفسير الأحلام رغم تخرجها في قسم المسرح بكلية الآداب.
أما آخر الشخصيات المحورية فهو (كامل الإسناوي) حارس الفيلا التي يعالج بها شريف , وهو رجل صعيدي هارب من ثأر له , بعد أن قتل أحد الكبار المسنودين ولديه , وهي حالة نادرة أن يهرب والد القتيل وليس القاتل , ربما يصعب حدوثها في الصعيد , لكن الكاتب يريد أن يكشف لنا حجم العجز والقهر الذي ينعكس في تشوهات يحياها أبطال العمل جميعا.
وينهي خالد عميرة روايته بالأستاذ قدري والد شريف وزوجته ليلى , وهما يبتعدان بابنهما المريض دون أن يستمعا لنصيحة الدكتورة نهى :
(يا جماعة حرام عليكم .. الشمس خطر على شريف) لترد زوجة الأب باقتضاب: (- الشمس غابت خلاص يا دكتورة .. خلاص نمضي ثلاثتنا .. لا يلتفت إليها منا أحد)
وبهذه الجملة الدالة بما يحمله غياب الشمس من معان رمزية لتغييب العقل والعلم والمعرفة التي تجاهلتها الطبيبة المتعلمة بالخارج , أو ما يرمز إليه غروبها من اقتراب شريف من نهايته المحتومة , ينهي خالد عميرة روايته بعد رحلة ممتعة مع لغته الرقيقة الانسيابية التي تهمس إلى الروح والعقل متجاوزة في صياغة رهيفة وموحية للحظات الألم والمعاناة داخل الرواية.
رابط دائم: