نعم، مرسى جميل عزيز شاعر غنائي، ولكنه ينطلق فى أغنياته من وعى بالإنسان فى المكان والزمان، يهضمه ويتمثله جيدا، حتى يصبح الوعى به جزءا من رؤيته للعالم، وجزءا من ذاته، ذلك قبل أن يقوم بفصله عنه ليعبر عن نفسه من خلاله، بلغة كأنها لغته وفى صور تعبر عن مواقفه، الأمر الذى يجعل كل من شخصياته يقدم ما يمكن أن نسميه بـ «صورة الذات».
يمكننا القول باطمئنان إن مرسى جميل عزيز مستودع من البشر، يدهشنا بامتلائه بمختلف العواطف والقوي، كما يدهشنا بثراء قاموسه الشعرى بالصور الحية والأخيلة الطازجة والإيقاعات الضرورية التى لا تنفصل عنده عن سبيكة الانفعال والتصوير.. دهشة تدفعنا إلى التساؤل: كيف استطاع هذا الشاعر أن يتمثل ويحاكى فى أغنياته كل هذه المشاعر والانفعالات الإنسانية الواسعة والمختلفة؟ وكيف ينجح فى عمل هذه الإزاحة لشخصيته لتحل بدلا منها أصوات شخصياته المتعددة، كيف يصنع لها حبكات حكاياتها التى تشدنا إليها، وتجعلنا نتلمس تنامى انفعالاتها وحركاتها، بل وتوحى إلينا بمسكوت عنه فيها، ربما أكثر من المصرح به؟ كيف يتوفر له أن يكون هنا وهناك ولا نراه؟ بل نرى إنسانه الذى يغنى هنا وهناك، بلسان شعرى غنائى درامى مبين، فيتجسد صوته فى الهواء كنحت.
يمكننا اعتبار الكثير من أغنيات مرسى جميل عزيز، « تمثيلات شعرية» ، كما يمكن اعتبارها «بحوثا جمالية» رهيفة، نجح الشاعر خلالها فى أن يرصد مجتمعه الشعبي، وما يدور فيه من حوار معلن و مكتوم بين عناصره المختلفة، كما استطاع أن يكشف فى عدد كبير من أغنياته، وعبر بنى درامية مبتكرة، عن دوافع وآليات هذا الحوار، بعد أن راح يتمثله ويجسده فى حبكات درامية تقوم على شخصيات، هى تعبير عن مكان وزمان، وثقافة، فى فعل تقوم به هذه الشخصيات يتنامى بطريقة مخصوصة، كاشفا عن مساحة ليست هينة من المسكوت عنه فى هذا الحوار.
من بين هذه الأغنيات ما صاغه على لسان الفتاة والفتى فى المجتمع الشعبى فى طبيعته القروية، ففى غنائهما لا نسمع صوت الفتاة والفتى فحسب، بل يمكننا - خلال الصوت المفرد - أن نسمع، بل وأن نري، بل وأن نلمس ما يمكن أن نسميه «صورة الذات الجمعية» والتى تتجلى فى دراما الجماعة الشعبية!. وأن نضع أيدينا على العناصر الفاعلة داخل هذه الجماعة؛ على الثقافة التقليدية السائدة فيها ونماذجها المثالية المتوارثة التى تقاوم التغيير، وتسعى باستمرار للمحافظة على عاداتها وتقاليدها الأصيلة، عن طريق المشافهة والتلقين جيلا بعد جيل. من هذه الأغنيات على سبيل المثال : أما براوة ، ياامه القمر على الباب ، مال الهوى ، رمش عينه ، الحلوه داير شباكها وغيرها ، وسنتوقف هنا أمام أغنيته لصباح « مال الهوى يا امه « تقول كلمات الأغنية:
مال الهوى ياامه، مال الهوي
وانا لا ملت إليه، ولا ندهت عليه
هو اللى مال يا امه
فات الهوى ع العين، ما اعرفش جالها منين
سرق سواد الليل، وكحـّـل الجفنين
واحترت اقوله إيه
وانا لا ملت إليه، ولا ندهت عليه
هو اللى مال ياامه
ضلل عليّ جناح، هفهف شويه وراح
ولوّن الخدين، بالورد والتفاح
واحترت اقوله إيه
وانا لا ملت إليه ولا ندهت عليه
هو اللى مال ياامه
يا خوفى ياامه يعود، يطلب عيونه السود
ويطلب التفاح، والورد من ع العود
واحتار اقولّه إيه
وانا لا ملت إليه، ولا ندهت عليه
هو اللى مال يا امه
هذه فتاة أخرى من فتيات جماعتنا الشعبية، يمتصها مرسى جميل عزيز من جملة جينناتنا ومركباتنا الثقافية والاجتماعية، ليعيد بثها – من جديد – فى أغنيته وقد اكتست ثوبا جماليا شعريا يشف عن روح ساذجة حلوة، فى حيرتها وتقلبها ما بين رغبتها الأكيدة فى أن تسلك إلى قلب جماعتها مسلكا ترضى عنه هذه الجماعة ولا يشينها، وبين ما يختلج به صدرها من مشاعر و أشواق نظيفة ومشروعة تجاه من اختاره قلبها. الأمر الذى بالتأكيد سيبدو فى أعراف وتقاليد مجتمعها خارجا.
و لعلها هى نفسها فتاة أغنية ( يا امّه القمر ع الباب ) فى شوط آخر من أشواط مكرها، متنفسها الوحيد لتمرير رغباتها المشروعة إلى قلب ثقافتها والحصول منها على اعتراف بمشروعية هذه الرغبات. مشروعية أن يكون لها رأى فى شريك حياتها. وقد اضطرتها « الأم « فى « يا امه القمر ع الباب « لأن تصرح بما هو أكثر من مجرد طلب السماح باستقبال ذلك « الخاطب « الذى يقف بالباب طالبا الإذن له بدخول البيت ( من أبوابه )، بعد أن تعبت من الاحتيال والمكر من أجل الحصول على هذا الإذن دون أن تتورط فى الاعتراف بما فى قلبها ( ويا دار ما دخلك شر ). ولكن إصرار الأم على كشف ( المستور ) حال دون ذلك، مما اضطر الفتاة إلى إفشاء سر قلبها:
« ما عادشى فيها كسوف
يا امه اعملى معروف
قومى افتحى له الباب «
ولكن يبدو أن هذا لم يك كافيا لتطمئن الأم على سلامة موقف ابنتها الأخلاقي. فكان على الفتاة أن تكشف – فى شوط آخر – المزيد من التفاصيل حول طبيعة وحدود علاقتها بذلك الخطيب الذى يدق الباب، حتى تستريح الأم تماما وتطمئن على حسن سير ابنتها وسلوكها الذى هو كل رأسمال الأنثى فى مجتمعاتنا الشعبية، ولكى تبرئ الفتاة ساحتها من مظنة وقوعها فى العيب، أو قلة الحياء.
لعل من أبرز ما تتميز به أغنيات « مرسى جميل عزيز « أيضا، قدرتها على صناعة الإيهام، ونجاح شاعرها فى أن يخلق خلقا شعريا جديدا، دون أن يفارق ما هو إنساني، حتى لو جنحت لغته إلى المجاز والغرائبية، كما فى هذا النص.
كذلك تتميز أغنيات مرسى جميل بقدرتها على الإيحاء بصدورها عن «ضرورة « تدفع المتكلم فى الأغنية إلى التكلم فورا. حيث لم يعد الأمر ـ بالنسبة إليه ـ يحتمل التأجيل، ولا يمكن السكوت عليه، لذلك يمكننا أن نلمس فى «مطالع» أو «مذاهب» أغنياته ذلك الفيض الانفعالى الضرورى لانطلاق الغناء. ذلك الفيض الذى يستمر فى التدفق والتنامى حتى انتهاء الأغنية، الأمر الذى يمنحها تماسكها البنائي، ووحدتها العضوية، كما يسهم فى تشكيل قاموسها التخييلى والإيقاعى وأنظمتها التقفوية.. لننظر إلى ذلك فى مطلع أغنيتنا: « مال الهوى يا امه مال الهوي.. «
ما يمكن أن يتسرب إلينا من هذا التركيب السابق هو أن حدثا مهما وقع للفتاة - بغير شك - وشكل هاجسا ضاغطا على انفعالاتها، ضاقت به الفتاة فألقته على أمها بلا ترهل، لا بطء. انفعال مركز يلهث، يزف خبرا، لم يتضح بعد ما إذا كان سعيدا أم غير ذلك، ولكن المؤكد أنه خبر لا يحتمل التأجيل، كما لا يحتمل مزاحمة كلمات أخري، لا يحتمل الحشو، فقط « مال الهوى «.
هكذا ينطلق الانفعال، فلم يعد السكوت ممكنا، يمكننا أن نلمس ذلك فى احتواء ( المطلع ) على خبر واحد قصير يتكون من كلمتين فقط، فى سرعة إلقاء الخبر وإيجازه، فى الإلحاح عليه بالتكرار، مع ترابط وانشداد مقاطعه الصوتية المتحركة « مال الهوى يا امه مال الهوى «وإذا حذفنا منه الإشارة للمخاطَب لأصبح «مال الهوى مال الهوي» وأصبح الفعل مضاعفا، هو كل ما يملأ الفضاء. أمر جلل هو ما تزفه الفتاة إلى أمها بالتأكيد.. ولكن هناك مشكلة تعوق تقدم واندفاع البنت أكثر من ذلك، ماذا ستتصور أمها عندما تلحظ هذا الاندفاع؟ الاندفاع الذى قد يقترب من التهور.. هناك ضرورة إذن لمواراة ذلك الانفعال، وحتى لا يفهم منه أنه انفعال فرح. ستدرك البنت فورا أنها تخاطب ثقافتها المتحفظة كلها وليس أمها فحسب. لذا سترى أنه يجب (فرملة) ذلك الانفعال والتزام الحيطة. هكذا يأتى السطر التالى ليتدارك – سريعا – ما فى الانفعال الأول من شبهة الخروج عن حدود اللياقة فى مخاطبة الأعراف والتقاليد:
« وانا لاملت إليه
ولا ندهت عليه.. «
الفتاة لا تستطيع إفشاء مكنون قلبها، فهذا عيب، ولابد - كما قلنا – من أن تدخل الفتاة إلى مجتمعها مدخلا هينا، متلطفا، أن تتبنى خطابا يوافق قيم هذا المجتمع وعاداته وتقاليده. لذلك كان لابد أن تعلن براءتها سريعا من الفعل غير المسموح به، وهو أن تميل هي، فتؤكد: « هو اللى مال يا امه «
وتظل على حالها من الإنكار، مع التأكيد على أنه هو الفاعل :
فات الهوى ع العين، ما اعرفش جالها منين
سرق سواد الليل، وكحل الجفنين
واحترت اقول له إيه !
.. مفاجأة هى بالأمر، مرتبكة، لا تعرف – حتى – من أين جاءها؟! فكيف تجيبه وهو يسرق سواد الليل ويكحل به الجفنين؟! هذا السارق المختلف، معكوس ما تعارفت عليه الجماعة واتهمته بالنصب والاحتيال، وحذرت من الاقتراب منه فى أمثالها الشعبية، ذلك الذى ( يسرق الكحل من العين ) فهذا يسرق ويشوه، بينما - فى نصنا - يعطى ويجمّل. وهذا بالطبع يزيده تقديرا فى نظر الجماعة وقيمها. ولنلاحظ أيضا – فى هذا الطرح الماكر – كنه ذلك الفاعل: إنه « الهوى « وليس « الرجل « وهناك فرق كبير بينهما، فكلمة « الرجل « أو تحديد اسمه وتعيينه فى الخطاب قد يستدعى إلى النص ظلالا ترده إلى الواقع بتقاليده وأعرافه الجامدة والمادية، بينما ذكر كلمة ( الهوى ) والتى لاتختلف فى منطوقها عن كلمة ( الهوا ) على ما بينهما من فروق دلالية مهمة، يحافظ على غرائبية الطرح والتباسه وشعريته التى من شأنها أن تبعد السامع عن تصوراته الجامدة، تؤجل تفكيره الواقعى وتعطله ـ مؤقتاـ بل وتجعله أكثر شغفا وإقبالا على الاستماع، حيث يغلبه سحر الحكاية نفسها ( إن للبيان لسحرا ) ومن ذلك أننا نقبل أشياء كثيرة حين تسرد علينا بواسطة التخييل، ربما لا نقبلها فى واقعيتها الخشنة. ومع ذلك فلابد للفتاة أيضا من الاحتراز للأمر. وهنا يأتى دور (اللازمة)، لا لتحافظ على البنية الموسيقية للأغنية، ولكن لتؤكد (المعني) الذى لابد من التأكيد عليه فى أغنيتنا دفعا للظنون: « وانا لا ملت إليه ولا ندهت عليه، هو اللى مال يا امه.. «
ثم تستكمل الأغنية أو الفتاة الماكرة سرد العطاءات العجيبة والمنح الغريبة لهذا الفاعل:
« ضلّل عليّ جناح هفهف شويّه وراح
ولوّن الخدين، بالورد والتفاح
واحترت اقول لّهُ إيه «
كيف يمكن لأحد من كان أن يتخذ موقفا متصلبا ضد هذه الرقة التى تصوغ بها الفتاة ( معاناتها الروحية ) المباغتة.. نعم.. ليست أقل من تجربة روحية ما تتعرض له الفتاة. لعلها منحة اختصتها بها السماء، لا تعرف. إن كل ما تعرفه هو أنها أحست برفيف جناح، أهو جناح طائر؟ أم جناح ملاك؟ « ضلل ، وهفهف شويه وراح « وهذا ينفى بشرية الفعل وتاريخانيته تماما.هكذا تضعنا الحكاية على أعتاب «حلم يقظة « وخيال لا أثر فيه لما فى التجارب الواقعية من خشونة أو قبح. فهل نريد دليلا على براءة التجربة أكثر من ذلك؟ هل تريد الأم دليلا على براءة (جوهرتها المصونة) أكثر من ذلك؟ فلم يفعل الملاك أكثر من انه « ضلل» بما تستدعيه هذه المفردة من شعور بالأمان فى الخبرة الشعبية، و « رفرف شوية وراح « ومع ذلك فقد ترك أثر نعمته على الفتاة التى فوجئت بعد رواحه بخديها وقد تلونتا بالورد والتفاح.. إنه الربيع أيضا، وقد كساها بالحياة حتى تفجرت أنوثتها وطابت وأثمرت وردا وتفاحا. فهل كان بوسعها – بعد ذلك – أن تقول شيئا أو تفعل شيئا سوى الامتنان الذاهل والصامت تجاه ذلك (الطيف ) الذى لم تكد تراه؟ « احترت اقول له إيه! «
لا أظن أننا فى حاجة – بعد ذلك - للحديث عن مجرد ( وجود الصورة الشعرية ) عند مرسى جميل عزيز. وقد عشنا فى ظلالها ولمسنا بخيالنا ووجداننا تلك ( الخبرة ) الطازجة، وما تزخر به من خيال أصيل ينتمى إلى ( إنسان )، فى بيئة محددة، تحكمه قوانين اجتماعية صارمة، لا فكاك منها سوى بالفن والشعر، فضلا عن قدرة هذا الخيال على إنتاج دلالة بعينها، سنرى بعد قليل كيف يوظفها النص بدهاء شديد لخدمة دلالة أوسع وأشمل لا تكتمل إلا باكتمال النص ذاته.
وهذه ميزة أخرى تتميز بها أغنيات مرسى جميل عزيز، وأعنى بها وجود أكثر من مستوى للدلالة، وأكثر من طبقة للمعنى تتجادل جميعها داخل النص، وتتبادل التأثير فيما بينها، وينور بعضها بعضا مع توالى النص حتى اكتماله.
إلى هنا يمكن القول إن الفتاة قد نجحت – فى رأينا – فى تقديم دفوعها ومبرراتها التى نظنها قوية الحجة على براءتها، وعلى شرف التجربة وجمالها، وسمو الطرف الآخر فيها، وهو الذى لم أستطع – حتى الآن – أن أسميه فهو « الهوى « أو « الهوا « فى إطلاقه ولا محدوديته وهو من لا تعرف له مكانا محددا. ربما كان هو « الليل « نفسه الذى كحل العينين، هو طائر الربيع الموكل – فيما يبدو – بتفجير أنوثتها. هو البراح الفسيح الذى تلتقى فيه بذاتها بعيدا عن صرامة القوانين وضيقها. هو الحب، تتفتح عليه وتتنسم عطوره، هو الحب الشامل الذى تتوق إليه الإنسانية، وتسعى إليه ليخلصها من الألم..
ولكن هذا ليس كل شيء، فما زالت الأغنية تدخر لنا بعضا من فيضها الشعرى والدلالي، تسوقه أمامها من مقطع لآخر:
« يا خوفى يا امه يعود ، يطلب عيونه السود
ويطلب التفاح، والورد من ع العود
واحتار اقول له إيه «
ما الذى تصنعه الماكرة الصغيرة بالضبط؟ وهل من المتصور بعد أن أدخلت (أمها، المخاطب المعلن) و (ثقافتها، المخاطب الضمني) فى عمق تجربتها الروحية التى لا شائبة فيها، وجعلتها تلمس – كما لمسنا نحن – شرف وجمال تلك التجربة الفريدة، وتشهد بنفسها مدى ما يتمتع به ذلك ( الفاعل الغيبي، خراط البنات ) من قدرة على المنح والعطاء لا أظنها تتوفر لبشرى من لحم ودم. هل يتصور بعد كل هذه الاستمالات العاطفية الماكرة، والدفوع التى تلين الحجر أن تتحجر الأم وترفض أن ترد الحقوق لأصحابها حين يأتون لطلبها؟ الإجابة بكل تأكيد: لا يمكن.
وهذا ما كانت تسعى إليه الحكاية منذ البدء . فها هى الفتاة وكأنها تضع الإجابة بالموافقة على لسان الأم، التى بالطبع (ما يخلصهاش ) بعد ان أُخذت بسحر الحكاية أن تأكل حقوق الآخرين، أوأن ترد الإحسان بالإساءة، وسوف تقول لفتاتها: لا تحتارى حينما يأتى ليطلب (عيونه السود ) أليست عيونه، وهو من سرق سواد الليل وكحلها !؟.. إنها لم تنس قول فتاتها: « فات الهوى ع العين ما اعرفش جالها منين سرق سواد الليل وكحل الجفنين « كذلك ستوافق الأم وترحب بالطبع عندما يأتى طالبا «الورد من ع العود»، ألم يكن هو الذى لون الخدين بالورد والتفاح؟ أظنها ستقول لفتاتها: عندما يأتى سأوافق على الفور، فنحن أصلاء، نحفظ الجميل، فلا تحتارى وسأرد أنا عليه وأعطيه ما يطلب . وسوف تتغاضى الأم، فى فورة حماسها، عن المغالطة الموجودة فى الحساب، والتى لابد قد انتبهت إليها فى كلام ابنتها الأخير، والتى وشت برغبة الفتاة فى إعطاء الطالب أكثر مما أعطي، ألم تقل الفتاة من قبل إنه ( لوّن الخدين - فقط – بالورد والتفاح ) بينما إشارتها الأخيرة تقول إنه ( سيطلب التفاح و الورد من ع العود )؟!.. على العموم سوف لا تمانع الأم فى إعطاء هذه الزيادة، وقد امتلأت بحلم ابنتها، لأنه لا يهمها – بكل تأكيد – سوى أن ترى ابنتها ( متهنية فى بيت ابن الحلال اللى يسعدها ). والذى ألمحت الفتاة لقرب مجيئه. وفهمت الأم.
يمكننا هنا ملاحظة ذلك الترابط الذى يصل بين نصوص مرسى جميل عزيز بعضها ببعض، فالفتاة هنا تصلح تماما لأن تكون فتاة «ياامه القمر ع الباب»، كما تصلح أيضا لأن تكون فتاة « أما براوة « على الرغم من الفارق بينهما. هنا وهناك يمكننا أن نضع أيدينا على أحلام بالزواج، انتظار، مكر وتحايل من أجل تحقيق الأحلام، كما نلمح نوعا من مثلنة ( جعله مثاليا )هذا الخطيب والزوج المنتظر، والاستباق إليه إما بمحاولة استمالة الأم ووضع الخطيب فى حيز الاحتمالية و التحقق كما فى « ياامه القمر ع الباب « ومال الهوى ياما « وإما عن طريق الاستباق إليه وملاقاته فى حلم يقظة كما فى « أما براوة «. كذلك تقوم هذه النصوص على فكرة السرد الحكائى وتأليف حبكات صغيرة تنمو خلالها المعانى بشكل حوارى درامي، غير مباشر، مع قدرة النصوص على تخليق شخصيات مركبة تتجلى من خلالها الثقافة المحيطة والسائدة، والتى على خلفيتها ينهض الحوار بين الفتاة وأمها، فى « ياامه القمر ع الباب» و «مال الهوى ياامه « وبينها وبين نفسها فى « أما براوة «.
نحسب لهذه النصوص أيضا أنها نجحت فى تشكيل نوع من المفارقة، إذ قدمت نفسها فى شكل المونولوج، والحديث المنفرد، بينما نجحت على مستوى أعمق فى أن تكون ديالوجا، أو حوارا متعدد الأصوات، بعد أن استطاعت إدخال الثقافة كطرف فاعل فى الحوار ، وإن لم تسم هذه الثقافة بشكل صريح ومباشر فى النصوص.
رابط دائم: