أقود سيارتى منذ ساعتين فى دوائر متشابكة محاولة الوصول إلى البيت، انهارت أحلام عيشة الضواحى وحدائقها المشذبة وشوارعها الواسعة الهادئة التى لا يبدد سكينتها إلا صكيك دوران عجل دراجات الأولاد على الأسفلت فى محاولاتهم الأولى للتدرب على ركوبها. تململ الأولاد فى السيارة.
سألونى عدة مرات إن كان التكييف يعمل فرددت بالإيجاب. طلب كبيرهم أن أرفع درجة التبريد فرفضت، الجو حار ولن يسفر رفع الدرجة إلا عن إجهاد لموتور السيارة! تذمروا فحدجتهم بنظرة صارمة عبر المرآة أمامى فصمتوا متضجرين.
ليتنى لم أنتقل إلى ذلك الحى الجديد. مشوار الصيدلية لم يكن يستغرق كل هذا الوقت فى العودة إلى بيتى القديم. لم نستطع أن نفى بمصروفات مدرسة اللغات إلى جانب أتوبيس المدرسة فأصبح ضمن أعبائى بعد الانتهاء من عملى فى مصنع الأدوية أن ألتقط الأولاد من المدرسة وشراء مستلزمات البيت وربما التوقف فى ‘محطة’ النادى الاجتماعى ساعة أو ساعتين أو ربما ثلاثا (!!) من التعذيب المقنن باسم تدريب التايكوندو يليه تدريب كرة القدم ثم السباحة التوقيعية!!
لا جدوى من التمرد.. وماذا يفعل إن كان عمله ينتهى مع غروب الشمس وربما بعد ذلك.. حسب التساهيل؟! يطلب منى الأولاد أن أدير الراديو فأرفض فى البداية لكن تحت ضغط إلحاحهم أستجيب. نختلف على المؤشر، لا أفهم الأغانى التى يرددونها، ولا أحبها!! أتمنى لو أسمع أغنية لعلى الحجار أو محمد منير أو حتى عمرو دياب! لا أستطيع أن أتذكر أسماء المطربين المفضلين لديهم. يسخرون منى ويضحكون باستمتاع. تمرق السيارات فى ذلك الطريق السريع إلى جانب سيارتى أسرابا بأحجام مختلفة تمضى فى طريقها نحو فريسة ما تنتظرهم فى نهايته.
كل الطرق متشابهة!! لم أحفظ الطريق حتى بعد سنوات من الانتقال!! يشكونى زوجى لوالدته، يقول لها ضاحكا «أخشى أن تطلبنى يوما من محافظة أخرى لأنها ضلت الطريق إلى البيت»!! فى زيارات أصدقائه للتهنئة بالبيت الجديد يحكى لهم ردا على شكواهم من صعوبة الوصول إليه أننى أعرف اقترابى من ‘الكومباوند’ عندما يلوح لى إعلان المنتجع الشهير. يسأله أحد أصدقائه فى اهتمام جاد: «وماذا لوغيرت الشركة إعلانها؟» يرتعد جسمى للسؤال فيما يعلو ضحكهم!!
مررنا بعلامة أخرى مميزة للطريق.. محطة الصيانة.. لولاها لضللت طريقى كل يوم!! شبكة من الطرق نسجها عنكبوت شرير ليس كعنكبوت أغنية طفولتى. لم أحب هذه الأغنية، لا يوجد عنكبوت طيب. كان يغنيها لى كلما بكيت ويشكل بأصابع يديه حركات العنكبوت الصغير صعودا مع الشمس وهبوطا مع المطر!!
لماذا تذكرته؟ هل بسبب إعلان المنتجع؟ أم الشبكة العنكبوتية؟! لا يصدق زوجى أننا كان لنا ڤيللا فى حى مثله تماما فى الماضى؟ وبحديقة وبحمام سباحة أكبر من بيتنا الجديد؟!! وفى قلب العاصمة؟ مصر الجديدة تحديدا؟! وليس فى صحراء متطرفة تتطفل على المدينة وتتحرش بها فى اقترابها الزائد منها رويدا؟! ولم لا؟! كان أطفال العائلة يجتمعون فى المناسبات للهو فى حمام السباحة حتى المساء، يتظاهرون بالشجاعة ويتبارون فى القفز أمامه. ينفخ لنا البالونات الملونة ويملأ بها الحمام، ثم يقفز ويقفزون خلفه!!
كنت سأتذكر له مواعيد دوائه وأذكره بها، وأضع له نظاما غذائيا محكما، وبحكم عملى إذا شح دواء منها فى السوق مثلما يحدث مع صديقاتى سأجده له من تحت «طقاطيق» الأرض!! لا أعرف ما الأدوية التى يتناولها الآن؟ غالبا الضغط والسكرى؟! وما يستجد مع عامل السن؟ لم يكن يعبأ فى الماضى بالالتزام بتناول الدواء. كنت أبكى فى سريرى كل ليلة خوفا عليه أن ينسى تناول الدواء!! كنت أظنه سيموت ويتركنى وحيدة. لكنه تركنى رغم ذلك!!
لم يزرنى سوى مرة واحدة فى بيتى الجديد. ربما مرتين؟ لم أعد أتذكر!! لم يرحب به زوجى بحفاوة حقيقية، ربما بسبب حكاياتى عنه الكثيرة المتناقضة؟ هل أخطأت عندما حكيت له كل شىء؟ كل التفاصيل؟ ومن زاويتى الخاصة؟!
يوما كنت أتسوق مع صديقة لى كانت تشترى أغراضا لوالدها استعدادا لنقله إلى المستشفى لإجراء جراحة دقيقة. اشتريت مثلها بيجاما قطنية أنيقة وروبا منزليا وبشكير حمام وخفا وطقمىّ ملابس داخلية. احتفظت بها فى كيس كبير على رف علوى مع ما جئت به من الأجزاخانة من معجون حلاقة وفرشاة وعطره المفضل. سألنى زوجى فرحا عن تلك الأغراض.. كان يظنها له فلم أرد، فهم وامتعض. تظاهرت بالغباء، ألم تزرنا السيدة والدته فى بيتنا القديم لـ»نتكربس» نحن والطفلان فى حجرة واحدة؟ أليس لها الآن فى بيتنا الجديد حجرة خاصة بها؟ وفرشتها على ذوقها الخاص ؟ أيا كان هذا!! و»من مدخراتنا»؟! ولم أجرؤ على أن أعترض؟!
وددت عندئذ أن يكلمنى ويتحمل عتابى له ثم يأتى لزيارتى فأبكى على كتفه.. ثم أسامحه.. ويسامحنى كذلك على حماقتى. سأقول له دفاعا عن نفسى: ومن أين يا ترى جئت بحماقتى يا سيدى الفاضل؟ أضحك. فيضحك ردا على ضحكتى, ثم نحتسى معا الشاى بنكهته المفضلة التى لا يخلو منها مطبخى أبدا انتظاراً له، نثرثر وأفضفض له فيما يخرج الأولاد هداياه لهم من أكياسها!!
شعر الأولاد بالظمأ، طلبوا أن نتوقف عند المينى ماركت بمحطة الصيانة لشراء زجاجات مياه ومرطبات فرفضت! تأففوا وتذمروا فلم أعبأ بهم! من يريد أن يشرب لديه زمزميته! زاد التمرد والاعتراض، مياه الزمزمية ساخنة يا ماما! هذا ظلم! أردت الاتصال به عدة مرات ثم ترددت. فى مرحلة ما مسحت رقمه من الموبايل. كانت صورته الشابة نسبيا على شاشة محمولى تعذبنى كلما افتقده فأتأملها.. آثرت السلامة ومحوتها. هل تزوج بزوجة شابة تأتى له بذكر يرث أمواله الطائلة؟ ينسيه الحمقاء التى تركها وحيدة فى الحياة؟!
لم أعد أعمل بصيدلية وسط البلد. باعها مديرها لسلسلة مطاعم أمريكية. انتهز زوجى الفرصة وعرض علىّ فرصة العمل بمصنع الأدوية وسهولة التنقل على الطريق الدائرى من مكان العمل إلى مدرسة الأولاد ثم إلى المركز التجارى ومنه إلى البيت (!!) إلى جانب التضخم فى المرتب الذى سيفيد ميزانيتنا ويخفف أعباءنا المتزايدة!!
أقترب من بوابة ‘الكومباوند’. أنظر إلى الأولاد عبر المرآة، يسألوننى كثيرا عنه! يتذكرون المرة الوحيدة التى زارنا فيها رغم صغر سنهم وقتها! هداياه العجيبة لهم. حكاياه المشوقة! سحرهم مثلما كان يسحرنى فأنسى أخطاءه فى حقى! يفتح لى الحارسان البوابة فأحييهما وأعبرها متجهة إلى بيتى فى الناحية الشمالية من ‘الكومباوند’.
هل آخذهم لزيارته؟! منذ سفره وبيع البيت القديم لا أعرف له عنوانا! كان هو الذى يتصل بى ويزورنى، ثم تباعدت الاتصالات، وكذلك الزيارات، وبدأ الجفاء ينسج شباكه بيننا. التقيت بأحد أصدقائه القدامى فى ‘الكومباوند’. كان ودودا وواهنا.. ربما يعرف رقم هاتفه؟ أو عنوان بيته؟ له حق فى رؤية الأولاد، هم لحمه ودمه! لا أتذكر أنى رأيت صديقه بعد هذه المرة الوحيدة! ربما مات؟!
بينما أقترب بسيارتى من البيت لا أدرى لماذا تذكرت جدتى وجدى؟ رائحة الخبيز فى بيتها التى تلتقطنى من باب الحديقة! حدثنى كثيرا عن الشجار بينهما حوله، هو يتهمها بتدليله وهى تتهمه بقسوته عليه!! هل كان يدللنى فى طفولتى ليقسو علىّ فى شبابى؟
يقترب منى حارس العقار محييا ويحذرنى من انقطاع التيار الكهربى عن المنطقة مرة أخرى!! اللعنة على اتحاد الملاك ومن بينه زوجى!! ألمح سيارة اسعاف تقف أمام العمارة المجاورة. يقول لى حارس العقار إن الكابتن مدرب الكرة القاطن فى الدور الثامن اكتشف عند خروجه لعمله بالنادى رجلا غريبا مغشيا عليه فى مدخل العمارة يبدو عليه من هيئته أنه مندوب مبيعات، كان يظنه فى زيارة لأقرباء له يقطنون بالعمارة لكن أحدا لم يعرفه!! اتصلت دكتورة الجامعة القاطنة فى الدور الأرضى بالاسعاف. تأخرت السيارة فى الوصول لكنه متشبث حتى الآن بالحياة، اشرأب الأولاد لمتابعة ما يحدث، يجدون في الحكاية مادة خصبة للتباهى بها فى اليوم التالى فى المدرسة. سألت الحارس إن كانت الحالة خطرة؟ فأجاب أن حارس العقار المقابل له قال إن رأسه ارتطم برخام إحدى درجات السلم عند وقوعه مغشيا عليه!! إن كان قد مات لا أحبذ أن يرى الأولاد الرجل الغريب على تلك الحالة!
تأخر خروج رجلىّ الاسعاف بالرجل. لماذا لم يحمله الكابتن فى سيارته إلى المركز الطبى الذى تدير صديقتى صيدليته؟ خرج أحدهما وتوجه إلى سيارة الاسعاف فيما بقى الآخر داخل العمارة. ثم عاد الأول مرة أخرى إلى الداخل!!
يتململ الأولاد. يطالبوننى بالذهاب إلى محل الزبادى المثلج فى السوق التجارية بالـ ‘كومباوند’ إلى أن يعود التيار! لا تبدو الفكرة مزعجة لى، لكنى أفكر فى ذلك الرجل الغريب الذى يتفاوض رجال سيارة الاسعاف على حمله أو تركه لمصيره! ما الذى قاده إلى بيع سلعته فى حى بعيد كهذا؟! هل يقدم الناس على أى مخاطرة فى مقابل المادة؟! يذهبون إلى أخر الدنيا مثل هذا الحى؟ ولبيع ماذا؟ ومن الذى يشترى؟ّ الكل الآن يبيع!! لم يعد أحد يشترى!!
خرج رجلا الاسعاف دون أن يحملا معهما الرجل الغريب. تذكرت أن المركز الطبى فى مواجهة محل الزبادى المثلج مباشرة. ثم نظرت إلى ساعة يدى. فى هذه اللحظة تذكرت أن نوبة عمل صديقتى لم تنته بعد! أدرت محرك السيارة وانطلقت بها فى اتجاه مركز التسوق فتهلل الأولاد وبدأوا يتقافزون على أريكة السيارة: «تعيش ماما.. تا تعيش!»
رابط دائم: