قد يتمتع صاحب العقل التقليدى بالموسوعية من حيث سعة الاطلاع وغزارة المعلومات التى يعرفها، وقد يتسم صاحبه أيضًا بالمنطقية فى التفكير، والعرض المنظم للأفكار، والذكاء المرتفع،
وقد يحصل صاحبه على أعلى الدرجات فى الامتحانات التحصيلية فيوصف بالتفوق ويحصل على جوائز التميز.. إلخ، لكن إمكانية أن يصبح صاحب هذا العقل التقليدى مبدعًا أو صاحب إنجازات جديدة ومفيدة متميزة هو أمر قد يكون صعب المنال هنا. وهكذا ينبغى لنا أن نقوم بالتمييز هنا بين عقلين مهيمنين على عمليات التربية والتعليم فى الوطن العربى - وربما على عمليات التفكير العام فيه أيضًا - وهما: العقل الرابض، أو الراكد، و العقل المحلق، وذلك كى نميز بين العقل الذى يظل فى موقعه فى مقاعد الدراسة أو الحياة ينتظر المعلومات كى يستوعبها من أجل استهلاكها فى الامتحانات أو فى موقف من مواقف الحياة، ثم ينساها، بعد ذلك، ومن ثم يكون أقرب إلى الاتباع، وذلك فى مقابل العقل الذى يبحث هنا وهناك عن كل ما هو جديد ومفيد ومن ثم يكون أقرب إلى الابداع.
يكمن العقل الرابض، أو الراقد، أو الراكد، سمة ما شئت مكانه، مثل حيوان قوى محبوس فى قفص، ينتظر أن تلقى إليه الأطعمة فيأكلها بشهية أو دون شهية عالية، يتحرك قليلا ثم يربض، إنه يمشى قليلا ويقعد، وينتظر، محبوسًا فى قفصه حتى تأتى إليه الحلول، إنه رمز من رموز العقل التقليدى المغلق النهايات، أما العقل المحلق فهو مثل طائر حر، يجتاز الفضاء، يذهب هنا وهناك، ومملكته الكون كله، وهو رمز من رموز الخيال المتجدد المنفتح.
لا بد أن يتعلم الطالب المواد الضرورية، وحسب مراحل عمره؛ لا بد أن يتعلم القراءة والحساب واللغة والمواد الأخرى حسب المراحل الدراسية المعروفة، ولكن هذا التقديم لهذه المواد وحده هكذا، ليس كافيًا. فلا بد أن تزود البرامج الدراسية وتثرى بالمكون الضرورى الآخر المفقود فى التربية، ألا وهو المكون الخيالي، ولا بد للتلميذ أو الطالب أن يتمكن من التفكير بالطريقتين معًا، الطريقة المألوفة والطريقة غير المألوفة - أو الخيالية - وحسب الموقف والعمر، أما الاقتصار على تعليم التفكير بالطرائق المألوفة فقط فهو أصل البلاء.
تكون المعلومات القديمة المألوفة المعروفة، والتى يمكن اكتسابها من خلال التعليم خاصة بآخرين، تنسب إلى أصحابها: المعلم والكتاب والحاسوب.. إلخ وكل من يقدمها جاهزة للطلاب، لكن تجميع هذه المعلومات معا ثم التفكير فيما يتجاوزها، ما يوجد وراءها هو أمر خاص بالطالب ذاته، بالإنسان نفسه – جزء من حياته، جانب يتجاوز به القصور الذاتى فى التفكير الخاص بجوانب المعرفة المألوفة والمعروفة، حركة لا تتم إلا بالوعى بجوهر الخيال، الخيال الحر المنطلق العابر للحدود، المتجاوز لأسر الراهن وقيود الحاضر والمتجه دوما إلى المستقبل، إنه خيال لا يكف أبدًا عن النظر وإعادة النظر فيما هو داخلى وما هو خارجي، وله وجه يانوس إلى البوابات فى الميثولوجيا الرومانية، بنظرة يعرف الداخل من الباب، يعرف الخارج منه وبنظرة ثالثة يجمع بينهما فى «بوتقة الخيال العليا»، إذا استخدمنا لغة المخرج المسرحى الفرنسى جاك ليكوك.
هكذا ينبغى التحذير هنا مما يسمى بالتعليم الزائد over teaching حيث تم التركيز مع دخول الأطفال إلى المدارس على تعليمهم الحساب والقراءة والكتابة والمعلومات الدراسية الأخرى ويتم ذلك بطرائق تقليدية غير جذابة، وفى بيئات غير جذابة من حيث تكدس الفصول، والمعلمين غير المؤهلين أو المكتئبين أو العدوانيين، ومن حيث غياب عمليات التنشيط للنصف الأيمن من المخ، ومن ثم إهمال الاهتمام بالتنشيط لوظائف التفكير بالصورة والمجاز والخيال والإبداع والانفعال والحركة عبر الزمان والمكان والحس الاحتمالى الترجيحى غير القطعى أو الجامد أو الجازم أو المتمركز حول فكرة واحدة وشخص واحد، فى حين يتم التركيز على أنشطة النصف الأيسر من المخ على الأفكار المتتابعة المتسلسلة التى لا تحمل فى طياتها سوى احتمال واحدً وإجابة واحدة ومن ثم فهى تنطوى على تفكير فى نسق مغلق، وتعمل على الإنتاج لمواطنين مقولبين معلبين غير قادرين على الخيال والإبداع.
لا يعمل المخ البشرى بطريقة «إما أو، «أى لا يعمل من خلال النصف الأيمن الخاص بالصور والخيال والانفعال فقط، ولا من خلال النصف الأيسر الخاص باللغة والتتابع والمنطق فقط، بل يعمل المخ البشرى بطريقة متكاملة، والمهم أن تركز البرامج التربوية على هذا التكامل من خلال التنشيط لمراكز الصور والخيال والانفعال مثلما تهتم بتنشيط مراكز اللغة والتتابع المنطقى بداخله.
هكذا يكون الخيال فى ضوء التصور الحديث له هو «العقل كما يعمل فى أحسن حالاته كفاءة وإثارة وقوة»، وهو عقل لا يتناقض مع العقل المنطقى الذى نعرفه؛ بل هو طاقة أو عملية حرة تكون فى خدمته، شريطة ألا تكون هذه العملية، فى كل حالاتها، نشيطة تحت رقابة العقل، كما تصورها كانط أحيانًا، ولا أن تكون متناقضة متضادة معه كما تصورها معظم الرومانتيكيين غالبًا، بل هى عملية تتكامل مع العقل، عملية تسهم فى إثرائه وفى تحقيقه أهدافه، لكنها لا ينبغى أن تكون متهيبة دائمًا من عقابه لها، لو خرجت على الإطار الذى يحدده هذا العقل لما ينبغى أن يكون وما لا ينبغى أن يكون.
الجدير بالذكر أنه توجد مراكز ومؤسسات علمية وبحثية كثيرة تهتم بالموهوبين والمبدعين فى الوطن العربى ، شرقًا وغربًا، ولكن ما يلاحظ على هذه المراكز والإدارات والمؤسسات وغيرها أنه لا يوجد إطار تنظيمى يجمعها معًا أو يوضح طبيعة العلاقة التفاعلية الموجودة بينها – إن وجدت – ومن ثم فالأمر يدعو هنا إلى ضرورة وجود شبكة ثقافية للمؤسسات والمشروعات العربية المهتمة بالموهبة والإبداع على مستوى الوطن العربي، ويتم بناؤها على الأسس نفسها التى تبنتها بعض الدول مثل المملكة المتحدة واستراليا ونيوزيلنده وسنغافورة، فى تكوين ما يسمى بالخرائط الثقافية Cultural Maps وحيث تكون هناك خريطة الكترونية ذات موقع جيد التجهيز يحدد كل الأنشطة والمؤسسات والأعمال والعلاقات الثقافية الاقتصادية الموجودة فى منطقة معينة (مدينة، محافظة، دولة ..إلخ)، وكذلك على المستوى الوطنى والقومي، وتتولد عن مثل هذه الخرائط حالة من الوعى الأساسى والمعرفة بالمتاح من المواقع والأنشطة فى مكان معين وكذلك كيفية تيسير التواصل بين هذه المواقع والتطوير للصناعات الثقافية الإبداعية بشكل عام.
ونحن نفترض أن مثل هذه الخريطة قابلة للتطبيق أيضًا فى مجالات الموهبة والإبداع على مستوى الوطن العربي، كما نفترض أيضًا أنها يمكن أن تكون أشبه بالمشروع الذى يرتبط بالتنمية البشرية من ناحية، ويرتبط كذلك من ناحية أخرى بالصناعات الثقافية والإبداعية فى مجالات مثل الفنون البصرية (الرسم والتصوير والفنون التشكيلية والنحت والعمارة والحفر على الخشب والمعادن) والفنون الأدائية (المسرح والسينما وفنون التحريك والموسيقي) وفنون التليفزيون والإعلانات، وأيضًا فنون الأزياء والحرف الشعبية والخزف والبورسلين وفنون الوسائط والبرمجيات وفنون الكتابة (القصة القصيرة والمسرح والرواية ...إلخ) وفنون النشر والكتاب، مع ربط ذلك كله بعمليات التعليم والتطوير له من خلال ما أسمته منظمة اليونسكو فى تقريرها الأخير حول الصناعات الثقافية الإبداعية بالإبداع القائم على أساس الثقافة Cultural-based Creativity (CBC) وحيث يكون الإبداع هنا أداة قوية للدمج بين الثقافة بكل ما تشتمل عليه من تراث وأساليب حياة وإبداعات، وبين التعليم بكل ما يشتمل عليه من فرص واحتمالات، ثم بين الثقافة والتعليم والصناعات الثقافية الإبداعية باعتبارها مجالاً مهمًا لتبنى وتطوير الأفكار والاستعارات والرسائل الإبداعية الفردية والجماعية بطرائق وأساليب جديدة ومفيدة.
> كلمة ألقيت فى الندوة الإقليمية التى عقدت حول «إعادة التفكير فى التربية والتعليم» وقامت بتنظيمها منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو) بالتعاون مع وزارة التربية والتعليم بجمهورية مصر العربية وكذلك المجلس التخصصى للتعليم والبحث العلمى التابع لرئاسة الجمهورية.
رابط دائم: