تتهادى نسمات الربيع رقيقة هادئة .. موقف الأتوبيسات لا يتواجد به سوى أفراد قلائل ، يمكن حصرهم على أصابع اليدين .. حالة من الهدوء النادر على الموقف ككل .
• مساء الخير .
قالتها بصوت ناعم جذاب ، رفع عينيه عن الجريدة لمحها بطرف عينه اليمنى ، بقدر من الاهتمام ردًّ بسرعة :
• مساء النور .
راح يلملم جسده النحيف فى الجزء المخصص له فى المقعد المزدوج ، طوى الجريدة ببطء متصنع وأخذ يبصُّ لها من تحت لتحت فى صمت محاذر .. قطعت هى لحظة الصمت قائلة كمن يتساءل بنبرة خافتة مترددة :
• متى نصل مصر ؟
نظر إليها فى شبه تعجب ونصف ابتسامة ترفُّ على شفتيه :
• نحن بالفعل فى مصر ؟
قالت بسرعة :
• آه ، آسفة ، أقصد القاهرة .
• يبدو أنك تسافرين بمفردك للمرة الأولى .
• نعم ، ليس بالضبط ، كان فى الغالب يوجد مَنْ يصاحبنى .
رسمتْ على شفتيها الرقيقتين ابتسامة خجل وقالت :
• لكن الظروف تحكم ، أحياناً !
أخذتْ تنظر إلى الناحية الأخرى وأهملته تماماً .. راح يسترق النظر إليها مدققاً متأملاً بين لحظة وأخرى : وجه نضر مريح ، عنق مستدير ، شعرها ليل حالك تمدد واستراح على قفاها ، هبط فغطى منتصف ظهرها ، ملابسها بسيطة تبدو ، لكنها نظيفة ومتناسقة ، تمنحها قدراً لا بأس به من الثقة والأناقة والجمال ، نظر إلى أصابع يديها فلم يجد ما يدلُّ على خطوبة أو زواج ، اعتراه إحساس طاغٍ بفرحة مفاجئة ، تبرعمتْ داخله أمنيات مؤجلة ، تيقظتْ فيه مشاعر إيجابية عاطفية لا يمكن إنكارها ، مشاعر تدفعه دفعاً لمعانقة الحياة بكل تناقضاتها .. قال – بينه وبين نفسه – ها هى ذى الفرصة التى طالما انتظرتُها تأتى إلىَّ مستجيبةً حانيةً ..
يا محاسن الصدف ويا جمال هذا المسا ، لم آمل أكثر من ذلك .. هى فتاتى ، هى نفسها كما تخيلتُها وحلمتُ بها ، كم تمنيتُ أن أحيا معها وبها سنوات عمرى الباقية ، كفى ما مضى ، الباقية منها تكفى أن تعوضنى عن سنوات المعاناة المجهدة .. آهٍ أراد زمانى المعاكس مصالحتى بعد طول خصام ، لمَ لا ومهيئات زواج هانئ موجودة ظاهرة : وظيفة حكومية لا بأس بها ، شقة تمليك لم يبق من أقساطها سوى ثلاثة أقساط تافهة .. منذ أيام قلائل بلغ عمرى الأربعين ، كبر السن ليس بمشكلة ؛ مِنْ الينات مَنْ تجاوزن هذه السن ، ولم يتزوجن بعد ، مشكلة العنوسة التى تفرض نفسها على حياتنا ، لمَ تدخل نفسكَ فيها ، أنتَ غيرهن ، ما عليك إلا أن تبادر بالخطوة الأولى ، كن جريئاً – هذه المرة – وفاتحها الآنَ برغبتكَ فى الارتباط ، لا تضع هذه الفرصة القدرية النادرة كما أضعتَ بخجلكَ وترددكَ العديد من الفرص قبلها .
بعد إطراقة رأس قصيرة وسرحة فكر عميقة التفتَ جانبه ، بصَّ ، دقق النظر ، مسح المقاعد والطرقة بعينين مذهولتين فى عجالة خاطفة فلم يجدها ، نعم لم يجدها ، وقف حائراً فى طرقة الأوتوبيس بين الكراسى كتمثال شمعى ، وصله صوت المحصل واضحاً مستفسراً :
• ضاعتْ منك حاجة يا أستاذ ؟!
ردَّ فى سره ، وهو ينظر إلى المحصل فى حسرة :
• نعم ضاعتْ أغلى حاجة !
سرعان ما وجّه كلامه إلى المحصل زاعقاً :
• كانت هنا جانبى ، على هذا الكرسى ، من دقائق ، لكنها اختفتْ بطريقة غريبة غامضة !!
• شنطتكَ ؟
• لا ، الآنسة يا ...
رد المحصل فى هدوء وبلا مبالاة :
• آه ، الآنسة أم جيبة كحلى .
• نعم نعم ، أين ؟! ، أين ذهبتْ ؟!
• نزلتْ فى آخر لحظة مسرعةً ، كان صدرها يعلو ويهبط ، ينزُّ العرق من جبينها ، وهى غير مبالية .. لو سمحت اقعد على كرسيك ، الأبواب اتقفلتْ والأتوبيس تحرّك فعلاً فلا تعرض نفسك للخطر .
رابط دائم: