يمثل الدكتور عبد الفتاح عبد الغنى العواري، أستاذ التفسير وعلوم القرأن وعميد كلية أصول الدين بجامعة الأزهر بالقاهرة، نمطا من علماء ومفكرى الأزهر المعاصرين الذين يجسدون وسطيته واعتداله, استنادا إلى قناعات حقيقية، تكونت لديه من تراكم خبراته الفقهية والأكاديمية، التى تتسم بالعمق والتنوع والشمول فضلا عن اهتمام واسع بقضايا تجديد الفكر والخطاب الديني..
وفى هذا الحوار يتحدث عن أسباب شيوع الفكر المتطرف وسبل مواجهته، ووثائق الأزهر التى لم تر النور، ودعوته المهمة لتتحول إلى التطبيق بعد أن تتبناها الجهات المعنية، لاسيما مجلس النواب فى مصر وغيره من البرلمانات العربية، وصولا إلى قضية التطرف بمفرداتها المختلفة، وفى هذا الحوار، ينفى بقوة اتهام مناهج الأزهر بمسئوليتها عن صناعة هذا التطرف المقيت، ويطالب جميع مؤسسات الدولة بالتكاتف لإنقاذ الشباب وحماية الأمن الفكرى الذى لا يقل أهمية عن الأمن القومى .. والى نص الحوار:
ونحن بصدد مناقشة إشكالية التطرف الدينى وسبل مواجهتها يبرز سؤال جوهرى هو لماذا اتسع مداه على الرغم من المعاهد الدينية وكليات جامعة الأزهر وانتشارها الجغرافى على نحو يغطى تقريبا كل محافظات الوطن ومع وجود هذا الكم من البرامج الدينية سواء المسموعة أو المرئية وبروز الدعاة؟ , فأين تكمن المعضلة الرئيسية وراء هذا التطرف الذى أخذ - وما زال - منحى عنيفا مهددا للبلاد والعباد؟ ولماذا الشباب يقبلون على تبنى أفكاره والانتماء إلى تنظيماته, وهل يعكس ذلك حالة عدم قناعة بما يقدم لهم من مضمون دينى فى المؤسسات التقليدية؟
لو كان الأمر يتعلق بعدم القناعة, فكيف بالملايين من شباب مصر الذين تحصنوا بالفكر الوسطى منذ نعومة أظفارهم ويعملون فى شتى الجهات ولم نستشعر منهم أدنى نزوع للتطرف الدينى والفكري, إذن المسألة مرتبطة بأن هؤلاء الذين حرموا من الثقافة الإسلامية المتمثلة فى مادة التربية الدينية، كمادة حقيقية تخضع لمحددات النجاح والرسوب، بل إن درجاتها تمنح للطالب حتى لو لم يكتب كلمة واحدة فى أوراق الإجابة، لأنه لم يفتح صفحة يوما فى الكتاب المقرر، نتيجة تيقنه أن الدرجات التى سيحصل عليها فى امتحان هذه المادة لن تضاف إلى المجموع الكلي، ومن ثم فإن هؤلاء لو حصنوا بالفكر الإسلامى ودرست لهم مادة التربية الدينية من المرحلة الابتدائية الى الجامعة لكان بالإمكان أن يتغير حالهم، ومن هنا أطلق دعوة قوية لوزارة التعليم العالي، لأن تقرر لطلابها على مستوى كليات الجامعة سواء نظرية أو عملية دراسة مادة الثقافة الإسلامية، وهنا أشير إلى أن شيخ الأزهر وضع منهجين ضمن خطة التطوير لطلاب المعاهد الأزهرية، أولهما منهج الثقافة الإسلامية للمرحلة الإعدادية، والثانى منهج الثقافة الإسلامية للمرحلة الثانوية, وجامعة الأزهر تدرس منهجا خاصا بقضايا المواطنة والسلام والتسامح، وغير ذلك من القضايا المهمة، حتى لا يترك فراغا يعمل من خلاله البعض من المتربصين على دغدغة عقول أبنائنا وهو منهج مقرر على الكليات عملية ونظرية إلى جانب أن الكليات العلمية من طب وهندسة وزراعة وتجارة وغيرها تقوم بتدريس القرآن الكريم والأخلاق والفقه والحديث والتفسير, ومن هنا أقول انه لا يوجد فكر متطرف بين شباب الأزهر، وإن وجد فهو محض نعرات ناتجة عن أيديولوجيات سياسية، وليس عن فكر ثقافى إسلامى ولا يمثل بالمطلق فكر الأزهر, وفرض فرضا بعد أن تمت عملية غسل لعقول أصحابه. وكذلك غياب التحصين الفكرى والبطالة, والتى تشكل بابا للفراغ الذى تقوم دوائر أخرى باستغلاله، كما انه خلال العهد السابق أعطيت مساحة عريضة لأصحاب الفكر المتشدد, والذين امتلكوا قنوات فضائية دينية أخذوا يبثون فيها سمومهم, فظن الناس أن ما يقال فيها هو مرجعيتهم الفكرية والدينية، بينما غيب الأزهر, ويتعين أن يكون للأزهر أكثر من قناة فضائية حتى يعطى الجرعة الدينية الصحيحة، وهو يمتلك الأدوات اللازمة لذلك, من علماء وباحثين وأصحاب فكر مستنير، إلى جانب المضمون المناسب، وذلك من شأنه أن يحقق الأمن الفكرى وهو لا يقل أهمية عن الأمن القومي، فلو أن عقول شبابنا محصنة فكريا لأبدعت فى خدمة هذا الوطن ولا يخاف منها.
ولكن ثمة من يرى أن مناهج الأزهر ساهمت فى تهيئة الأسباب لبروز التطرف الدينى والفكري، ودعنى أشير إلى واقعة تحدث عنها البعض من أن الشيخ عمر عبد الرحمن المعروف بمفتى الجماعة الإسلامية والذى توفى أخيرا فى سجنه بالولايات المتحدة ـ حصل على رسالة الدكتوراة التى تتضمن أفكاره المتطرفة ورؤيته المتسقة مع رؤية سيد قطب وغيره، من كلية أصول الدين بجامعة الأزهر؟
إن مناهج الأزهر تربى عليها مفكرو وزعماء الأمة فى المشرق والمغرب, ومن الصعب تقديم إحصاء تفصيلى عنهم فى هذه العجالة, لكنى أتساءل: من أين تخرج السيد محمد كريم وعمر مكرم وكيف تربى أحمد عرابى ورفاعة الطهطاوي, والإمام محمد عبده والشيخ حسن العطار وغيرهم؟! وفى غير مصر ستجد ملوكا ورؤساء دول ورؤساء حكومات ووزراء وسفراء من الذين أسهموا فى تقدم حضارة بلادهم كانوا أيضا من خريجى الأزهر، ألا يرى الجميع جهود الدكتور أحمد الطيب فى محاربة التطرف بكل أنواعه، وهو من خريجى هذه الكلية الأم ـ أصول الدين ـ والتى تفرعت عنها فيما بعد سائر الكليات، وهو ما يؤكد أن مناهج الأزهر تتسم بالصفاء والنقاء والوسطية والتعددية.. أما فيما يتعلق بما أثرته فى سؤالك عن الدكتور عمر عبد الرحمن، فإن اللقب الذى يحمله وهو مفتى الجماعة الإسلامية، هو أكبر رد على ما يقال فى شأن اتهام كلية أصول الدين, صحيح أنه درس بها ونال منها درجة الدكتوراة، لكنه ارتبط فيما بعد بأيديولوجية سياسية علقت بفكره بعيدا عما تربى عليه فى كلية أصول الدين ومعاهد الأزهر.
المؤتمر الأخير الذى نظمه الأزهر ومجلس حكماء المسلمين بعنوان «الحرية والمواطنة ـ التنوع والتكامل»، ما هى دلالاته ورسالته فى هذا التوقيت بالذات؟ وما القيمة المضافة التى مثلها فى ظل سلسلة من المؤتمرات التى نظمت فى السنوات القليلة الماضية؟
ثمة دلالة وفلسفة عميقة للغاية من وراء انعقاد هذا المؤتمر تؤشر إلى تجذر الروابط الأخوية بين أهل مصر, سواء كانوا مسلمين أو مسيحيين, وهى روابط متأصلة فى التاريخ، والمؤتمر يصب فى مصلحة مصر والأمة العربية التى ينتمى كل من يعيش فيها إلى العروبة سواء كانوا مسلمين أو مسيحيين، وتكمن القيمة الحقيقية للمؤتمر فى إبراز الصورة الحقيقية للعيش المشترك بين أبناء الوطن الواحد، وفقا لقاعدة المساواة فى الحقوق والواجبات, بصرف النظر عن العقيدة والمذهب والعرق والجنس، وهذا أمر كما سمعنا فى كلمة الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر ليس مستوردا، إنما أصله فى الإسلام فالمواطنة أصيلة فى ديننا، ولم تفد علينا من الخارج، وجاءت رسالة المؤتمر هادفة إلى إبراز الصورة الحقيقية لمعنى العيش المشترك، بالذات فى مصر كى تعطى نموذجا يحتذى به فى دول الجوار، بل فى غيرها من الدول الخارجة عن محيط الدول العربية..
بالتأكيد يستوعب علماء الإسلام ورجال الدين المسيحى وغيرهم من النخب هذه المبادئ، ولكن السؤال لماذا تقع بين وقت وآخر ما يسميه البعض بالفتنة الطائفية فى مصر تحديدا فى الجنوب، فمن المسئول عن اشتعالها؟
إن ما يقع من أحداث متفرقة متنافرة لا يمكن بأى حال أن يطلق عليها فتنة طائفية، لأنها أحداث فردية وهى بطبيعتها تقع بين الأخ وأخيه فى البيت الواحد, وهنا أود أن الفت إلى ان كثيرا من الخصومات الثأرية التى وقعت بين المسيحيين والمسيحيين رفضوا أن تتم أى مصالحات بينهم الا على أيدى علماء الأزهر، ولكن الخطورة تكمن فى أن الإعلام الغربى يتلقف أى حدث ما دام الأمر بين مسلم ومسيحي, بينما لا نجد مثل هذا الاهتمام عندما يتعلق بالأحداث الأخرى الأكثر حدة, مثل الاعتداءات التى يتعرض لها أبناء شعبنا فى فلسطين على أيدى الصهاينة.
فيما يتعلق بتوصيات المؤتمرات الدينية.. هل يمكن أن تجد لها صدى فى دوائر التطبيق؟
قناعتى أنها ستجد طريقها للتنفيذ، ذلك لأن القيادة السياسية فى مصر متمثلة فى الرئيس عبد الفتاح السيسى تتابع عن كثب جهود الأزهر، وتأخذ كل ما يصدر عنه مأخذ الجد, وهى سعيدة كل السعادة بإعلان الأزهر للتعايش المشترك، وكم نتمنى على سائر القيادات السياسية فى سائر الدول العربية أن تحذو حذو قيادتنا فى مصر، فمتى صدقت النوايا يمكن لإعلان الأزهر أن يتحول إلى تشريعات، وتلك دعوة أوجهها لمجلس النواب فى مصر وللبرلمانات العربية بتبنى هذا الإعلان وصياغته فى سلسلة من التشريعات القانونية.
رابط دائم: