رئيس مجلس الادارة

أحمد السيد النجار

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

ما بال أبى .. يأتى ويختفى؟!

محمد شعير
على مدى سنوات طويلة، ظلت علاقتى بأبى - فى نظرى- علاقة عجيبة.. هى علاقة مريحة، أحبها، لكنها فى كل الأحوال عجيبة، غريبة.. وأغرب ما فيها هو أن أبى كان يأتى ويختفى، ثم يعود ليأتى ويختفى، حتى كدت أجنّ وأصرخ فيه: «حدد موقفك!».. لكننى لم أفعل.

ربما قبل تلك السنوات المقصودة، كانت هناك سنون أخرى طويلة، تأرجحت فيها العلاقة طويلا، مثل أى علاقة بين ابن وأبيه.. ففى مرحلة الطفولة يرى الطفل أباه مثالا فى كل شىء، بفعل القلب والحب. وعندما يكبر الإبن، ويصل إلى مرحلة تشكل الوعى، فيما حول سن الخامسة عشرة مثلا؛ عندئذ قد تصير العلاقة جدلية، فيرى الإبن نقاط ضعف فى أبيه بعقله، لكنه يحاول استيعابها بقلبه، وقد ينجح أو يفشل أو...... دعك الآن من كل هذا، فقد مضت علاقتى به فى كل تلك المراحل عادية، لطيفة، مقدور عليها.. لكن ما جرى بعد ذلك - عندما كبر هو- كان شيئا غريبا.

فى تلك الليلة، كنت عائدا من سهرة صاخبة، شُرب ورقص و«مُزة» عشّمتها بالحب والزواج وهى أحبت أن تتعشم. دخلتُ إلى المنزل، بالكاد تحملنى إلى حجرتى قدماى، وتفتح أمامى الطريق عيناى.. وفجأة وجدته أمامى.. «انت رجعت إمتى؟!».. أنا الذى وجهت له السؤال بذهول.. أما هو فلم يرد.. وظل ينظر لى فترة بملامح وجه لا تدل على شىء!.

بالنسبة لعلاقتنا.. كان غضب أبى عندى دوما أصعب من ضربه.. لم يضربنى طوال حياتى إلا مرتين.. «بس كانوا هما المرتين».. طبيعى.. اتق شر الحليم.. المشكلة ليست فى الضرب أو الخوف من الضرب.. المشكلة فى أن تشعر بأنك السبب فى غضب من تحب.

عملتُ مهندسا للديكور فى شركة كبيرة.. فى أول المشروعات التى توليتها أرهقتُ نفسى على مدى أيام، ووضعتُ كل ما أعرفه من لمسات تضفى الجمال والرقة على جنبات المكان، لكننى مازلت لا أعرف ما إذا كان السوق يحب الجمال أم لا.. فى الليلة السابقة على موعد لقائى العميل لمعرفة رأيه النهائى سهرتُ حتى الصباح.. ترى هل يعجبه التصميم أم لا؟!.. أجابنى أبى مسبقا.. حيّانى بابتسامة رضا طويلة كأنه يكافئنى على سهر الليالى.

وبرغم أنى اكتفيتُ بمكافأة أبى، وأشبعتنى، إلا أننى وجدتُ العميل أيضا فى الصباح يطير فرحا بتصميمى، وهو ما كان مقدمة قوية لتثبيت أقدامى.. سعدتُ بذلك.. لكن ما آلمنى هو أن أبى لم يحاول أن يهنئنى!.

مرت الأيام، وازدادت خبرتى فى العمل، وشيئا فشيئا عرفت.. عرفتُ أن للفن سوق رائجة.. لكن عوائدها ليست للفنانين.. فهؤلاء ليس لهم إلا الفتات.. وهم ليسوا إلا خشاش الأرض الذى يُدهسُ ليُسوَى طريقُ الكبار إلى المجد.. المجد للتجار والملّاك والمديرين.. أما المبدعين.. فسلام على المبدعون.. وليظلوا عشرات السنين عاملين.. بالفتات قانعين.. لكن..... لا!.

لن أكون أبدا واحدا من أولئك الجنود المجهولين.. ولكن ماذا أفعل؟!.. ما العمل؟!.. لا أعرف.. لقد تعبت.. لماذا يستغل الآخرون طيبتى؟!.. ولكن هل أنا طيب أصلا؟!.. لا أعرف!.

يالها من ليلة.. أحرقت فيها ما يقرب من علبة «سجائر» كاملة وحدى على «كنبة» فى المنزل.. بينما كانت زوجتى تستمتع بالـ «شوبنج» مع صديقاتها، مصطحبة ابنتى الصغيرة، قبل أن تعودا لتبيتا فى منزل أهلها فى الـ «ويك اند».

هذه المرة قلتها لأبى بكل وضوح: «يا بابا.. انت بتكرر كلامك هو هو بالحرف.. فى حين إن الدنيا بتتغير جدا.. جدا.. الضمير والأخلاق بقوا عملة نادرة.. والناس فاضل لها شعرة وتمسك سكاكين لبعض فى الشوارع.. فين الخير والحب والأمل دول بس؟!».

بقى أبى معى هذه المرة فترة أطول.. ربما يومين أو أكثر.. والحق أنه هدّأ كثيرا من روعى.. فهمت منه أن التوازن هو سر الحياة.. أعاد إلىّ اتزانى بشكل كبير.. شعرت بانشراح نفسى.. قضينا وقتا رائعا.. داعب ابنتى.. وجلسنا جميعا لتناول الطعام حول المائدة.. وفى الليل ضمت السهرة - على شرفه- كل الأحبة.

فى تلك الفترة.. تكرر وجود أبى بعد ذلك أكثر من مرة.. كنت أناقشه فى كل شىء.. كان يأتى ويبقى.. حتى ظننت أنه لن يختفى أبدا.. كان يأتى ويطيل البقاء حتى أظن أنه ما اختفى أصلا.. لكنه عاد بالطبع ليختفى.

والآن يا أبتى...

ها هى السنون قد مرت.. وها هى الحياة قد استقرت.. وثبتت.. حتى سكنت.. وهأنذا صرت - بالتوازن والصبر- يا أبى صاحب مكتب لتصميمات العمارة الداخلية.. حاولت بالفن والإبداع نشر معانى وصور الجمال.. نثرت بين الفنانين بذور الحب والخير لا التسلط والاستغلال.. غرست فى كل طريق مررت به أمام الشباب فسائل الأحلام والآمال.. استقرت الحياة.. وثبتت.. حتى سكنت.. وحتى صرت أنت لا تأتى.

هوّن عليك يا أبتى...

لا أعاتبك.. ولا أطالبك بتحديد موقفك.. لكننى أنقل لك فقط من عالمى ما قالته ابنتى دهرا.. قالت وهى تنظر معى إلى ما تبقى منك؛ صورتك: «كان نفسى أشوف جدو يا بابا».

ليس كل ما يتمناه المرء يدركه يا ابنتى.. ليس بعد.. لكن المرء أيضا قد يدرك الأحلام أخيرا يا أبتى!.. وإلا فلماذا جئتنى الليلة - بعد طول غياب- فى مرضى؟!.. أجئت تزورنى أم تستقبلنى؟!.

استقرت الحياة.. وثبتت.. حتى سكنت.. سكنت أخيرا.. سكنت طويلا.. لتبدأ رحلةٌ أخرى أخيرة.. هى الرحلةُ الطويلة.. رحلة تحملنى فيها أجنحة حمام أبيض كبير.. جميل.. أراه الآن - مثلما رأيتك دوما- يحلق فى أجواء حالمة.. تحيط بنا نغمات وورود.. لم أعد أخشى السقوط.. أفتح صدرى قدر طاقتى لعلى أتحمل شذرات العبير.. أفتح عينى باتساع مقلتى لعلى أتشبع بلمحات الجمال.. ما كل هذا يا أبى؟!.. أكنت تتركه وتأتى؟!.. بالله عليك كيف تفعل؟!.. أصبحت أراك الآن أفضل.. أريد أن أضحك.. أريد أن أبكى.. أتريد أن تأتى؟!.. أرجوك لا تفعل.. سآتى أنا يا أبتى.. سآتى.. سآتى.

رابط دائم: 
اضف تعليقك
البريد الالكترونى
الاسم
عنوان التعليق
التعليق