«الحقيقة هي أن الإسلام لا ينتمي لنا. أنه يجلب العنف والخطر في كل مكان. نحتاج إلى التخلص من الأسلمة وإغلاق حدودنا»، وهذا ما قاله زعيم حزب الحرية اليميني القومي الهولندي جيرت فيلدرز، المعادي للإسلام والهجرة، والاتحاد الأوروبي وسط هتافات أنصاره، مرددا شعاره: «فلنجعل هولندا للهولنديين».
فيلدرز، الذي جاء ثانيا في الانتخابات العامة الهولندية ونال 20 مقعدا وهي أفضل نتيجة يحققها حزبه، يستطيع نظريا المشاركة في الحكومة المقبلة، لكن عمليا لن يتمكن من هذا. فتاريخيا تتشكل الحكومات الهولندية من إئتلاف من الأحزاب. وليس هناك حزب في هولندا يريد العمل مع فيلدرز.
ومع ذلك فإن خطره على هولندا وعلى كل أوروبا لا يمكن التقليل منه. فتأثيره أوروبيا في تزايد، وشعبيته في تصاعد، وأفكاره باتت تجد صدى حتى لدى أحزاب يمين الوسط في أوروبا، من فرنسا إلى الدنمارك، ومن بلجيكا إلى المانيا، ومن بريطانيا إلى السويد. فقد أستطاع خلال سنوات قليلة أن يحول الإسلام إلى قضية انتخابية في أوروبا، يجمع حولها طيفا واسعا من المتطرفين والمؤمنين بسمو الجنس الأبيض والقوميين المتشددين وحتى الناس العاديين الذين يعتقدون أن الإسلام يشكل خطرا على الهوية الأوروبية. كما دفع أحزاب الوسط الهولندية إلى النظر بعين أكثر انتقادا للمهاجرين والهجرة، والاختلافات الثقافية، وإشكاليات الهوية.
المقربون من فيلدرز يهونون من شأن احتمالات عدم قدرته على المشاركة في أي حكومة ائتلافية مقبلة، مشددين على أن ما أراده كان بالأساس دفع تلك القضايا لصدارة النقاش العام في هولندا وأوروبا. وهو ما حدث، فرئيس الوزراء الهولندي مارك روتي، الذي فاز حزبه الليبرالي بـ31 مقعدا في الانتخابات، انتهج في رسالة نشرها في كل الصحف اليومية الهولندية موجهة إلى «جميع الهولنديين»، لهجة أشد صرامة إزاء المهاجرين الذين لا يندمجون في المجتمع، متحدثا عن الفروق بين «الممارسات الطبيعية التي تنتمي للمجتمع الهولندي»، والممارسات غير الطبيعية، مشيرا إلى إساءة استغلال الحرية من قبل بعض المهاجرين، والتحرش الجنسي، وفصل النساء عن الرجال، والتمييز ضد معتقدات الآخرين، والسكوت على خطاب الكراهية، مختتما خطابه بتلك الرسالة التحذيرية للمهاجرين:»كونوا طبيعيين أو ارحلوا». أما اديث شيبرز وزيرة الصحة والرعاية الأجتماعية وعضو الحزب الليبرالي الحاكم فقد تحدثت عن ضرورة تكوين «ائتلاف واسع من أنصار الحرية ضد الاسلام السياسي».
بعبارة اخرى، لقد نجح فيلدرز في جعل الخطاب حول الاسلام في هولندا وجانب من الرأي العام الأوروبي إقصائيا وصداميا بين «ما نمثله» مقابل «ما هو دخيل علينا»، و»ما هو طبيعي» مقابل «ما هو غير طبيعي»، و»الذين ينتمون للإطار الثقافي الأوروبي» مقابل «الخارجين عن الاطار الثقافي الأوروبي». وبينما باتت المزيد من الأحزاب في هولندا وأوروبا تتحدث عن مشكلة المهاجرين والإندماج بتأكيد أن المشكلة ليست في الإسلام كدين، بل في التعصب وضعف الاندماج، والتمييز والراديكالية، يصر فيلدرز على أن المشكلة ليست في المسلمين الذين يشكلون نحو 4% من تعدد الهولنديين، وإنما في الاسلام نفسه، متحدثا عن معتقدات التضييق على الحريات الفردية، وحرية التعبير، والاعتقاد، والمساواة بين الرجال والنساء. فبحسب ما يرى يمكن لهولندا أن تتعايش مع المسلمين، لكن لا يمكن لها أن تتعايش مع الإسلام. وهو يريد وقف اسلمة هولندا، ومنع انتشار القرآن الكريم، و»جعل هولندا للهولنديين». وخلال العام الماضي ادين بالتحريض على التمييز العنصري عندما قال إنه يريد أن يقلل أعداد المغاربة في هولندا. وكان رده على الاتهامات: «المغاربة ليسوا عرقا والذين ينتقدون المغاربة ليسوا عنصريين».
من الصعب ربط القبول الذي تقابل به رسالة فيلدرز حيال المهاجرين في هولندا، خاصة المهاجرين المسلمين بالوضع الاقتصادي. فصعود الحركة القومية البيضاء في هولندا غير مرتبط بشكل أساسي بأي تحديات اقتصادية تواجهها هولندا. فبكل المعايير الأداء الاقتصادي الهولندي أفضل كثيرا اليوم مما كان عليه قبل 15 عاما مثلا. فالاقتصاد الهولندي يحقق نموا متواصلا منذ نحو ثلاث سنوات، ونسبة النمو الاقتصادي حاليا 2.5%، أي أسرع وأعلى من نسب النمو في باقي دول الاتحاد الأوروبي وفي أمريكا، والبطالة منخفضة، فيما ساعد انخفاض سعر اليورو على تعزيز الصادرات الهولندية. إذا لم يكن الأقتصاد هو السبب في تزايد العداء للمهاجرين والإسلام؟. فما هو السبب وراء الغضب والاحتقان الذي يعتري هولندا؟
الإجابة: أنها الهوية يا غبي.
فهولندا التي يبلغ عدد سكانها 17 مليون نسمة هي واحدة من أكثر الدول كثافة سكانية في العالم. وحدها تايوان التي تصغرها في المساحة ولديها عدد سكان أكبر. وبسبب الكثافة السكانية العالية، وقلة الأراضي، وقلة الموارد الطبيعية، وصعوبات الاندماج أصبحت الهجرة موضوعا سياسيا ملحا. فلدي هولندا نسبة كبيرة من المهاجرين. ويقدر مركز الإحصاءات الأوروبي (يوروستات)، نسبتهم بنحو 21% من السكان أغلبهم من المهاجرين الأتراك والمغاربة والعراقيين، والاندونسيين، والصينيين. إضافة إلى المهاجرين الجدد القادمين من الدول حديثة الانضمام للإتحاد الأوروبي.
وأي هجرات من دون اندماج هى وصفة للمشاكل والإضطرابات. وهذا ما يحدث اليوم في هولندا، فالكثير من هؤلاء المهاجرين الذين أتوا بعد الحرب العالمية الثانية، وخلال الستينيات، ثم التسعينيات من الأتراك والعرب، على رأسهم القادمون من بلاد المغرب العربي ما زالوا يعيشون في جيتوهات معزولة خانقة مزدحمة، مع ارتفاع كبير في البطالة وضعف مستويات التعليم، وتدهور درجات الاندماج.
وفي تقرير حكومي هولندي صدر عام 2011، أظهرت الإحصاءات انه تم اعتقال نحو 40% من المغاربة الهولنديين الذين تتراوح اعمارهم بين 12 عاما و24 عاما لإرتكابهم جرائم ومخالفات جنائية. كما أن هناك صعودا في الميول الراديكالية ودعم تنظيمات متطرفة عنيفة مثل «داعش». وهذا شئ ليس حكرا على هولندا. فأجمالا غادر أكثر من 5000 مسلم أوروبي أوطانهم في أوروبا للإنضمام إلى التنظيم في سوريا والعراق، بينهم نحو 1700 من فرنسا، و2400 من روسيا، و760 من بريطانيا، ونحو 500 من بلجيكا.
صعوبات الإندماج هذه تترافق مع ارتفاع معدلات المواليد بين المهاجرين المسلمين، وتمركزهم في مناطق محددة، فنحو 25% من سكان امستردام وروتردام من المسلمين. ومقابل ارتفاع معدلات المواليد وسط المهاجرين الأتراك والمغاربة، هناك تراجع كبير في معدلات مواليد الهولنديين. وهذه ظاهرة مألوفة في أوروبا. فإنخفاض نسبة معدلات المواليد لدى الأوروبيين وعدم التوازن الديموجرافي يخيف الكثير في الغرب. ومن هؤلاء النائب الجمهوري في الكونجرس الامريكي ستيف كينج الذي غرد برسالة دعم لفيلدرز كانت كاشفة عن مقدار القلق من عدم التوازن الديموجرافي. فقد قال كينج في رسالته:»لا يمكننا ترميم حضارتنا بالاطفال الذي يلدهم الأخرون»، مضيفا:»فيلدرز يفهم أن الثقافة والتركيبة السكانية هى مسألة مصيرية».
لاحقا شرح كينج لـمحطة «سي ان ان» الامريكية ماذا كان يعني بالضبط قائلا:»نحن نحتاج إلى أن نرفع معدلات المواليد لدينا وإلا ستتغير أوروبا كلها خلال نصف قرن أو أكثر قليلا. جيرت فيلدرز يدرك هذا». تعليقات كينج أثارت ردود أفعال غاضبة في وسائل التواصل الاجتماعي وإدانة من الديمقراطيين في الكونجرس، إلا ان الجمهوريين وإدارة دونالد ترامب تجنبا التعليق عليها في مؤشر آخر على العلاقات المتنامية بين الحركات القومية البيضاء في أوروبا والجناح اليميني في الحزب الجمهوري الامريكي. ومع الدعم الذي يلقاه فيلدرز داخل اوروبا وعبر الأطلنطي، باتت وسائل الاعلام الهولندية أكثر من أي وقت مضى تناقش قضايا الاسلام والاندماج والراديكالية والعنف.
تصويت بريطانيا بالخروج من الاتحاد الأوروبي، الذي هو بمثابة طعنة في مشروع الأتحاد الأوروبي، جعل هجوم فيلدرز على المهاجرين وسياسة الأبواب المفتوحة لأوروبا أكثر صخبا. فهو يعارض انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي، وانتقد سياسات التقشف الاوروبية، ويريد خروج هولندا من اليورو، ويعارض حرية الانتقال والحركة «التي تسمح للعمالة الأوروبية بالاستمتاع بوجبة غداء دائمة مجانية على حساب الهولنديين». وينتقد «دولة أوروبا العظمي»، قائلا أنه «بفضل ذلك النادي في بروكسل، تتحول أوروبا بسرعة إلى أور-عربيا»، وهو تعبير بات اليمين القومي الأوروبي يستخدمه للتحذير من خطر أسلمة المجتمعات الأوروبية.
المسلمون في دول الاتحاد الأوروبي يبلغ عددهم نحو 20 مليون نسمة، أي نحو 5% من السكان، وهم بهذا المعيار أبعد ما يكونون عن «غزو» إوروبا وتحويل القارة إلى معقل للمسلمين كما يلوح اليمين المتطرف في أوروبا. لكن مشكلة المسلمين تظل في الجيتوهات التي يفضل الكثير منهم التمركز فيها ما يعمق مشكلة الاندماج. ففي بريطانيا مثلا تشير التقارير الحكومية إلى ان المسلمين يتمركزون في مناطق معينة، وأقل اندماجا مع المجتمع اليوم مما كانوا عليه قبل 15 عاما. وفي فرنسا باتت هناك في بعض المدن أسوارا وحوائط حقيقية مشيدة بين المناطق التي يسكنها الفرنسيون والمناطق التي يسكنها المهاجرون المسلمين مثل مدينة بدوا الفرنسية.
يدرك فيلدرز أنه بغض النظر عن نتائج الانتخابات الهولندية فإن حظوظه في المشاركة في تشكيل الحكومة الجديدة معدومة. فلا أحد وسط الأحزاب الهولندية يريد تعزيز علامته التجارية السياسية المتطرفة. فهذا أمر بالغ الخطورة يهدد التسامح والتعايش في هولندا وفي كل أوروبا.
صحيح أن هناك جيتوهات لمسلمين يعيشون في أوروبا منذ عقود، والكثير منهم يفضل الإنعزال ثقافيا والانغلاق اجتماعيا وعدم الاندماج والمشاركة سياسيا، لكن هذه قضية سياسية. وربط فشل محاولات الاندماج بالاسلام كدين ليس الرد الصحيح على مشكلة اندماج بعض المسلمين في أوروبا. فأغلبية المسلمين مندمجيون في المجتمعات التي يعيشون فيها، والأقلية غير المندمجة لا يجب ان تصبح صورة الإسلام وصوته في الغرب، لان هذا لن يؤدي إلا إلى تغذية تيارات اليمين القومي التي بدأت تتمدد في أوروبا، من فيلدرز نفسه في هولندا إلى مارين لوبان في فرنسا، ونايجل فاراج في بريطانيا، انتهاء بفروك بيتري في المانيا.
رابط دائم: