«هذا الكتاب مقصور على غرض واحد، وهو جلاء العبقرية المسيحية فى صورة عصرية نفهمها الآن ، كما نفهم العبقرية على أقدارها وأسرارها».
ربما كانت أقصر مقدمة لكتاب، هكذا شاء العقاد الإيجاز الشديد فى تقديم «عبقرية المسيح» وكأن لسان حاله: لندخل فى الموضوع، دون إطالة فى تمهيد أو تقديم.
لكن قد يستدعى توقيت إعادة النشر فى سلسلة كتاب اليوم تساؤلات عديدة من قبيل: لماذا الآن كتاب «عبقرية المسيح» بالذات؟ هل ثمة رابط مع ارتفاع موجة التطرف الأسود على الأرض التى أحسنت وفادة مريم وعيسى ؟ هل يعبر النشر عن نوع من الاحتفاء بذكرى رحيل عباس محمود العقاد فى مارس ؟ . يقيناً، فإن النشر محاولة للوفاء بهذه الاعتبارات، وغيرها، فكاتب إسلاميات بحجم العقاد حين يتصدر لكتاب عن المسيح عليه السلام، إنما يترجم المكانة التى يكنها الإسلام لنبى الله عيسى وسيدة نساء العالمين العذراء مريم. يقع الكتاب فى ثلاثة أبواب فضلاً عن باب ختامي، فى الأول يتناول المسيح فى التاريخ، وكعادته، فإن معالجة العقاد لعبقرية شخصياته لا تنفصل عن السياق التاريخي بمفهومه الواسع، إذ يحيط بالحالة السياسية والاجتماعية، وكذا الحياة الدينية والفكرية فى عصر الميلاد، ويختتم هذا الباب بعرض أقدم الصور الوصفية التى حفظت للسيد المسيح، تلك التى تداولها المسيحيون فى القرن الرابع، ثم يتصدى لتفنيدها، ليس فقط لأدواته فى التحليل، وإنما انطلاقاً من أنه ليس فى الأناجيل إشارة إلى سمات السيد المسيح تصريحاً أو تلميحاً يفهم من بين السطور.
أما الباب الثاني، فجاء بعنوان «الدعوة» ويرصد العقاد فى سطوره ما لقيه المسيح من مقاومة عنيفة، بينما يتصدى رسول الإخاء والسلام لدعوته وهو يعلم أنها ـ فى ذلك الزمان ـ أخطر الدعوات وأنها أخطر جداً من دعوة البغضاء والقسوة. وكان المسيح يرى أن من يدعو للإخاء يدعو لاقتلاع جذور البغضاء، والذي يدعو للسلام يدعو إلى تحطيم سلاح الأقوياء، وليس اقتلاع جذور البغضاء بالأمر الهين هكذا كان يدرك أبعاد الصعاب التى تحيط بدعوته.
وفى الباب الثالث الذى عنونه العقاد بـ «أدوات الدعوة» يشير إلى أن العالم فى عصر الميلاد، كان محتاجاً للعقيدة مستعداً لسماعها لكن ذلك لم يكن مغنياً للعقيدة عن أدوات الفلاح والنجاح، وأولها قدرة الداعى على كسب النفوس واجتذاب الأسماع والغلبة على ما يقاومه من المكابرة والعناد.وقد كانت هذه القدرة موفورة فى معلم المسيحية، وبحق سمى المعلم، كما أثر عن المسيح فى جميع الأمثال التى يضربها حب المقابلة بين الأضداد لجلاء المعانى، وتوضيح الفوارق.
أما الباب الختامي فقد أشار فيه العقاد، إلى عناية الشراح الإنجيليين بدقة ترتيب حوادث سيرة السيد المسيح لكنهم لم يصلوا إلى ترتيب متفق عليه، على أن حوادث السيرة فيها ما يظهر منه أنه نتائج لاحقة لتلك المقدمات، فإذا حسبنا بعضها نتيجة لبعض على حساب المعقول من آثار الحوادث، أمكن على الترجيح، متابعة السيرة المسيحية فى خطوطها الكبرى. واخيراً يرى العقاد أن أقرب شيء يكون متوقعاً لو عاد المسيح إلى الأرض، أن ينكر الكثير مما يُعمل اليوم باسمه، وأن ينعى على الناس ما نعاه فى زمانه، وأن يجد الإنسان اليوم كإنسان الأمس فى شروره وعداوته وفى نفاقه وشقاقه وفى إعراضه عن اللباب وإقباله على القشور.
[email protected]
رابط دائم: