رئيس مجلس الادارة

هشام لطفي سلام

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

غضب الغربان

فؤاد حجازى
ما أن دخلنا الحصن ، حتى كان همنا أن نعثر على ماء . فوهج الحرائق فى الخارج ، واشتداد القصف الذى غطانا بالرمال فى الحفر التى لجأنا إليها ،جعلنا فى أمس الحاجة إليه . جفت حلوقنا ، وغبار أصفر يعلو رموشنا، ويلطخ مع سناج متخلف عن الدخان الكثيف وجوهنا .

وها هو مدفع الإفطار ، على وشك الانطلاق ، ونحن صائمون بالرغم منا .

وعندما عثر أحدنا على جركن بلاستيكى فى ثلاجة، مليئاً به ، أطلت الفرحة فى عيوننا وارتخينا أرضاً، ساندين ظهورنا إلى جدار الحجرة الصخرى ، ومددنا سيقاننا، فى انتظار أن يتطوع زميلنا بتوزيعه علينا.

فى بحث الزميل عن وعاء ، يسقينا منه ، عثر على دانة مدفع .. تفحصها وألقى بها ناحيتى .

تفحصتها .. نحاس خالص ، وقدرت وزنها بحوالى عشرة كيلو جرامات .

ألقيتها جانباً ، فضحكوا جميعاً .. فليس معقولاً أن أحملها إلى المسبك الذى أعمل به .. ونحن لاندرى ماذا ينتظرنا فى الحرب التى لم نعبر سوى يومها الأول ..

أفرغ الزميل قليلاً من الماء فى وعاء صغير عثر عليه، وإذا بنا نسمع مواءً.

فتشت عيوننا فى دهشة جوانب الحجرة التى لجأنا إليها ، قطة لم ننتبه لها، ملتصقة فى جانب، قوست ظهرها، ورفعت ذيلها .. تثقبنا بعينيها .. نهضت متثاقلاً ، تقدمت منها فى حذر ، أمسحها بنظرات مطمئنة. ظلت هادئة ، وعندما خف تقوس ظهرها اقتربت منها وتشجعت وربت على ظهرها .

حملتها وعدت إلى مكانى ، وأنا أتساءل .. كيف لم نلحظها عند دخولنا . وأشرت للزميل أن يحضر ماءً للقطة بعد أن يفرغ من الزملاء ، لكن خاطراً جعلنى أصيح:

- انتظر

توقف أول الشاربين وطالعتنى نظراتهم مدركة ما هجس به خاطرى .. ، فربما سمم الإسرائيليون الماء .

أخرجت راديو ترانزستور من جيبى ، كان المذيع يردد أحاديث نبوية وأدعية بعد أذان المغرب، ولم نلبث أن سمعنا دعاء المصلين لنا بالنصر .

أبعد الزميل الماء .. وأخرج كل منا تعييناً جافاً من شدته، نشارك الصائمين فطورهم.

واقترح أحدنا عمل شاى ، فالتسخين يقضى على السم.

- ومن أدراك ..؟! .

تركزت نظراتهم على القطة التى التصقت ببطنى .

قلت وأنا أخشى أن ينشع الإحباط من نفوسهم :

- لا .. لا ..

قال أحدهم يشجعنى :

- قطة اسرائيلية على أى حال

عاد القصف، فأمرت أفراد السرية بالانتشار حول الموقع، لأن القائد الإسرائيلى سوف يركز على قلبه إذا كشف الخدعة متوقعاً احتماءنا داخله .

وتمهلت أتصل بقائد الكتيبة لإرسال نجدة من الدبابات، وأعلمته بموقعى منذ الصباح ، حيث فقدت دبابات السرية الإحدى عشرة، عندما حاصرنى لواء ونصف اللواء من المدرعات الإسرائيلية، كما استشهد الملازم أول قائد السرية، فأمرنى بتولى القيادة بصفتى أقدم رتبة بعده .

كان وضعى ميئوساً منه وراودتنى فكرة، فصحت فى اللاسلكى وأنا أعلم أنهم يلتقطون مكالماتنا :

- الغاز الكيماوى .

وأمرت من بقى حياً من أفراد السرية بوضع الكمامات حول وجوههم .

وكما توقعت .. فور أن رآنا الإسرائيليون ، تراجعوا إلى الخلف وغطوا دباباتهم بالحصير الواقي.

انتهزت الفرصة واقتحمت الحصن .. فوجئ من بداخله بنا ، بينما دباباتهم على مقربة .. فأسرعوا إلى فتحات الهروب .

قذيفة قرب باب الخروج، تطاير الردم وعجزت عن التخلص من القطة التى دفنت رأسها فى صدرى ، تتقى الدخان الأسود الكثيف .

سحبت السرية إلى داخل الحصن .. وكان مضاءً بأنوار تشبه أنوار المترو .. واستطلع أحدنا ممراته .. حتى عثر على حجرة تعلوها قضبان سكك حديدية ، وفى مدخلها أكياس من الرمال ، فانتقلنا إليها .

خمنت أنها حجرة قائد الحصن، وناولنى أحدهم « جركن» وجده فى زاوية ، أدرت غطاءه وشممته .

- بنزين .

تراخت أبدانهم ، وقد جلسوا أرضاً فى تحفز وأيديهم ممسكة برشاشات قصيرة المدى .

خفت حدة القصف ، فأرسلت جندياً للاستطلاع، عاد مهللا وقال :

- النجدة وصلت .

وتردد النداء فى جهاز اللاسلكى :

- من قائد الكتيبة إلى الرقيب سيد .. من قائد الكتيبة إلى الرقيب سيد

- تمام يا أفندم .

- قوانا استولت على موقعى المعسكر الأبيض وغراب الماء .

هللنا جميعاً ، وتخلى الجنود عن حذرهم ، فقد أصبح الحصن مؤمنا ، فالموقعان فى منطقة ممرات متلا، ولن يستطيعوا القيام بهجمات مضادة عبره، تعطل قواتنا من إتمام تمركزها على الشاطئ الشرقى لقناة السويس .

قررت مكافآتهم بوجبة ساخنة. أمرت بفتح علب طعام محفوظ، وأشعل أحدهم أقراص كحول بيضاء تحتها .

بعد تناول هذه الوجبة ، سيكون طلب الماء ملماً ، أسفت على فقدان جراكن الماء فى دباباتنا المدمرة ، ونفاد ماء زمزمياتنا ، وعربة الماء ستمر بعد الظهر ، كما أخبرنى ضابط التعيين ، والنهار لم يشقشق بعد .

اصطحبت زميلاً ، وخرجنا من الحصن ، لعلنا نصادف عربة جيب عائدة إلى الخلف ، فأرسل معها جندياً ، فليس معقولاً أن أرسله سيراً على الأقدام ، ومؤشر دبابتى قبل مغارتها، أفاد أننا قطعنا مسافة ثمانية كيلو مترات و008 متر .

هل أرسله إلى موقع غراب الماء على بعد ثلاثة كيلو مترات، وقد لا يستطيع الوصول إلى جنودنا بسهولة فى كمائنهم فى الممرات .

ترددت فى العودة إلى الحصن .. وأنا غير مستطيع مواجهة نظراتهم التى تركزت ثانية على القطة بعد تناول الطعام .

ما زال الدخان يتصاعد من الدبابات الإسرائيلية المدمرة ، فقاعات حديدية سوداء ورمادية تلوح فى دروعها ، والتوت بعض مواسير مدافعها .

حامت بعض الغربان فى الأفق ، وحطت على الجثث فوق جوانب الدبابات وفى بعض فتحاتها ، اقشعر جسدى وهى تنهشها بمناقيرها السوداء ، أطلقت دفعتين من رشاشى لإخافتها ، طارت وعادت تحط بثقل والغضب ينطلق من أحداقها .

ناديت فى اللاسلكى بعض الزملاء ، لمواراة هذه الجثث فى الرمال ، ووضعت إصبعى على الزناد لأطلق الرصاص ، توقفت وقد علت وجهى ابتسامة ، قلت لزميلى ، احضر وعاءً به ماء بسرعة.

وضعته بالقرب من الدبابات وانسحبنا إلى الخلف نلاحظ الغربان، شربت من الماء.

ظللت أرقبها وقتاً مر على ثقيلاً .. ما زالت تنقل أرجلها .. وستعاود النهش .

قفزت القطة إلى صدرى .. داعبت رأسها وأنا اقول :

- وزعوا الماء

رابط دائم: 
اضف تعليقك
البريد الالكترونى
 
الاسم
 
عنوان التعليق
 
التعليق